شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
 دليل الناقد السوري البائس بعد سقوط الأسد

 دليل الناقد السوري البائس بعد سقوط الأسد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الاثنين 10 فبراير 202510:50 ص

في سوريا ما بعد الأسد، كان الحلم بسيطاً: حرية، كرامة ودولة قانون. لكن سرعان ما تحول هذا الحلم إلى كابوس أكثر تعقيداً، إذ إنك بمجرد أن تنتقد الوضع الراهن تجد نفسك محاصراً بين مطرقة "الاستحمار السياسي" وسندان التشبيح الجديد.

في البداية، كانت الآمال كبيرة. ظنّ الجميع أن الانتصار على الديكتاتورية يعني بداية عهد جديد من المحاسبة والشفافية، لكن ما حدث في الواقع كان استبدال قمع النظام بفوضى أصوات تدافع عن كل أخطائها بشراسة، وأي محاولة للنقد تُعتبر خيانة للوطن، أو عمالة للغرب، أو تمهيداً لانقلاب جديد.

ما هو الاستحمار السياسي؟

الاستحمار السياسي هو مصطلح ساخر يعبر عن تلك العقلية التي ترى النقد جريمة، والتعبير عن الرأي فتنة، والحرية مفهوماً "أوروبياً" لا يصلح لشعوبنا. أبطاله من الأشخاص الذين وجدوا في مواقع التواصل الاجتماعي مسرحاً مفتوحاً لإطلاق شعاراتهم واتهاماتهم لكل من تسوّل له نفسه أن يقول: هذا خطأ

مهام أبطال الاستحمار السياسي:

الدفاع الأعمى عن كل تصرف فوضوي أو كارثي في سوريا الجديدة.

تحوير النقاشات لتبدو كأنها هجوم شخصي على الوطن أو الدين.

توزيع الاتهامات الجاهزة بالخيانة والجبن والعمالة، غالباً دون أدنى معرفة بالموضوع المطروح.

والمثير للسخرية أنهم لا يعملون مقابل أجر، بل تدفعهم عقيدة غريبة مفادها أن "النقد هو مؤامرة"

الاستحمار السياسي هو مصطلح ساخر يعبر عن تلك العقلية التي ترى النقد جريمة، والتعبير عن الرأي فتنة، والحرية مفهوماً "أوروبياً" لا يصلح لشعوبنا

المعزوفات المكرّرة في عصر الفوضى

ع زمان الأسد وين كنتوا؟

هل جرّبت يوماً التعبير عن استيائك من غياب الأمن أو انتشار الجريمة؟ ربما كتبت تعليقاً بسيطاً مثل: "هل يعقل أن تُسرق سيارة في وضح النهار دون أن يتحرك أحد؟". حسنًا، استعد للرد الأيقوني: "ع زمان الأسد كنت تفتح تمك؟"

الإجابة المنطقية هي: لا، لم أكن أفتح فمي وقتها لأنني كنت أخاف أن ينتهي بي الأمر في زنزانة مظلمة، "وماحدا يقلي منان هنت".

 لكن دعونا لا ننسى، نحن الآن في عصر من يحرّر يقرّر، ومن الواضح أن ما قرّره مناصرو المحرّرين الجدد هو استبدال قمع الأصوات بقمع الأفكار.

من الغريب أن المدافعين عن الوضع الراهن لا يرون أن المشكلة في المقارنة نفسها، فهم يعتبرون أن القمع السابق كان معياراً جيداً للصمت الحالي. الفكرة هنا ليست تحسين الوضع، بل إسكات الأصوات لأننا كنا صامتين في الماضي.

إذا أردت النجاة، عزيزي القارئ، تعلم أن تنتقد بحذر، أو ببساطة اصمت، لأن الصمت كما يبدو هو اللغة الوحيدة التي لا تستفز أحداً في سوريا اليوم.

بدنا دولة إسلامية

في المشهد الجديد، تجد من يرفعون شعاراً مثيراً للجدل: "بدنا دولة إسلامية". ليس لأنهم بالضرورة يدركون معنى هذا الشعار، بل لأنه بالنسبة لهم مجرد رد على كل من يطالب بدولة مدنية.

تخيل أنك تتحدث عن أهمية فصل الدين عن السياسة في بناء دولة متماسكة، فيأتيك الرد: "إنت علماني كافر، والبلد لازم تمشي على الشريعة".

الأكثر إثارة هو أن هذه الشعارات لا تُرفع لمناقشة قضايا فعلية، بل كأداة لإقصاء الآخرين. حتى النقد الهادئ يُعتبر في نظرهم "محاربة لله ورسوله".

أو مثلاً تخيل أنك شاهدت مقطع فيديو لداعية يتجول في حي مليء بمسيحيي سوريا، يدعوهم علناً لاعتناق الإسلام ويصفهم بالكفار.

أنت، كمواطن يرفض هذه الفوضى، قرّرت التعليق على الفيديو لتقول إن هذا السلوك غير مقبول. الرد: "أنت كافر، جاييك الدور".

هل حقاً انتهت مشاكل سوريا لدرجة أن حملات التكفير باتت هي الحل؟ يبدو أن هؤلاء يظنون أن كل من يختلف معهم يستحق المحاكمة أو الطرد من البلاد.

هلق صرتو تحكو؟

هذا الرد يُعتبر العلامة المسجلة للاستحمار السياسي. إذ إنه يستخدم كوسيلة للتذكير بأن الجميع كانوا صامتين في الماضي، وبالتالي لا يحق لأحد أن يتحدث الآن.

لكن دعونا نسأل: إذا كنا قد صمتنا في زمن الأسد خوفاً من الزنازين والتعذيب، أو حتى خوفاً من أيّ استجواب يتمّ في أي فرع من أفرع الأمن، فلماذا يُطلب منا الآن أن نصمت خوفاً من الشتائم والتهديدات؟ هل حقاً الحرية التي دفعنا أثماناً باهظة للحصول عليها تعني صمتاً جديداً؟

الردود الجاهزة أسلحة السخرية

لتكتمل الصورة، إليك مجموعة من الردود "الجاهزة" التي يمكنك توقعها إذا قررت يوماً الدخول في نقاش عام:

الحرية خربت البلد

نعم، الحرية، تلك الكلمة التي ظلت حلماً لشعب بأكمله، والتّي دفع ثمنها شهداء بلادي وشبابها ونساؤها، وكل من تهجّر منها، وكل من ترك منزله وعاش في خيمة لسنوات طويلة، أصبحت الآن متهمة بأنها أصل كل المصائب. لا كهرباء؟ السبب الحرية. انعدام الأمن؟ أيضاً الحرية.

الغريب أن المدافعين عن هذه الفكرة لا يدركون أن غياب القوانين والمؤسسات هو السبب الحقيقي، وليس الحرية بحد ذاتها، لكن، من يهتم بالمنطق عندما يكون الهجوم أسهل؟

"إنت من وين مفكر حالك؟"

إذا كنت خارج سوريا وقررت أن تعبر عن رأيك، فاستعد لهذه العبارة. لأنك، بالنسبة لهم، فقدت حقك في التعبير بمجرد مغادرتك البلاد.

"الديمقراطية ما بتلبقلنا"

هذا الرد يحمل نغمة من السخرية اللاذعة، حيث يتم تصوير الديمقراطية على أنها فكرة غربية لا يمكن تطبيقها في مجتمعاتنا، وكأن شعوبنا محكومة إلى الأبد بالعيش في ظل الاستبداد، لأننا "لا نفهم الحرية".

في المشهد الجديد، تجد من يرفعون شعاراً مثيراً للجدل: "بدنا دولة إسلامية". ليس لأنهم بالضرورة يدركون معنى هذا الشعار، بل لأنه بالنسبة لهم مجرد رد على كل من يطالب بدولة مدنية

هل المشكلة في الشعب أم النظام؟

المفارقة الكبرى أن هؤلاء الموظفين في قطاع الاستحمار السياسي ليسوا مجرد أفراد عشوائيين، بل هم انعكاس لواقع عام. في سوريا الجديدة، تغيرت أسماء المذنبين فقط، لكن العقليات القمعية ما زالت تسكن كل زاوية من المشهد.

إذا طالبت بالقانون، فأنت "عميل."

إذا دافعت عن الحريات، فأنت "ضد الدين"

وإذا قرّرت الصمت، فأنت "جبان"

تريد الحديث عن القانون؟ لا وجود له

تريد المطالبة بتحسين الخدمات؟ "ع زمان الأسد كان في خدمات؟"

تبحث عن المحاسبة؟ لا تسأل، لأن هذا السؤال وحده قد يدخلك في صراع لا نهاية له.

ما يجعل هذا الواقع أكثر ألماً هو أن السخرية أصبحت الطريقة الوحيدة لفهم ما يجري، فكل نقاش يتحول إلى مهرجان من الشتائم، وكل محاولة للنقد تُقابل باتهامات عبثية.

حتى من يحاول الإصلاح يواجه عراقيل لا نهاية لها، لأن المشكلة ليست في الأفكار فقط، بل في وجود ثقافة عامة تعتبر النقد هجوماً، والحرية خطراً، والمحاسبة حلماً مستحيلاً.

 سوريا في الوقت الحالي ليست دولة، بل فوضى يبدو أنها تسير بلا اتجاه. إذا أردت النجاة، عزيزي القارئ، تعلم أن تنتقد بحذر، أو ببساطة اصمت، لأن الصمت كما يبدو هو اللغة الوحيدة التي لا تستفز أحداً في سوريا اليوم.

ما زال الماضي يطاردنا، والحاضر يعاقبنا، والمستقبل يبدو مجرد حلم بعيد، وبينما تستمر معزوفة "من يحرّر يقرّر" في العزف، يبقى المواطن السوري هو الخاسر الأكبر.

لذلك، إذا أردت أن تبقى سالماً، تعلم فن الصمت، أو كن مستعداً لتلقي السخرية والشتائم، لأن الحقيقة البسيطة هي: في سوريا اليوم، الجميع ينتقد الجميع، لكن لا أحد مستعد لسماع أي نقد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image