في زمن بات الحديث عن حقوق الإنسان كقول "صباح الخير"، بديهياً، لازماً وضرورياً، نشهد جرائم خارجة عن السياق في القيم والمنطق المؤدي لجريمة ما، جرائم لا يمكن أن تسمّى إلا بالوأد، تستهدف النساء حصراً، على يد فرد من أفراد العائلة، تسوّغ بقانون ينطوي تحت بند "جرائم شرف".
شرف يقرن مع هكذا جرائم، ليس سوى وصمة عار على كل من يؤمن بالشرف وضرورته، فارتباطه بجريمة قتل ينزع عنه أي قيمة إنسانية. هذه الجرائم تحمل وأداً للحق في الحياة، للمستقبل، للحق في تقرير المصير وفي اختيار الشريك كذلك، ما يجعل مصير بعض الفتيات وكأننا أمام امتداد لجريمة الوأد الجاهلية، وإن اختُلف على زمن حدوثها ووقت وقوعها. ذلك كله يحدث بتواطؤ النصوص القانونية، التي تسوّغ للفاعل العذر للإفلات من العقاب، ليساهم في تكرار الجريمة واستمرار وقوعها، فتتكرّر خسارة فتاة لحياتها، واحدةً تلو الأخرى.
يتقنّع المجتمع كصامت خلف أداة الجريمة، لكنه في حقيقة الأمر يعدّ المحرّض الأول لهكذا جرائم.
قبل أيام خلتْ، قتلت (ليليان. س) ذات التسعة عشر عاماً على يد والدها، في محافظة السويداء السورية، وأصيبت والدتها، بعد محاولة الدفاع عنها، بإصابات دخلت إثرها المستشفى في حالة خطرة.
مسوّغات هذه الجرائم لا يصعب استدعاؤها، وهناك دائماً إمكانية لاستدعاء مبرّر لهكذا جريمة وغيرها من الجرائم المماثلة، فالشرف قد يستدعى، والوصاية يمكن أن تستدعى، والأخلاق والحماية والحالة النفسية، وإلى ما هنالك من مسوّغات يمكن الدفع بها لارتكاب الجرائم والإفلات من العقاب، فللقانون في عموم دول انتشار هذه الجرائم، نوافذ كثيرة يمكن الدخول منها.
جرائم الشرف في سوريا تطال الفتيات اللاتي تتزوجن من خارج دينهن أو طائفتهن أو قبيلتهن، أو حتى عائلاتهن في أوساط معينة. رغم الإجراءات القانونية التي تتم للزواج، إلا أن العائلة لا تعترف به ولا تتقبّله في غالب الأحيان، ولابد من الإشارة إلى أن الفكر المتحكّم بهذا السلوك وما ينجم عنه، ليس حكراً على طائفة أو دين أو منطقة بعينها، بل هو جهل لا يمكن محاربته إلا بالعقل والفكر.
المجتمع الدرزي واحد من بيئات كثيرة يمنع الزواج من خارج طائفته الدرزية، وهو يتدرّج في تشدّده حسب أماكن التواجد حيال هذه القضية وقضايا أخرى، فهناك اختلاف بين الدروز في لبنان، وبين مناطق جرمانا وصحنايا، وكذلك بين المتواجدين سابقاً في جبل السماق في معرة النعمان في إدلب (ربما بقي منهم القليل هناك بعد الثورة السورية)، وبين السويداء مدينةً أو ريفاً، وتعتبر الأرياف أكثر تشدّداً في العموم، مع وجود فوارق فردية طبعاً.
لابد وأن نلوم المجتمع الذي يجعل أولوية الأب هي حماية أعرافه وليس حماية أبنائه، أن نلوم القانون الذي يفتح نوافذه لمسوّغات تبرّر بدل أن تمنع القتل، لابد أن نلوم الأفكار القبلية التي تمجّد العادات وتلغي العقل والفكر
"جرائم الشرف"، هو المسوّغ القانوني المعروف، ليس فقط في سوريا، بل وفي عالمنا العربي، وفي دول أخرى حيث تنتشر هذه الجرائم. البند الذي يعطي الحق لفرد من أفراد العائلة بإنهاء حياة فتاة ما، وأحياناً ليس بالضرورة أن يكون فرداً حتى من أفرادها، فالسلطة على الفتيات في مجتمعاتنا الشرقية هي سلطة مجتمع وليست فقط سلطة عائلة، إذ تعطي العادات والتقاليد الحق للمجتمع في التدخّل في شؤون الفتيات وأمورهن دون أي رادع يقف في وجهها، فكم من امرأة يتم الغدر بها على يد من يفترض بهم حمايتها، كم من فتاة ينتزع منها حق الحياة، حق التعليم، حق تقرير مصيرها، فقط بحجة أنها أنثى!
جريمة قتل جماعية
لابد وأن نلوم المجتمع الذي يجعل أولوية الأب هي حماية أعرافه وليس حماية أبنائه، أن نلوم القانون الذي يفتح نوافذه لمسوّغات تبرّر بدل أن تمنع القتل، لابد أن نلوم الأفكار القبلية التي تمجّد العادات وتلغي العقل والفكر.
هناك دائماً أداة مباشرة في الجريمة، يكون الأب، أو الأخ، أو الزوج، أو أحد الأقارب، لكن في مثل هذه الجرائم هناك أيضاً أياد ليست خفية، إن أردنا وضع حد لها، لابد من كفّها. فالمجتمع قاتل غير مباشر، والقانون قاتل صامت، والأقارب محرّضون، ووسائل الإعلام التي ترفض الحديث أحياناً في قضايا كهذه على أساس أنها قضايا تخص الجندر أو قضايا نسوية أو قضايا تخص الطائفة، إلى ما هنالك من التوصيفات المبرّرة، تشكل جميعها بيئةً تعزّز العنف وتجعل من العادات غطاءً للقمع والقتل.
يتقنّع المجتمع كصامت خلف أداة الجريمة، لكنه في حقيقة الأمر يعدّ المحرّض الأول لهكذا جرائم، إذ وفي أحيان كثيرة في بعض الأوساط، يتم ازدراء الذكر الذي لا يتبنى العنف تجاه النساء من أفراد عائلته، حال حدوث أمر مخالف للعادات والأعراف، وفي الحديث الذي طرحناه عن زواج الفتيات من خارج طوائفهن، ينظر في بعض المناطق والأوساط للعائلة التي تتزوج ابنتها، أو تقرّر الزواج من خارج الطائفة، نظرةً دونية، ويتم عزلها وتجنبها وقتلها معنوياً من المحيط، وحتى لو وجد منه من يمتلكون القناعة بظلمهم وعدم ارتكاب الخطيئة بالزواج من شاب يختلف بطائفته أو دينه، فإنهم لا يجرؤون على التقرب منهم أو الاختلاط بهم، لأن النبذ والتجنب يطالهم كذلك.
(ليليان. س) لن تكون الضحية الأخيرة، فضحايا المجتمع الذي يسود فيه فكر الوصاية بدلاً من وصاية الفكر، هم ضحايا قوانين وعادات وأعراف صُمّمت على قياس استبداده ورغباته في التحكم. رغبات تحكم أنيابها على الطرف الأضعف، وغالباً ما يكون النساء
جرائم تستهدف النساء فقط
ما يتم استدعاؤه من مسوّغات لجرائم ضد النساء، هي مسوّغات تنصبّ فقط عليهن، حتى اجتماعياً، فلا يطال الرجل ما يطال المرأة حال أي من المسوغات التي ذكرناها، حتى في حالة زواجه من خارج الدين أو الطائفة، تتقبّله العائلة ذاتها إن كان الابن الرجل هو الذي قام بذات الأمر، وكأنهم يقولون إن الرجل يعجز عن حمل لواء الشرف، فتحمله المرأة وحدها وتحاسب عليه، أو أن يقنعونا بأن الخالق قد صبغها بوصفها كائناً من الدرجة الثانية.
إن الخلل في السوري تحديداً، موضع حديثنا، والمجتمع العربي عموماً، هو خلل يطال الإنسان عموماً في حقوقه، فلا أحد ينالها، وفي غالب الأحيان يكون العامل المادي أو امتلاك السلطة هما الحاكمان الأكثر سطوةً في تقرير المصير، إذ يمكن استثناء الأغنياء وأصحاب السلطة من قوانين أو أعراف وتقاليد كثيرة في مجتمعاتنا، ليبقى الضعيف وحده في الغالب هو الضحية، أما القوي يمكن أن يكون المجتمع، الرجل أو حتى المرأة تمتلك ما تمتلك من قوة وسطوة، تسلطه في الغالب على من هن أضعف منها من النساء، ويمكن أن تشترك في بعض الأحيان في الجرائم موضع حديثنا.
تشير التقارير التي تتناول قضايا المرأة، أن "جرائم الشرف" في سوريا، وفي بلدان كثيرة، مثل باكستان، أفغانستان، الهند، إيطاليا، الأردن، اليمن، تركيا، العراق، المغرب ومصر، أصبحت معركةً دموية، الأمر الذي يدفع المنظمات الحقوقية والدولية للمطالبة بوضع العقوبات على هذا النوع من الجرائم كجريمة قتل، وليس بعذر مخفف.
(ليليان. س) لن تكون الضحية الأخيرة، فضحايا المجتمع الذي يسود فيه فكر الوصاية بدلاً من وصاية الفكر، هم ضحايا قوانين وعادات وأعراف صُمّمت على قياس استبداده ورغباته في التحكم. رغبات تحكم أنيابها على الطرف الأضعف، وغالباً ما يكون النساء. تطبق على يد الرجال غالباً، وحيناً على يد نسوة يمتلكن من السطوة ما يمكنهن من استضعاف أخريات، وبتشجيع القانون الذي يقف شاهداً لا يرى شيئاً، وكأن ما سال من دماء، لا يكفي لوضع قانون يحمي المجتمع من نفسه أولاً، ومن تغوله في حياة الفرد كيفما يشاء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Toge Mahran -
منذ 3 أياماكتر مقال حبيته وأثر فيا جدا♥️
Tayma Shrit -
منذ 3 أيامكوميديا سوداء تليق بمكانة ذاك المجرم، شكرا على هذا الخيال!
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ 5 أيامالمقال بيلقى الضوء على ظاهرة موجوده فعلا فى مصر ولكن اختلط الامر عليك فى تعريف الفرق بين...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياماحمد الفخرناني من الناس المحترمة و اللي بتفهم و للاسف عرفته متاخر بسبب تضييق الدولة علي اي حد بيفهم
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ 6 أياممقال رائع..
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعالحبة الحمراء أيديولوجية يقتنع بها بعض من النساء والرجال على حد السواء، وبرافو على هذا الشرح الجميل