شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
برغم الفوارق الكثيرة… ماذا كان السرّ وراء تعزيز الثقافة الإسلامية في الأندلس؟

برغم الفوارق الكثيرة… ماذا كان السرّ وراء تعزيز الثقافة الإسلامية في الأندلس؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الأحد 13 أكتوبر 202412:15 م

 يمثّل نجاح المسلمين في دخول الأندلس وترسيخ وجودهم فيها لغزاً كبيراً؛ فكيف تمكّن جيش محدود العدد لم يصل حجمه إلى 25 ألف فرد بحسب أرجح الأقوال من إخضاع منطقة ضخمة المساحة (190 ألف كيلومتر تقريباً) يقطنها مئات الآلاف من السكان المعادين للإسلام -نظرياً على الأقل- خلال 3 سنوات فقط؟

والأهم من ذلك كيف استطاع هؤلاء الفاتحون الجُدد الاندماجَ في هذه التربة الغريبة عليهم حتى نجحوا في غرس ثقافتهم بأرضها بشكلٍ استحال اقتلاعه بشكلٍ تام حتى اليوم؟

صعود وهبوط الدول

تزامن الصعود الكبير للدولة الإسلامية شمال إفريقيا مع تدهور أكبر شهدته مملكة القوط الغربية التي أسستها قبائل القوط الجرمانية جنوب فرنسا وإسبانيا والبرتغال وكُتبت عليهم المواجهة الأصعب مع المسلمين.

في هذا الزمن عاشت الدولة القوطية تشققاتٍ اجتماعيةً ضخمةً بعدما استأثر الملوك والأمراء بكل الامتيازات الممكنة. أما باقي السكان من المزارعين والعبيد فعانوا من الضرائب الباهظة والتنكيل المستمر من قِبَل الأمراء.

كذلك تصدّع المجتمع لأسباب دينية بعدما انقسم السكان إلى المسيحية الكاثوليك التي اعتنقها الحكام القوط وأقلية من الشعب،  أما الأغلبية فدانوا بالآريسية.

أُضيف لهذه الاضطرابات نزاعات عُليا شهدها القصر الحاكم بعدما استغل لوذريق أحد قادة الجيش القوطي وفاةَ الملك ليستولي على عرشه؛ موقفٌ أثار غضب يوليان حاكم مدينة سبتة وأحد ألدّ أعداء لوذريق، فقرّر الانتقام منه عبر التعاون مع موسى بن نصير وتمكينه من دخول البلاد الأوروبية بسهولة.

عمليات السيطرة الأولى

بحسب المرويات فإن ابن نصير تعامل مع عرض يوليان لتمكينه من دخول الأراضي الأوروبية بحذر، فبعث سرية صغيرة من 500 رجل لأقرب بقعة أوروبية له وهي منطقة "الجزيرة الخضراء"، دخلتها القوة الإسلامية بسهولة. هنا تشجّع ابن نصير وأرسل طارق بن زياد على رأس 7 آلاف فرد دخلوا في اشتباكات حامية مع جيش لوذريق الذي كان في أضعف حالاته.

هنا يُمكننا تخيّل أن أغلبية السكان الآريسيين من الأراضي الأيبرية اعتبروا أن المسلمين الموحدين أقرب لهم من الكاثوليك.

 يمثّل نجاح المسلمين في دخول الأندلس وترسيخ وجودهم فيها لغزاً كبيراً؛ فكيف تمكّن جيش محدود العدد لم يصل حجمه إلى 25 ألف فرد، بحسب أرجح الأقوال، من إخضاع منطقة ضخمة المساحة خلال 3 سنوات فقط؟
هذا السياق الاجتماعي لم يغب عن بال ابن النصير في أيام الحُكم الإسلامي الأولى، فكانت أول عملة ذهبية تُضرب بالعهد الإسلامي تحمل شعار "باسم الله وليس من إله غير الله العليم الذي لم يكن له شبيه أو نظير"؛ خطوة اعتبرها المؤرخ الإسباني إجناثيو أولاجوي محاولة لجذب اهتمام الآريسيين وتقديم المسلمين بأن عقيدتهم لا تبتعد كثيراً عما يؤمنون به.

كانت هذه من الخطوات الأولى التي حاول بها ابنُ نصير  التقرّبَ إلى العوام، مثلها مثل خطوة عقد "معاهدات صُلح" مع كثيرٍ من الحكام المحليين أبقت أراضيهم بين أيديهم مقابل دفع الجزية والخراج، حسبما ذكر علي ساسي في دراسته "الأسلمة والتعريب في الأندلس: الإشكاليات والمقاربات".

تلتها خطوات أخرى اتخذها حكام الأندلس التالون لكسب وِدّ السكان والذين أبقوا الأحدَ عطلةً رسمية، كما حرصوا على إدماج الأعياد الإسلامية بجانب المسيحية لتبدو كنسيج واحد متّصل؛ فمثلما احتفل الأندلسيون بعيد الميلاد وعيد العنصرة وخميس العهد، احتفلوا أيضاً بالمولد النبوي وعاشوراء وعيدَي الفطر والأضحى، بجانب مناسبات أخرى محلية، مثل عيد العصير الذي يحتفي فيه الفلاحون بجنيِ محصول العنب وعصره.

ومع استتباب الأوضاع في الأندلس فُتح الباب لاستقبال هجرات عربية انطلقت من المشرق إلى أوروبا، فانحدر الوافدون من قبائل عربية عريقة مثل بني أمية وبني هاشم وبني فهر وغيرهم. انتشرت القبائل العربية في أنحاء متفرقة من الأراضي الأيبرية، وسكن الجنود مناطقَ شتّى تبعاً لتشابهها مع أوطانهم؛ فعلى سبيل المثال سكن جندُ حمص إشبيليةَ وسُميت "حمص الأندلس"، وتموضع جُند دمشق في غرناطة وسُميت "دمشق الأندلس"، وتمركز كتائب الأردن بمالقة التي سُميت "الأردن"، فيما تموضع جندُ مصر في كورة تدمير التي أصبحت "مرسية" (مصر).

يقول دكتور علي أحمد في بحثه "من مظاهر التعريب في الأندلس" إن هذا التوزيع كان له أثره البالغ في تعريب هذه المناطق بسرعة كبيرة، لأن عناصر هذه الأجناد كانوا من العرب الذين كانوا يشتعلون حماساً لنشرِ ثقافتهم العربية في الأندلس لتكون قاعدةً لتحقيق الحلم الأموي بدخول بقية البلاد الأوروبية المجاورة.

الطريق نحو التعريب

كثيرٌ من هؤلاء الوافدين اتخذوا لأنفسهم زوجاتٍ إسبانيات أنجبن جيلاً جديداً هجيناً كان خير شاهدٍ على حجم الاندماج الذي جرى بين الشرق والغرب. فقد تعددت إشارات كتب التاريخ إلى حالات الزواج بين قادة مسلمين وإسبانيات حتى وإن خضعت للمبالغات، إلا أنها بقيت شاهدة على كثرة هذه الحالات. هذه القصص شملت القادة المؤسسين، فنسبت لعبد العزيز بن موسى بن نصير زواجه من الأميرة الإسبانية إجيلونا (Egilona) أرملة لوذريق، بعدما أسلمت وحملت اسمَ أم عاصم.

هذا السيناريو تكرر مع القائد المسلم زياد بن نابغة التميمي، وطال حتى الخليفة الأموي الذي أرسل له القائد عبد الرحمن الغافقي عدداً من الأميرات الإسبانيات، فضمّهن إلى حريمه وأسكنهن في دمشق، وأيضاً  الأميرة سارة القوطية، حفيدة الملك غيطشة (Witiza)،  التي زوجها الخليفة هشام بن عبد الملك من مولاه عيسى بن مزاحم، ومن سلالتهما جاء المؤرخ أبو بكر محمد القرطبي المشهور باسمِ "ابن القوطية".

أيضاً هناك الأميرة ونقة (Onneca)، ابنة فرتون بن غرسيه، ملك نافارا، الذي وقع أسيراً بين يدي المسلمين، وتزوّجت ابنته من الأمير الأموي عبد الله بن محمد، وأنجبا محمد والد عبد الرحمن الناصر، الذي سيصير خليفة للمسلمين.

وتعددت الروايات في كتب التاريخ التي وثّقت إقبال العرب على الزواج بالأندلسيات، بدءاً من صغار القادة العسكريين والقضاة وحتى العامة الذين كانوا يبتاعوهن من الأسواق. روى عبد الواحد المراكشي في كتابه "المعجب في تلخيص أخبار المغرب": "بلغني أنه نُودي على ابنةِ عظيمٍ من عظماء الروم بقرطبة، وكانت ذات جمال رائع لم تساوِ أكثر من 20 ديناراً عامرية". 

الزيجات العربية بالأندلسيات أفرزت جيلاً جديداً على الأرض الأيبيرية عُرف بِاسم "المولدين"، مثّل وتداً إضافياً رسّخ غرس الخيمة العربية في أوروبا، حسبما ذكر أحمد مختار العبادي في بحثه "الإسلام في أرض الأندلس: أثر البيئة الأوروبية".

تعددت إشارات كتب التاريخ إلى حالات الزواج بين قادة مسلمين وإسبانيات، وهذه القصص شملت القادة المؤسسين، فنسبت لعبدالعزيز بن موسى بن نصير زواجه من الأميرة الإسبانية "إجيلونا"، أرملة لوذريق، بعدما أسلمت وحملتْ اسمَ أم عاصم.

أحد التجليات الشعبية لهذه الزيجات التي مزجت الأعراق معاً هو اللقب الذي مُنح لبني الأحمر، وهم قبيلة عربية تنتسب إلى الصحابي سعد بن عبادة، باتت شعورهم ملونة بسبب الزيجات المختلطة التي شاعت بين سلاطينهم والإسبانيات، حتى أن كثيراً من قادتهم كانت أمهاتهم إسبانيات غيرن أسماءهن إلى العربية مثل بثينة أم السلطان محمد الخامس الغني بالله، ومريم أم السلطان إسماعيل الثاني، وبهار أم السلطان أبي الحجاج يوسف الأول، وثريّا (اسمها الأصلي:  إزابيل دي سوليس) زوجة السلطان أبي الحسن.

بل وتروي المرويات التاريخية عن زيجات عكسية اقترن فيها رجال مسيحيون بنساء عربيات مسلمات على رغم تحريم الشريعة الإسلامية لتلك الخطوة؛ مثلما رُوي عن زواج ملك نبرة (نافارا)، وهي مملكة أوروبية صغيرة أقيمت عند جبال البرانس، ونقه بن ونقه (إنيغو إنيغيز أريستا في المصادر الغربية) من أرملة القائد المولدي الأندلسي موسى بن فرنون بن قسي، وأيضاً زواج جميلة، شقيقة الثائر البربري محمود بن عبد الجبار المصمودي بأحد حكام مملكة جليقيه، التي وقعت شمال غرب الجزيرة الأيبيرية. تقول المرويات إن الأميرة جميلة وزوجها الإفرنجي أنجبا ولداً أصبح أسقفاً.

كذلك حكت كُتب التاريخ عن الأميرة زائدة زوجة المأمون بن المعتمد بن عباد، التي فرّت إلى قشتالة بعد مقتل زوجها على يد المرابطين عقب اقتحامهم قرطبة، وفي قشتالة تزوجت من ملكها ألفونسو السادس، وأنجبا ابنه الوحيد سانشو، الذي قُتل في موقعة أقليش أمام المرابطين.

غرس بذور الثقافة

اعتبر ساسي في بحثه، أن قيام الإمارة الأموية في الأندلس لعب دوراً حاسماً في تكريس النمط الحضاري العربي الإسلامي المشرقي بعدما جدّت السُلطات في فرض تدريس العربية على نطاق واسع وتشجيع السكان المحليين للدخول في الإسلام، وفي كثيرٍ من الأحوال اعتنقوا الإسلام للهروب من دفع الجزية.

اتّبعت هذه السياسة بفضل القناعة الأموية التقليدية أن الثقافة العربية هي العمود الفقري لاستمرار مُلكهم، وهي الفلسفة السياسية التي نقلوها معهم من الشرق إلى الغرب ومن دمشق إلى قرطبة، لذا أسهبت الإدارة الأموية في الاستعانة بالأساليب المشرقية في إدارة الناس، بدءاً من الزراعة والتنظيمات الإدارية حتى فنون الطبخ والملابس، وهي سياسات تعززت بتحويل الإمارة إلى خلافة في عهد عبد الرحمن الناصر.

وبحسب دكتور علي أحمد قال في بحثه "من مظاهر التعريب في الأندلس"، فإن العرب، حتى نهاية القرن الحادي عشر، انطلقوا من مفهومٍ راسخ في نفوسهم، وهو أنهم أمة قيادية ينبغي عليهم استيعاب الجميع على أساس العدل وقيم المواطنة العربية في الأندلس وغيرها من بقاع العالم.

سعياً لتثبيت المعرفة الإسلامية والثقافة العربية اهتم قادة البلاد باستقطاب العلماء المشارقة للتدريس في المساجد، أبرزهم الفقيهان العراقيان أبو علي القالي وصاعد بن الحسن الربعي وغيرهم من الذين أقاموا حلقاتٍ حضَرَها آلاف لتعلُّم اللغة والتاريخ والفقه.

بجانب ذلك أوفدت بعثات علمية مستمرة إلى القيروان ومصر والعراق والحجاز لتلقي العلوم ثم العودة إلى الأندلس ليَنشرَ الطلبةُ ما تعلموه بين أهلها.

تزامن الصعود الكبير للدولة الإسلامية شمال إفريقيا مع تدهور أكبر شهدته مملكة القوط الغربية التي أسستها قبائل القوط الجرمانية جنوب فرنسا وإسبانيا والبرتغال، وكُتبت عليهم المواجهة الأصعب مع المسلمين
في هذه الآونة أقبل الأندلسيون كافةً على تعلم اللغة العربية، بما فيهم المسيحيون، بعدما باتت الوسيلة الوحيدة لنَيل منصب إداري في الدولة، كما شاع على الألسنة لغة عامية امتزجت فيها الحروف العربية بالقوطية المحلية التي عُرفت بِاسم "الرومنسية"، والتي ستنتهي لاحقاً  بلغةٍ أكثر تطوراً في مفرداتها وهي "الألخميادو".

وهناك سبب إضافي برّر به شوقي ضيف في كتابه "عصر الدول والإمارات: الأندلس" حماسَ أهل الأندلس في تعلم العربية: "حتى يُحسن المسلمون منهم أداء شعائر الإسلام وتلاوة كتابه التي تُعد جزءاً لا يتجزأ من اعتناقه". بجانب ذلك فإن الأيبريين نظروا إلى العربية باعتبارها لغةَ الفاتحين المتغلبين، فارتفع شأنها بينهم، وهو ما أكد عليه ابن خلدون بقوله "الدولة الإسلامية هجرت ألسنتها المحلية في جميع الممالك لأن الناس تبع للسّطان وعلى دينه، فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب".

وحسبما ذكر الدكتور عبد المجيد البغدادي في بحثه "أسباب انتشار اللغة العربية وسيطرتها في الأندلس"، فإن يهود الأندلس لعبوا دوراً كبيراً في تدعيم عملية التعريب بعدما أقبلوا على دراستها وأتقنوها حتى باتت لغةَ جمهور اليهود بالأندلس. كما بدأوا عمليات ترجمة واسعة لكتبهم الكبرى من العبرية اللاتينية إلى العربية، فضلاً عن ترجمة مؤلفات عربية مهمة إلى العبرية كمقامات الحريري ورسالة حي بن يقظان لابن سينا.

أحد أبرز تجليات نجاح تلك السياسة هو ظهور طبقة جديدة من الأندلسيين الذين لم يغيّروا دينهم إلى الإسلام، فبقوا على المسيحية، لكنهم تحدثوا بالعربية، وبدأوا في ممارسة الطقوس العربية الإسلامية، فأطلق عليهم لقب "المستعربة" أو "المستعربين"، حسبما ورد في بحث "الإسلام في أرض الأندلس: أثر البيئة الأوروبية".

بمرور الوقت ظهر النجاح الأكبر لهذه الجهود بعدما تجاوز أثرُها التمكنَ من نشر الثقافة الإسلامية في التربة الأندلسية إلى تشجيع بعض أبنائها على التحوّل إلى علماء كبار وصلت شهرتهم إلى المشرق لاحقاً، فأخرجت الأندلس أبا عبد الله القرطبي في علم التفسير، وابن مخلد في علم الحديث، وأبا إسحاق الشاطبي في الأصول والمقاصد، وابن رشد في الفكر والفلسفة، وابن حزم في الفقه، والذين فاقت شهرتهم آفاقَ بلادهم ووصلت المشرق.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image