شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
بعد أن خذلهم القضاء التونسي... هل تمنح الأمم المتحدة

بعد أن خذلهم القضاء التونسي... هل تمنح الأمم المتحدة "العدالة الانتقالية" لضحايا التعذيب؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

السبت 8 فبراير 202502:14 م

"سقط الدكتاتور... وسقط النظام"، حينها اعتقد التونسيون أنه بسقوط الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، سيُكشف أخيراً عن الوجه المظلم للنظام السابق، بعد إرث ثقيل من انتهاكات حقوق الإنسان.

وبعد سنوات من رحلة البحث عن عدالة تنصف "ضحايا التعذيب" في تونس، لجأت مجموعة من التونسيين إلى الأمم المتحدة، ورفعت شكوى إلى لجنة مناهضة التعذيب ضد الدولة، كـ "أمل أخير" لتحقيق العدالة المنشودة ومحاسبة جلاديهم.

وقُدّمت هذه الشكوى إلى الهيئة الأممية، بدعم من المنظّمة الدولية لمناهضة التعذيب، على خلفية "عدم قدرة الدولة التونسية على الوفاء بالتزاماتها في التحقيق مع مرتكبي جرائم التعذيب وسوء المعاملة، وتتبعهم قضائيا وتعويض الضحايا".

راشد جعيدان... "الشاهد الملك"

جعيدان هو سجين سياسي سابق لدى نظام زين العابدين بن علي، حُكم عليه بـ 26 سنة سجناً و5 سنوات إقامة جبرية، وأطلق سراحه بعد 13 عاماً، وقد تعرّض خلال تلك السنوات لشتى أنواع التعذيب، فضُرب بالهراوات وقُيّد بالسلاسل، كما تعرّض للصعق بالكهرباء، وقلع الأظافر، والكي بالسجائر، ووضع العصي في أماكن حساسة من جسمه، وهو أحد الستة المتقدّمين بشكاية ضد الدولة التونسية لدى الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب في جنيف.

"لا أنتظر سوى اعتراف تونس بتاريخها الأسود"، هكذا يقول جعيدان في حديثه مع رصيف22، موضحاً أن مقاضاة الدولة التونسية أمام الهيئة الأممية هي "الملاذ الأخير" في المحاسبة، بعد أن استوفى المسار القضائي بتونس دون تحقيق أي تقدم في هذا الملف.

وأكد جعيدان أن "مشروع العدالة الانتقالية قد قُبر نهائياً بتونس"، وأن الهدف الرئيسي من هذه الشكوى هو اعتراف الدولة بهذه "المظلمة"، للقطع مع سياسة الإفلات من العقاب، مشدّداً على أن "هـذه المعركة هـي للأجيال القادمة، ويجـب ألا تتكرّر انتهاكات الماضي".

جعيدان هو سجين سياسي سابق لدى نظام زين بن علي، حُكم عليه بـ 26 سنة سجناً، و5 سنوات إقامة جبرية، وأطلق سراحه بعد 13 عاماً، تعرض لشتى أنواع التعذيب، ضُرب بالهراوات وقُيّد بالسلاسل، كما تعرّض للصعق بالكهرباء وقلع الأظافر والكي بالسجائر ووضع العصي في أماكن حساسة من جسمه

في ذات السياق، قال رضا بركاتي، شقيق نبيل بركاتي الذي توفي تحت التعذيب في مركز أمن تابع لمحافظة سليانة (شمال غربي تونس) عام 1987، بأن ملف شقيقه تتابعه الدوائر القضائية المختصة في العدالة الانتقالية منذ عام 2018، ورغم انعقاد 22 جلسة قضائية، إلا أنه لم يصدر أي حكم قضائي بملف شقيقه، أو غيره من الملفات.

وذكر في حديثه أن المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي وقّعت عليها الدولة التونسية تسمح بمقاضاتها أمام المؤسسات القضائية الدولية، بعد تعطّل مسار تحقيق العدالة لأصحاب الحق بتونس.

فشل المسار القضائي 

إيناس لملوم، المستشارة القانونية للمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، أوضحت لرصيف22، أن الشكوى ضد الدولة التونسية تتعلّق بانتهاكها لحق "ردّ الاعتبار" لستّ من ضحايا التعذيب وسوء المعاملة، في فترة الثمانينيات والتسعينيات.

وتابعت: "المنظمـة العالميـة لمناهضـة التعذيـب تمثل سـتة مدعيــن، ينقسـمون إلى ضحيـتي تعذيـب وسـوء المعاملـة وهمـا الناشطان راشد جعيـدان ومحمــد قــصي الجعايــبي، إضافة إلى عائــلات 4 ضحايــا توفــوا جــرّاء التعذيــب، وهــم فيصــل بــركات، رشــيد الشــماخي، ســحنون الجوهــري ونبيــل بركاتــي".

وأشارت لملوم في حديثها إلى أنه "منذ انبعاث الدوائر القضائية المتخصّصة في العدالة الانتقالية في عام 2018، لم تصدر أحكام قضائية تنصفهم وتنصف عائلاتهم، وهو ما يمثل فشلاً للمسار القضائي".

وتعزو ذلك إلى "حركة نقل القضاة وعدم اكتمال تركيبة هذه الدوائر المتخصّصة بسبب عدم تلقي القضاة لتأهيل خاص في العدالة الانتقالية، فضلاً عن تأجيل الجلسات القضائية طوال الأعوام المنقضية، وعن تعمّد مرتكبي الانتهاكات الغياب عن الجلسات، وهو ما يعد ضرباً لمسار العدالة الانتقالية المبنية أساساً على كشف الحقيقة والمحاسبة".

رضا بركاتي شقيق نبيل بركاتي الذي توفي تحت التعذيب في 1987، يقول إنه رغم انعقاد 22 جلسة قضائية منذ 2018 إلا أنه لم يصدر أي حكم قضائي بملف شقيقه أو غيرها من الملفات.

وعن الخطوات القادمة تشرح المستشارة القانونية لرصيف22، أنه بعد تسـجيل الشـكوى مـن قبـل لجنـة مناهضـة التعذيـب، سـتقوم اللجنـة بمخاطبـة الحكومـة التونسـية وإمهالهـا 90 يوماً لتقديم ملاحظاتها.

وفــي حــال أدانــت اللجنــة "الدولــة التونســية" لانتهاكهــا الفصــل 14 مــن اتفاقيــة مناهضة التعذيب، ســيلجأ الضحايا مــرة أخــرى إلى القضــاء التونـسي للحصـول عـلى حقهـم وجبر ضررهم.

إحراج تونس دولياً

وبخصوص دوافع مقاضاة "تونس" بملف ضحايا التعذيب، تعتبر عضو تنسيقية الدفاع عن مسار العدالة الانتقالية سابقاً، نجاة العرعاري، في تصريحها لرصيف22، أن هذه الشكوى هي نوع من الإحراج للدولة التونسية، بعد استنفاذ "أصحاب الحق" جميع الطرق لتحقيق العدالة ضمن محاكم دولتهم، فاللجوء إلى الهيئة الأممية/اللجنة الخاصة بمناهضة التعذيب، يأتي بعد طول مسار التقاضي وتأجيل القضايا باستمرار.

وتوضح العرعاري أن أغلب الدول تتفادى مثل هذه الشكاوى لأنها تمسّ صورتها الخارجية أمام المجموعات الدولية.

وعن تعثّر مسار العدالة الانتقالية في تونس، ترجع محدثة رصيف22 هذا الأمر لـ "غياب إرادة سياسية في معالجة ملف العدالة الانتقالية، وإلى حملات الشيطنة التي أوهمت الرأي العام التونسي بأن حجم التعويضات سيكون عبئاً ثقيلاً على الدولة، وهو ما أثّر سلباً على جميع المساعي لإنصاف الضحايا".

وتضيف في حديثها، أن من "سمات العدالة الانتقالية اعتراف الدولة بالجريمة، والاعتذار عنها، ومن ثم المرور إلى مرحلة المصالحة، فغاية العدالة الانتقالية هي المصالحة وليس الانتقام، وسلم المصالحة يبدأ باعتراف الدولة واعتذارها، وكشف الحقيقة، مساءلة وجبر الضرر وردّ الاعتبار لضمان عدم تكرارها، وهكذا تتم المصالحة الوطنية عبر تصالح الضحايا مع مؤسسات الدولة ومع ماضيه".

إحباط ويأس

من جانبها، ترى نجاة الزموري، نائب رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، في حديثها مع رصيف22، بأن "مقاضاة ضحايا التعذيب للدولة التونسية أمام الهيئة الأممية تعكس حالة من الإحباط لضحايا التعذيب وعائلاتهم، بعد مرور سنوات من المماطلة وعدم اعتراف الدولة التونسية بجرائم الماضي".

وتضيف: "تعطل قطار العدالة التونسية في تونس، دفع بهم إلى البحث عن العدالة خارج أسوار بلدهم، معتبرة أن خطوة الشكوى الأممية هي خطوة مهمة في مسار العدالة، لكنها غير كافية، فالآليات الأممية قد تضمن اعترافاً دولياً بهذه الانتهاكات، وتدفع نحو ضغط على الدولة التونسية لتعترف بالتزامها بمكافحة الإفلات من العقاب، لكن في حقيقة الأمر لن تعوّض من ضرورة المحاسبة الوطنية لإنصاف الضحايا، لأن ذلك يتطلب إرادة سياسية لإصلاح القضاء وإنهاء سياسة الإفلات من العقاب داخل تونس".

وبرأيها، فإن "التجاذبات السياسية وتراكم الأزمات الاقتصادية والسياسية في البلاد، وتعرّض القضاء التونسي للضغوطات السياسية، أدى إلى تراجع مسار العدالة الانتقالية تدريجياً في فترة ما، فضلاً عن أن عودة رموز النظام السابق إلى المشهد السياسي في تونس، حالت دون تحقيق العدالة الانتقالية، وظلت هذه الملفات بأدراج القضاء، وبالتالي ضاعت فرصة تاريخية لإنصاف ضحايا التعذيب بحقبتي نظامي بن علي وبورقيبة".

هذه الشكوى جاءت بعد استنفاذ "أصحاب الحق" جميع الطرق لتحقيق العدالة ضمن محاكم دولتهم، فاللجوء إلى الهيئة الأممية، يأتي بعد طول مسار التقاضي وتأجيل القضايا باستمرار، وأغلب الدول تتفادى مثل هذه الشكاوى لأنها تمسّ بصورتها الخارجية أمام المجتمع الدولي

بدورها، تتفق حميدة الدريدي، الخبيرة لدى اللجنة الفرعية لمنع التعذيب التابعة للأمم المتحدة، مع المواقف السابقة، وتؤكد لرصيف22، بأن "ضحايا التعذيب خلال نظام بن علي تعرّضوا لانتهاكات صادمة ولا إنسانية، ورغم معاناتهم الطويلة لم ينصفهم القضاء التونسي، ومنذ 2011 لم تتم محاسبة أو مساءلة الجناة المتورطين بحالات التعذيب الممنهجة بالسجون التونسية بتلك الحقبة"، معتبرة أن "ملف العدالة الانتقالية بتونس قد قُبر فعلاً".

"هيئة الحقيقة" واختبار "العدالة الانتقالية"

بعد ثورة عام 2011، أنشئت هيئة الحقيقة والكرامة (هيئة مستقلة) بقانون خاص أقرّه البرلمان التونسي، وتتمثل مهمتها في توثيق ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بتونس، ما بين 1955 و2013، واعتبرت الهيئة ملجئاً وطنياً لتضميد جراح الضحايا من "التاريخ الأسود" لتونس، باعتبارها أهم آلية رسمية لتحقيق العدالة الانتقالية لتكريس مصالحة وطنية.

وطوال ستة عقود خضع آلاف النشطاء، من اليساريين والإسلاميين، للتعذيب أثناء فترات سجنهم، إضافة إلى تشريد آلاف آخرين وحرمانهم من الحقوق، على خلفية معارضتهم للسلطات الحاكمة، ومقتل ما لا يقل عن 320 محتجّاً وإصابة مئات الأشخاص خلال الثورة التونسية في 2011.

ويتمثل دور الهيئة أساساً في كشف وتحديد طبيعة الانتهاكات الماضية ومعرفة أسبابها وظروفها ومرتكبيها، والأضرار المترتبة عليها، من تعذيب واغتصاب وإعدام، واختفاء قسري، وفساد مالي وإداري، وتحديد مسؤولية الدولة في هذه الانتهاكات، ومطالبة مرتكبيها بالاعتذار وردّ الاعتبار لترسيخ المصالحة، ونشرت الهيئة تقريرها النهائي في الجريدة الرسمية التونسية عام 2020.

يذكر أنه في أغسطس/آب 2024، أمر قاضي التحقيق الأول بالقطب القضائي الاقتصادي والمالي، بالإيقاف التحفظي ضد سهام بن سدرين التي ترأست الهيئة بين عامي 2014 و2018. وخضعت للتحقيق بتهمة "تدليس" التقرير الختامي للهيئة المكلفة بملف العدالة الانتقالية.

ربما لم تفلح التجربة التونسية بملف "العدالة الانتقالية" بتضميد جراح "ضحايا التعذيب"، عبر إجراء محاكمات عادلة لكل من تورّط في انتهاكات حقوق الإنسان، وكشف حقيقة ذلك الماضي، لكن أصحابها متمسكون بكشف الحقيقة والمحاسبة، وأنه "لا تصالح مع الدم"، كما يقول شاعر البسطاء "أمل دنقل".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image