شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
من مرايا إلى مسافة أمان... الدراما السورية

من مرايا إلى مسافة أمان... الدراما السورية "تنكش" عش الدبابير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحريات الشخصية

الخميس 30 يناير 202511:44 ص

منذ التسعينيات وإلى اليوم، دخلت سوريا عصراً خاصاً بها، لا نتحدث عن عصر سياسي ولا جغرافي، بل عصر فني، عصر الدراما السورية التي أثّرت بأجيال عدة على امتداد الوطن العربي.

خلقت هذه الدراما حيّزاً مميزاً لها في القلوب والعقول، بنَت جسراً مع الناس وأظهرت لهم عيوبهم ومحاسنهم، أضحكتهم وأبكتهم وقامت بتوعيتهم، وإلى اليوم تُعادُ الكثير من الأعمال المخلدة على الشاشات أو عبر يوتيوب ليشاهدها الناس من جديد، إما في سهرة عائلية تعيد دفء العائلة السورية المشرذمة التي كانت ذات يوم تقضي وقتها تحتسي الشاي أمام مدفأة المازوت وهي تشاهد مسلسل التاسعة والنصف مساء على التلفزيون السوري، أو أثناء تناول الشاب المغترب لطعامه الذي حضّره وحده بعيداً عن أمه كي يستعيد لقطات ولحظات من الحنين، أو حين تحضير الأم للطعام في المطبخ كي تُسلي نفسها بعد أن فارقها أولادها.

هذه الدراما لم تكن مجرد رسائل وقصص مطروحة فقط، بل حكايات عنّا نحن، عن ذكرياتنا وأوجاعنا وقضايانا، وكل حوار أو مشهد يعيد لنا النوستاليجا وتلك الأيام التي لم نخسرها رغم حرب طويلة ما زالت آثارها موجودة إلى اليوم.

الفصول الأربعة

تماماً كعائلة كريم ونبيلة في مسلسل "الفصول الأربعة"، كانت تجتمع معظم العائلات السورية كل يوم خميس في بيت الجد والجدة، يتناولون الطعام ويتجاذبون أطراف الحديث؛ سهرات لا تخلو من الضحك والتسلية ولهو الأطفال. أيامٌ كانت مليئة بالحب، نقلت الدراما السورية تفاصيلها بأسلوب متميز راقٍ يحمل رسالة إنسانية، ليُطرَح في عدة أعمال، ولا سيما مع بداية عام الألفين، مجموعات متنوعة من الحكايات كانت أُسَرية بامتياز، تناقش قضايا الطفل والمرأة والشباب والعمل، وبعدها بدأت تتشعب لتلامس النقد الاجتماعي السياسي والفكري والثقافي والمجتمعي.

بقعة ضوء ومرايا

بين سلسلتي "مرايا" و"بقعة ضوء"، حاكى الفنان ياسر العظمة منذ الثمانينيات، مشكلات وقضايا المجتمع السوري، وبين الضحكة والكوميديا السوداء كانت اللوحات المطروحة تشرّح المجتمع السوري والعربي بأكمله، بل إن بعضها تنبأ بالمستقبل السياسي والتقني، ليحذو حذوه في ما بعد مسلسلُ "بقعة ضوء"، مقدماً لوحات درامية ناقدة لاذعة للسلطة والمجتمع أيضاً، ورغم أن هذه الأعمال كانت تخضع للسلطة والرقابة، لكن النظام السابق كان يسمح لها بالظهور من باب التنفيس عن السوريين/ات وادعائه بحرية الفن.

كانت تجتمع معظم العائلات السورية كل يوم خميس في بيت الجد والجدة، يتناولون الطعام ويتجاذبون أطراف الحديث؛ سهرات لا تخلو من الضحك والتسلية ولهو الأطفال. أيامٌ كانت مليئة بالحب، نقلت الدراما السورية تفاصيلها بأسلوب متميز

رغم ذلك كانت هذه المسلسلات بمثابة نواة لتأسيس أعمال درامية أخرى ترفع من السقف النقدي بشكل أكبر.

وإلى اليوم يَنظر المشاهد العربي لنفسه من خلال هذه الأعمال على مدار سنوات طويلة، لتبقى تلك اللوحات الدرامية بمثابة أرشيف درامي للمجتمع ورصد تغيراته بالتدريج.

ولادة من الخاصرة

من عمق الألم والوجع وتسلط السلطة، بدأت الدراما السورية باللعب على حبال النار و"نكش" عش الدبابير، فرغم الحفاظ على الدراما الأسرية والكوميديا الساخرة الناقدة، بدأت في منتصف الألفينيات تظهر ملامح لأعمال درامية "ثقيلة" تجابه جَور السلطة، كان أحدها وربما أقواها "غزلان في غابة الذئاب"، وتلاه العديد من المحاولات التي وضعت الاصبع على العين المجروحة، من خطف وتعذيب وسَجن وقتل بسبب التعبير عن الرأي أو مجابهة أزلام النظام.

من "الغزلان" إلى "لعنة الطين" و"الولادة من الخاصرة"، أعمالٌ درامية تخطت المتوقع والسقف، تحايلت على الرقابة قدر الإمكان ووصلت لمبتغاها، وربما كان لها دور ولو بعيد في انطلاق الثورة السورية عام 2011 بعد أن وجد السوريون أنفسهم محاطين بـ"حيطان إلها آدان"، على حدّ قولهم.

من عمق الألم والوجع وتسلط السلطة، بدأت الدراما السورية باللعب على حبال النار و"نكش" عش الدبابير، فرغم الحفاظ على الدراما الأسرية والكوميديا الساخرة الناقدة، بدأت في منتصف الألفينيات تظهر ملامح لأعمال درامية "ثقيلة" تجابه جَور السلطة، كان أحدها وربما أقواها "غزلان في غابة الذئاب"

مخاضٌ طويل للدراما السورية برز عنه في ما بعد ولادةٌ متعسرة من الخاصرة لأعمال عدة بدأت تنقسم على نفسها وتروي آلام وآمال السوريين/ات بين الحرب والثورة والتشرذم الذي دبَّ في قلب البلاد بين أصوات المدافع والانفجارات والمؤيد والمعارض.

عن الخوف والعزلة

بدأت حالة الهجرة والانقسام في المجتمع السوري ورحيله عن بلاده مجبراً، وبالتالي باتت الدراما السورية تسير على خُطى خطرة بين محاولة إرضائها للنظام الحاكم كي تصل للناس بطريقتها وبين أن تكون شفافة ذات أثر حر، فكانت المحاولات تلك تتم خارج سوريا كي تكون حرة الأفكار بعيداً عن سلطة النظام ورقابته مثل "قلم حمرة"، و"غداً نلتقي"، بينما بقيت الأعمال المُصَوَّرة في الداخل السوري تحاول أن تتحايل أو ترضي الرقابة، وبنفس الوقت تحكي بصوت الناس مثل "ضبوا الشناتي". لذا سُرقت الدراما من السوريين بسبب خناق الرقابة المحكَم، وظل الجمهور متعطشاً لمن يتحدث عنه، فحاول الفنانون والمنتجون، لكنهم لم يستطيعوا تخطي الممنوع إلا بما أمكن، وباتت الأعمال الشامية بمثابة هروب من الواقع مع حصار الدراما السورية الاجتماعية المعاصرة من القنوات العربية، وأصبحت الإسقاطات غايةً لدى الكُتّاب في الأعمال التي يكتبونها، لإيصال صورة عن معاناة السوريين لكن بأسلوب مبطن، وبقي الجمهور منتظراً أن تعود له حكاياته بعد أن شعر أن بينه وبين وطنه والدراما سوراً من الخوف والعزلة.

مسافة أمان

رغم التخبطات التي حلت بها، لكن الدراما السورية بقيت متماسكة قدر الإمكان، لها جمهورها الواسع بأيديولوجياته المختلفة ينتظر كل مرة حكاية جميلة جديدة تتحدث عنه كما كان يحدث في السابق.

اليوم بعد سقوط النظام ورفع شعار الحرية للثورة السورية منذ انطلاقتها، وبما أن الحرية لا تتجزأ ولا تكون مشروطة بأهواء معينة، ينتظر الفنانون السوريون ويعملون كي يستعيدوا أنفسهم من خلال طرح أفكارهم بحرية كانت محدودة بسقف منخفض، لكنهم يخشون أن يُعاد السيناريو نفسه بأسلوب مختلف فيتحول من ديكتاتورية أمنية إلى ديكتاتورية دينية تفرض ما تريد هيَ أن تتحدث به.

إلى أن تتبلور سوريا الجديدة بكل ما فيها، يعيد الجمهور ما شاهدوا وسمعوا ورأوا من حكايات درامية سورية كانت جزءاً أساسياً من حياتهم، على أمل أن يكون فنُّ بلادهم في الأيام القادمة جزءاً غير مسلوبٍ منهم، كما سُلِبت سابقاً أراضيهم وبيوتهم، فهم اليوم على مسافة أمان مع الوطن والدراما السورية

غير أنه لا يمكن التكهن حتى اليوم بالوضع الفني بسوريا مستقبلاً، فهو، كما كل البلاد، يخط طريقه الأول نحو الحرية والحياة كي يعود صوت الناس ويرسم ملامحهم بشكل شفاف دون مواربة أو تضليل.

إلى أن تتبلور سوريا الجديدة بكل ما فيها، يعيد الجمهور ما شاهدوا وسمعوا ورأوا من حكايات درامية سورية كانت جزءاً أساسياً من حياتهم، على أمل أن يكون فن بلادهم في الأيام القادمة جزءاً غير مسلوبٍ منهم كما سُلِبت سابقاً أراضيهم وبيوتهم، فهم اليوم على مسافة أمان مع الوطن والدراما السورية وكل ما يحيط بهم، فقد اعتادوا الانتظار وها قد أفضى إلى نتيجة بعد سنين عجاف، ويبقى أن نعرف نتيجة هذا الانتظار إلى أين من الممكن أن يؤدي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image