قادتني خوارزميات اليوتيوب إلى لقاء مع رئيس الوزراء والمرشح الرئاسي الأسبق في مصر، أحمد شفيق، أطلق خلاله تصريحاً غريباً: "أنا حاربت واتحاربت... قتلت واتقتلت". كان واضحاً من اللقاءات التي عُقدت مع شفيق في تلك الفترة، أنه لم يكن في حالة ذهنية جيدة. بالطبع لا أقول إنه وصل إلى مرحلة الخرف، لكنه بالتأكيد لم يكن واعياً بنسبة كاملة في أثناء ظهوره الإعلامي في برامج مختلفة، حتى تحول إلى مادة دسمة في الصفحات والحسابات الساخرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
بعد أن انتهت مرحلة الضحك التي أعادتني إلى أيام كنت شاهداً فيها على زخم سياسي كبير في شوارع مصر، سألت نفسي: "هل نجحت حقاً في معركة محددة قررت خوضها قبل سنوات؟". من يعرفني من قرب، يعرف أيضاً أن هذه المعركة تتعلق بانتمائي إلى دمشق تحديداً دون أي مدينة أخرى قضيت فيها سنوات عدة.
لا يضرّني الاعتراف بأنني فشلت في هذه المعركة تحديداً. ما زال جزء مني هناك، وعجزت عن إخراج هذه المدينة من ذاكرتي ومن روحي.
لا يمكن لشخصين دمشقيين أن يجلسا من دون أن يتحدثا عن مدينتهما سلباً وإيجاباً
لكنني فضّلت هذه المرة أن أفكر في الأسباب التي جعلتني أفشل في التغلب على هذا الانتماء (الجدير بالذكر أن حاتم علي كان من نبهني إلى فشلي في المعركة، وهذا موضوع آخر لعلّني أكتب عنه قريباً)، ووجدت أن السبب الرئيس يتعلق بحالة "النوستالجيا" العميقة التي تحتل مساحةً واسعةً في مخيّلتي عن دمشق، وزادها اهتمامي بالتاريخ السوري الحديث لأسباب عدة، وهو ما دفعني بدوره للاطلاع على العديد من المؤلفات والوثائق الخاصة بهذه الفترة.
لم تمضِ أيام قليلة قبل أن ألتقي صدفةً بأحد الأصدقاء الدمشقيين في معرض إسطنبول الدولي للكتاب العربي، وهو معرض بالمناسبة لا يخذل أحداً بالتوقعات السلبية عنه، لأسباب عدة. المهم أني وصديقي قررنا الجلوس في مقهى قريب للحديث عما ينتظرنا من مستقبل معقّد في هذه المدينة، أي إسطنبول.
لا يمكن لشخصين دمشقيين أن يجلسا من دون أن يتحدثا عن مدينتهما سلباً وإيجاباً. سألته: هل تعاني يا صديقي العزيز من حالة النوستالجيا نفسها؟ فضحك بصوت عالٍ جعل نادل المقهى يوجه نظرات الملامة إلينا بشكل مباشر (يكفي أننا سوريان ليحدث هذا الأمر أصلاً في الفترة الحالية في تركيا).
كان الاستنتاج أن من هو خارج سوريا ومن الأجيال التي تنتهي لدى جيل التسعينيات تحديداً، عرف البلاد جيداً، ولديه بالرغم من التفاصيل المؤلمة الكثيرة في ذاكرته، الكثير من تفاصيل الدفء والحب التي كانت لدى العائلات السورية المختلفة
قادنا الحديث عن البلاد والعباد والماضي والحاضر إلى نقطتين كان لهما بالغ الأثر في تحديد أزمة النوستالجيا الموجودة حالياً، والتي خالفتُ رأي صديقي فيها حول مدى انتشارها لدى السوريين خارج البلاد تحديداً. لكن صديقي أجابني بهدوء: "ومن قال لك إن هذه الحالة لدى سوريي الخارج فقط؟".
كان الاستنتاج أن من هو خارج سوريا ومن الأجيال التي تنتهي لدى جيل التسعينيات تحديداً، عرف البلاد جيداً، ولديه بالرغم من التفاصيل المؤلمة الكثيرة في ذاكرته، الكثير من تفاصيل الدفء والحب التي كانت لدى العائلات السورية المختلفة (قبل أن تقولوا شيئاً أعرف أننا لسنا مجتمعاً مثالياً ولديه كأي مجتمع آخر الكثير من المشكلات)، لكنني أتحدث هنا عن تفاصيل كانت تجمع الأسرة في مكان واحد، وزاوية واحدة، وتالياً ومع غياب هذه التفاصيل اليوم، نجد أن من هو في داخل سوريا أيضاً لديه حنين أو نوستالجيا معينة ناتجة عن تفاصيل معينة عاشها في سوريا ما قبل الثورة، وقبل أن يقرر بشار الأسد نسف نصف الشعب السوري، وقبل أن تقرر قوى الظلام الاستيلاء على الحلم ومنعنا من مجرد التفكير فيه.
تجب الإشارة هنا إلى أن مسلسلات الدراما السورية "الواقعية"، كان لها أثر كبير في عملية النوستالجيا التي أثّرت على السوريين.
تابع قائلاً: "تعرف أننا نعتقد كسوريين بأن أرواح الأحبّة الراحلين (تتروحن) بزيارتنا لهم في القبور! لذا أبي لم ولن يخرج من دمشق. ما زال في بيته حتى لا يكون وحيداً في النهاية". ثم تابع: "هل تذكر ناجي؟ قُتل وهو اليوم تحت تراب بارد لا يعرفه، وحيداً! من يزور ناجي غيري؟ لا أعرف. تقتلني وحدته في قبر صغير في مدينة غازي عنتاب". ربما حديثه هنا كان أحد أشكال النوستالجيا المجتمعية أيضاً!
تجب الإشارة هنا إلى أن مسلسلات الدراما السورية "الواقعية"، كان لها أثر كبير في عملية النوستالجيا التي أثرّت على السوريين، خاصةً ضمن الأعمال المصنّفة على أنها أعمال اجتماعية واقعية تتحدث عن الأسر السورية البسيطة، وكان من الطبيعي في ظل الحياة في مملكة الصمت والأعمال الدرامية والإعلام الموجّه أن تكون هذه الأعمال هي مصدر التسلية في "مملكة الأسد"، ولا حلول سوى مشاهدتها (بالتأكيد لا أتحدث عن مدى جودتها الفنية).
وبالمناسبة، فإن هذه النوستالجيا تتعلق أيضاً بشخصيات درامية وكوميدية مضحكة، تعيد محبّيها إلى زمن وبلد مختلفين عما يعيشونه اليوم سواء في سوريا أم خارجها، ويمكن ملاحظة هذه النقطة من مسلسلات "الفصول الأربعة" و"أحلام كبيرة" و"عيلة خمس نجوم".
كما أن إحدى التفاصيل المضحكة، والتي قد تبدو بدورها تافهةً للبعض، بينما أراها في قلب هذه النوستالجيا أو الحنين إلى هذه المدينة وإلى هذه البلاد، هي شخصية "إسماعيل كمخة" التي قدّمها الممثل فارس الحلو في مسلسل "أبو الهنا"، وهي شخصية يصح أن تُطلَق عليها صفة العبثية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
عليّ القول إننا شريحة واسعة من السوريين خارج البلاد، ما زلنا نعيش كسوريين، مهما بلغ مستوى الاندماج مع المجتمعات الجديدة
إذاً، ربما لدينا كسوريين من أجيال معيّنة، نوستالجيا موحّدة، هي ربما الوحيدة التي لم تتعرض للانقسام كما أي شيء آخر في البلاد، انقسام سياسي وإنساني حد القرف والتعب؛ أخ يشمت بأخيه لأنه "فقط يجلس في مناطق سيطرة النظام" والعكس صحيح. وإذا صادف واجتمع الشامتان معاً على طاولة واحدة، وحيّدا الأحاديث عن الشقّين الإنساني والسياسي والكارثة التي حلّت بالبلاد، فإن هذه النوستالجيا، تجاه "اسماعيل كمخة" أم الشتائم الموجهة إلى الحكم في مباراة كرة قدم أم غيره، تعبر بهما إلى شاطئ آخر، ولو إلى حين، وضمن حيز زمني قصير للغاية لن يتعدى انتهاء الجلسة.
لم أستطع سوى أن أصمت وأنظر في عيني صديقي، ووجدت بالرغم من الابتسامة على محياه، الخوف من الوحدة والقسوة اللتين تنتظراننا جميعاً. نعم سوريا لم تكن أماً حنونةً علينا، لكن الخالات الأخريات كن أشدّ قسوةً علينا أيضاً.
عليّ القول إننا شريحة واسعة من السوريين خارج البلاد، ما زلنا نعيش كسوريين، مهما بلغ مستوى الاندماج مع المجتمعات الجديدة. نقلنا سوريتنا بسلبياتها وإيجابياتها إلى الخارج، واستفدنا منها في مئات بل آلاف التفاصيل، وحافظنا على هويتنا. ومن قال إن الاندماج يعني نسف الهوية؟
لذا وجدت أن هذه النوستالجيا التي عددتُ لفترة طويلة أنها سلاح تحاربني به ذاكرتي بشكل شبه يومي، لها أثر إيجابي بشكل ما، وهذا الأثر لا يتعلق بصوت فيروز وشوارع دمشق، بل بذكريات محببة إلى قلبي الذي عاش كغيره، في يوم ما، براءة الأطفال، وبصور درامية متعددة، لا يجمع بينها سوى أنها جميعها كانت في الشتاء، في حضن جدتي أمام تلفاز قديم يذيع ما تيسّر له وسُمح بإذاعته.
أعرف أن هذه النوستالجيا والذكريات الجميلة التي عشتها كانت بمحض صدفة ما، ولم تكن خاليةً من الآلام المتعددة والقسوة، كذلك غيري ممن فقد أحباءه في سجون النظام ومعتقلاته
كل شيء يقسم السوريين اليوم. حرفياً كل شيء في بلاد مشرذمة واقعة تحت رحمة جيوش أجنبية مهما بلغت سوريتها. شيء يشبه الاحتلال المحلي بشكل ما. فقط هي النوستالجيا بانقساماتها المتعددة وأشكالها المختلفة ومشاعرها المتضاربة تعطي صورةً عامةً عن مجتمع ظنناه جميعاً واحداً متوحداً.
في الختام، أعرف أن هذه النوستالجيا والذكريات الجميلة التي عشتها كانت بمحض صدفة ما، ولم تكن خاليةً من الآلام المتعددة والقسوة، كذلك غيري ممن فقد أحباءه في سجون النظام ومعتقلاته أو بآلام الحياة التي سبّبها النظام نفسه في يوم ما.
لذا أعرف أن هذه النوستالجيا التي حاولت وصف جانبها الجميل في الأعلى، لديها جانب متوحش ومظلم وقاسٍ ومخيف أيضاً. وجه يهرب منه الكثير من السوريين الواقفين في صفوف انتظار حلّ لن يأتي إلا بأيديهم، وعندما يأتي يوماً ما، يمكن لنا أن نصنع حياةً مختلفةً تعطي حنيناً مستحقاً إلى بلاد لنا، وليست لمن سرق أحلام البلاد والعباد ونهبها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...