ليس مطلوباً من المخرج الفلسطيني إسكندر قبطي، أن يعكس تعامله مع ممثلين غير محترفين في فيلمه الروائي الطويل الثاني "ينعاد عليكو"، أو وجهة نظر غيره من المخرجين (بيير باولو بازوليني مثلاً في حديثه عن الوجوه الأيقونية في السينما)، وهو أستاذ في تدريس هذا النوع من التمثيل في جامعة أبو ظبي وغيرها من الجامعات، كما هو ظاهر في سيرته الذاتية.
بالتأكيد ليس مطلوباً منه تبنّي هذه "النظرية" التي انفرد فيها صاحب "ماما روما"، و"الإنجيل بحسب القديس متى" وسواهما من الأفلام التي تُعدّ مدرسةً بحق في هذا المجال أي بازوليني. لكن الزعم هنا بهذا الخصوص لا يكفي، فواحدة من مساوئ هذا الفيلم، أساساً، هي شغله كمخرج مع ممثليه غير المحترفين، فلا نكاد نقع على إدارة خلّاقة لهم، وربما يُظهر اختياره تفكيك البنية السردية في الأحداث نفسها خطيئةً كبرى لا يمكن التفلّت منها، فهذه النوعية من السرد تحتاج إلى ممثلين محترفين، وإلا فإنّ مصير الممثل هنا التوهان في اللغة وفي المكان، فلا يعود مصدر إلهام في الفيلم.
![](https://s.raseef22.net/storage/attachments/1100/548733.jpg/r/340/548733.jpg)
فوق ذلك كله، نقع على وجوه عادية لا تترك أيّ انطباع عاطفي أو وجداني أو تعبيري حال الانتهاء من قول جمل ركيكة ومفككة، ولا تشي بما هو مبهر، فلا الوجوه تحمل شيئاً من "أيقنة" الواقع بغية التخلص من أحمال ثقيلة ينوء بها أصحابها على الضفتين: عرب إسرائيل، والإسرائيليون أنفسهم، ولا الحوارات تقول شيئاً ثميناً.
لا الوجوه في الفيلم تحمل شيئاً من "أيقنة" الواقع بغية التخلص من أحمال ثقيلة ينوء بها أصحابها على الضفتين: عرب إسرائيل، والإسرائيليون أنفسهم، ولا الحوارات تقول شيئاً ثميناً
وإن ضاعت ملامح الفئة الأولى تماماً، أو ضُيّعت لحساب السيناريو، فإنّ ملامح الفئة الثانية تبدو أكثر تماسكاً وصلابةً، ويمكنها اجتراح معجزاتها اليومية في صنع التفاصيل الصغيرة، ليس بعيداً عنها تشريح الأساطير التوراتية -مثلاً- وزرعها في عقول الأطفال الصغار في الروضات والمدارس الابتدائية. وهنا لا يمكن الزعم أبداً بأنّ ما يفعله قبطيّ، إنما هو اختراق إبداعي للسور الحديدي "العازل" الذي تقوم عليه مؤسسات إسرائيلية في تصريفها للأفعال التي تقوم عليها سرديات المجتمع الإسرائيلي وثقافته المنفلتة من ضوابط المجتمعات الحديثة، وإن بدت كما لو أنها ابنة بارّة لها.
يعجّ فيلم "ينعاد عليكو"، بلقطات كلوز–آب للوجوه (غير الأيقونية)، التي يعتمد عليها في سرد حكايته، بل إن هذا التقريب هنا، يرتكب أخطاء جمّةً في التركيب، ما يخلق شعوراً ثقيلاً إضافياً بالاختناق، وكان في وسعه، في أمكنة كثيرة، التفريج عن محنة أبطاله باللقطات العامة والمتوسطة والبعيدة، حتى يخلق شعوراً مضاداً للكآبة التي يخلقها الفيلم، ليس بقصته، وهذه حكاية أخرى، وإنما بالمتوالية البصرية من الوجوه التي لا تحاكي المشاعر التي تنطق بها، أو لا تعكس تلك الانفعالات التي يتوَّجب على الممثل أن يتمكّن منها حين تعوزه الحركة في المكان أمام الكاميرا.
![](https://s.raseef22.net/storage/attachments/1100/jpg-_691296.jpg/r/340/jpg-_691296.jpg)
ليست اللعبة هنا ترك هذا الممثل على بروده، لأنّ المخرج قبطيّ ربما رأى أنّ هذا الأسلوب يعكس رؤيته للفيلم، فالممثل غير المحترف يصبح عبئاً على الحكاية برمّتها، إن تُرك على سجيته من دون إدارة خلاقة، بعكس الممثل المحترف الذي يعرف أدواته جيداً، ويمكنه أن يتحرك بحرية وإبداع في مجاله، تعينه خبرته على ذلك، بل قد يجد معادلاً لحضوره في إغناء الفيلم، وقد يتحوَّل أسلوبه إلى مدرسة في التمثيل، والبراهين على ذلك أكثر من أن تُعدّ وتُحصى.
قصة الفيلم موضوع آخر بالطبع. قد لا تعجبنا كفلسطينيين، فأنا أحبّ مثلاً أن يسخر الفلسطينيون في أفلامهم من أنفسهم، كما هو حال أفلام إيليا سليمان، وميشيل خليفي. هاهنا يكتشف الفلسطينيون سلاحاً خطيراً يواجهون به خطر تقليص وجودهم الواقعي والتاريخي في بلادهم، بل ينتصرون من خلال هذا السلاح في سرديتهم "الذكية" و"الحداثوية"، على السردية المضادة التي تعمل على اقتلاع ذاكرتهم وكينونتهم، فيما يجيء فيلم إسكندر قبطي لتطهير "السردية الفلسطينية"، من بوابة ادّعاء التعايش، أو التعايش غير المكلف لمن يستعمر الأرض، وهو يقدّم للأقلية العربية بعض التعاطف، بينما هي في طريقها إلى الانقراض.
![](https://s.raseef22.net/storage/attachments/1100/jpg-2_684118.jpg/r/340/jpg-2_684118.jpg)
تبدو العائلة العربية هنا من دون أي إشارة إلى هويتها "الفلسطينية"، وكأنها عائلة في متحف للتاريخ الطبيعي، يمكن لأفرادها التناسل، وتناول النبيذ، وإعداد الطعام، بل يمكن لفرد من أفرادها (رامي)، أن يمنح نطفته لحبيبته اليهودية شيرلي، ويقف متفرجاً عليها وهي تدافع عن حملها من حبيبها العربي أمام عائلته التي تتفهمها تماماً، ويمكن لنا أن نتابع تفاصيل هذه الملحمة "في الخلق"، بأدق التفاصيل والمشاعر، فيما لا تكلّف علاقة شقيقته فيفي، وخسارتها عذريتها في مكان ما في القدس سوى الانكشاف على فضيحة "باللغة فقط"، وكأن الأمر لا يخصّ هنا فتاةً من عائلة عربية، تعيش على إيقاعات ثقافة محافظة في مدينة يافا، بالرغم من ادّعائها غير ذلك، فتخسر بذلك حبيبها الطبيب وليد، الذي لا يستفيد من علمه بشيء، وهو الطبيب المقيم في مستشفى إسرائيلي، ويمتلك كل الامتيازات التي تؤهله لأن يكون متفهماً لحبيبته، ولكنه يأبى ذلك، بل إنه يسهم في تلطيخ سمعتها في مجتمع الأقلية العربية، وأمام عائلتها التي تخسر كل مظاهر التحرر الشكلاني الذي تمتعت به على مدار ساعتين دفعةً واحدةً.
لا يمكن الزعم أبداً بأنّ ما يفعله قبطيّ، إنما هو اختراق إبداعي للسور الحديدي "العازل" الذي تقوم عليه مؤسسات إسرائيلية في تصريفها للأفعال التي تقوم عليها سرديات المجتمع الإسرائيلي وثقافته المنفلتة
لا يسهم تفتيت السرد في الحكايات التي نقع عليها في فيلم "ينعاد عليكو"، في تطوير حبكته، فالبرودة التي تأسر ممثليه، وهم يسيرون على خطوط درامية مفككة لا ينفع معها المونتاج المتوازي، فاللقطات القريبة أجهزت على هذه الحبكة، وكل ما في الفيلم خاضع للهواء الإسرائيلي، وليس هناك مجال لسرد مختلف. الأعلام التي ترفرف، أرتال جنود المشاة، الفتاة التي تدّعي المرض حتى لا تصبح مجنّدةً إجباريةً في الجيش، حضانة الأطفال المؤسسة على الأساطير التوراتية، مجندات الجيش بلباسهنّ العسكري في الشوارع، عصابات الشباب اليميني المتطرف التي تدعو لقتل العرب في الشوارع، الفتاة التي لا يؤثر فيها دويّ صفارات الإنذار وتطلب أن تنزل القذيفة عليها، البارات الليلية.
هذه التفاصيل كلها اشتغل عليها الفيلم بدقة، فيما خنق حياة هذه العائلة "العربية"، ووزّعها بين النميمة، والطبخ، وملأ فضاءها الضيّق بالغناء الليبي والمغاربي، وكأنّ حضورها غير معنيّ بثقافة التحدي والبقاء والسخرية من كل أشكال التضييق التي تمارس عليها. وإن أخطأت فيفي في علاقتها، وخسرت عذريتها، فهذه ليست "الخطيئة" الأساسية التي يجب أن تدفع ثمنها هنا. العائلة التي تنتمي إليها لم تعد تمتلك مساحةً أكبر للحركة، بل إن هذه المساحة قد تقلَّصت إلى الحد الذي تمكن فيه إسكندر قبطي، من أن يضعها في واجهة (فترينا) زجاجية مضادة للرصاص وغير قابلة للكسر، حتى يمكن القول من بعيد، وتحت سقف التعايش غير المكلف للمستعمر: "ينعاد عليك لحالك"!
فيلم "ينعاد عليكو" أو "Happy Holiday" باللغة الإنكليزية، عُرض مؤخراً في مهرجان "غوتنبرغ" السينمائي الدولي-السويد (24 كانون الثاني/ يناير – 2 شباط/ فبراير 2025)، وهو من تمثيل منار شهاب، وفاء عون، ميراف ميمورسكي، وتوفيق دانيال وآخرين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Toge Mahran -
منذ 3 أياماكتر مقال حبيته وأثر فيا جدا♥️
Tayma Shrit -
منذ 3 أيامكوميديا سوداء تليق بمكانة ذاك المجرم، شكرا على هذا الخيال!
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ 5 أيامالمقال بيلقى الضوء على ظاهرة موجوده فعلا فى مصر ولكن اختلط الامر عليك فى تعريف الفرق بين...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياماحمد الفخرناني من الناس المحترمة و اللي بتفهم و للاسف عرفته متاخر بسبب تضييق الدولة علي اي حد بيفهم
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ 6 أياممقال رائع..
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعالحبة الحمراء أيديولوجية يقتنع بها بعض من النساء والرجال على حد السواء، وبرافو على هذا الشرح الجميل