الناجون من الحرب لا يذوقون طعم الأمان أبداً، فهي ليست مجرد حدث يقع في وقت معين وينتهي؛ إنها حالة دائمة تعيش داخل من مروا بها وإن نجت أجسادهم تسلبهم حاضرهم ومستقبلهم، تعيد رسم كل تفاصيل حياتهم لحظة بدايتها دونما توقف. الناجون لا يخرجون من الحرب سالمين؛ يحملونها معهم، ندبة لا تُشفى، ظلٌ لا يغيب. أذكر كيف كانت جدتي تقاسي هذه الحقيقة، كانت الوجه الحي لمعنى النجاة التي لا تعرف الأمان، لم تعش حياتها كباقي الناس من حولنا، بل كانت تعيش حياتها كناجية من حرب لم تنته داخلها بوقف إطلاق النار.
الناجون لا يخرجون من الحرب سالمين؛ يحملونها معهم، ندبة لا تُشفى، ظلٌ لا يغيب.
عاشت جدتي سنوات طويلة بعد النكبة، لكنها لم تخرج منها أبداً. انتهت الحرب ولكن الخوف لم ينتهِ، كان كامنًا في كل شيء حولها، يظهر في ارتجاف يديها عند سماع صوتٍ مرتفع، أو في تبدل لون وجهها عندما يُذكر أمامها بيتٌ هُدم أو عائلة أُجبرت على التهجير. "ما في أمان بعد الحرب"، كانت تقولها وكأنها تضع يدها على جرحٍ لا يراه أحد سواها. واليوم، وأنا أشهد غزة التي ألفت رائحة ليس على إنسانٍ أن يعرفها، أفهم تمامًا أن حياتهم لن تعود أبداً كما كانت. الناجون من الحرب يحملون ثقلها أينما ذهبوا تعيش داخلهم، تُطاردهم في أحلامهم وفي يقظتهم، تُحاصرهم في صمتهم وفي كلماتهم.
جدتي، رغم محاولاتها أن تُعيد بناء حياتها بعيدًا عن الحرب، لم تستطع أن تهرب منها. في كل صباح تنظر إلى السماء كأنها تبحث عن غيمة بعينها، تعرفها جيداً، غيمة تعرف أنها لا تحمل المطر، بل تحمل صواريخ الإبادة. لم أكن أفهم وقتها أن الحرب لا تنتهي بوقف إطلاق النار، بل هي حالة دائمة تترك آثارها على من ينجون منها.
في كل مرة كانت تقول فيها "تعالوا يا تيتا، خليني أحكيلكم عن بيتنا وعن ريحة الياسمينة جنب الباب" أشتاق إلى أرضٍ لم أرها، إلى زيتونة لم ألمسها، إلى جدرانٍ لم أطرق عليها.
أذكر كيف كنا نجلس حولها، وكنا نظن أن حكاياتها مجرد قصص تسردها الجدات على أحفادهن، أدرك الآن أنها لم تكن كذلك. كانت حكاياتها أكثر من ذكريات؛ هي ميراث عائلتي و شهادة على ما لا يُنسى، وعلى ما لا يمكن تجاوزه.
عاشت جدتي سنوات طويلة بعد النكبة، لكنها لم تخرج منها أبداً. انتهت الحرب ولكن الخوف لم ينتهِ، كان كامنًا في كل شيء حولها، يظهر في ارتجاف يديها عند سماع صوتٍ مرتفع، أو في تبدل لون وجهها عندما يُذكر أمامها بيتٌ هُدم أو عائلة أُجبرت على التهجير
اليوم، وأنا أرى الناجين في غزة يعودون إلى بيوتهم المدمرة، يجمعون ما تبقى من حطام حياتهم، أسمع صوت جدتي تحكي ذات القصة؛ أن تُقتلع من بيتك يعني أن تحمل جرحًا لا يلتئم، البيت ليس مجرد أربعة جدران وسقف؛ البيت هو الأمان، هو الامتداد الطبيعي للروح. وعندما يُهدم البيت، يُهدم معه جزء من الروح، ويظل الخوف جاثمًا كأنه جذر عميق لا يمكن اقتلاعه.
الناجون من الحرب لا يعودون كما كانوا. فهي تغيرهم، تُعيد تشكيل ملامحهم وأصواتهم وحتى صمتهم، فالصمت بعد انتهاء القصف ليس هدوءاً، القصف لا يسكت داخل آذان الناجين.
في غزة اليوم، أرى الخوف مختلطًا بالأمل، وأرى الأمان بعيدًا رغم فرحة وقف إطلاق النار. أرى شعبًا يحاول بناء حياته فوق أنقاض أحلامهم، يحمل في عينيه تلك الندوب التي لا تُمحى. الحرب لا تنتهي عندما تصمت المدافع؛ الحرب تترك أثرًا لا يزول، تعيش في تفاصيل الحياة اليومية، في الوجوه، في النظرات، في ارتعاش الأيدي. الناجون من حرب الإبادة يعيشون في حالة دائمة من الحذر والترقب، ينتظرون أن لا تعود مرة أخرى.
يحملون إرثًا ثقيلًا، إرثٌ من الغضب والخوف الألم. هذا الإرث لا يتركهم، بل يرافقهم أينما ذهبوا. في غزة اليوم، أرى هذا الإرث حيًا. أرى شعبًا يعيش المقاومة بكل تفاصيلها، ليس فقط كفعلٍ ضد المحتل، بل كحالة وجودية، كوسيلة للبقاء. المقاومة لم تتجسد فقط في مواجهة الاحتلال، بل هي في مواجهة الخوف، في مواجهة النسيان، في مواجهة الفقد والقهر.
اليوم، وأنا أرى الناجين في غزة يعودون إلى بيوتهم المدمرة، يجمعون ما تبقى من حطام حياتهم، أسمع صوت جدتي تحكي ذات القصة؛ أن تُقتلع من بيتك يعني أن تحمل جرحًا لا يلتئم، البيت ليس مجرد أربعة جدران وسقف؛ البيت هو الأمان، هو الامتداد الطبيعي للروح
الحرب تغير كل شيء. تغير الناس، تغير الأماكن، تغير حتى الطريقة التي نفكر فيها ونشعر بها. يظل الناجون منها محاصرين داخلها. لا تتركهم أبداً.
لا يمكن لأحد أن يدرك كل هذا ان لم يعش تفاصيله، حين يتم اعلان وقف اطلاق النار تدرك أن الحرب ليست مجرد قصف وانفجارات، بل هي حالة نفسية وجسدية تعيش داخل من بقي منها. تُعلمنا كيف نحمل هذا الإرث ليس بسبب قوة خارقة مزروعة فينا بل لأنه لا خيار لنا سوى ذلك.
النجاة من الحرب ليست نهاية الألم، بل بداية رحلة طويلة من المقاومة. الحرب تعيش فينا، في ذاكرتنا، في حكاياتنا، في الطريقة التي ننظر بها إلى العالم.تزرع فينا وطناً حاضرًا حتى في غيابه، شوق يتوق لوجوه سُلبت ضحكاتها، أحلام تبعثرت على قبور من فقدنا. إرثٌ لا يجعل منك فلسطينياً فحسب بل يحتّم عليك أن تحمل وطنك داخلك، وطنٌ يحمله اللاجئ معه أينما ذهب. بيتكِ يا جدتي حكاية شعبٍ كامل.
أن تكون فلسطينياً يعني أن ترفض القهر وتتحول إلى قوة تصرّ على البقاء. أدركت أن المقاومة ليست فقط ببندقية أو شعارٍ يُرفع، بل هي تراثٌ يعيش في كل كلمة نقولها عن وطننا، في كل زيتونة نغرسها، في كل قصيدة تُكتب عن العودة. هي فعلٌ يومي يبقينا على قيد الحياة.
اليوم، أفهم أن جدتي لم تكن تحكي لنا قصصًا عن الماضي فقط، أرى شعباً بأكمله يحكي قصتها، شعبٌ يواجه الموت والإبادة، ينهض من بين الركام، رغم القصف، رغم الخسارات يحركه الغضب، أرى شعباً يعلمنا الدرس ذاته: الناجون من الحرب لا يذوقون طعم الأمان أبداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
حَوراء -
منذ 7 ساعاتشي يشيب الراس وين وصل بينا الحال حسبي الله ونعم الوكيل
مستخدم مجهول -
منذ يومكل هذه العنجهية فقط لأن هنالك ٦٠ مليون إنسان يطالب بحقه الطبيعي أن يكون سيدا على أرضه كما باقي...
Ahmed Mohammed -
منذ يوماي هبد من نسوية مافيش منطق رغم انه يبان تحليل منطقي الا ان الكاتبة منحازة لجنسها ولا يمكن تعترف...
مستخدم مجهول -
منذ يومينوحدث ما كنا نتوقعه ونتأمل به .. وما كنا نخشاه أيضاً
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينصادم وبكل وقاحة ووحشية. ورسالة الانتحار مشبوهة جدا جدا. عقاب بلا ذنب وذنب بلا فعل ولا ملاحقة الا...
mahmoud fahmy -
منذ 6 أيامكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم