شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الرثاء الرقمي في غزة... لماذا ننشر محادثاتنا مع أصدقائنا بعد أن يرحلوا؟

الرثاء الرقمي في غزة... لماذا ننشر محادثاتنا مع أصدقائنا بعد أن يرحلوا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

انتهى الموت في غزة، لكنّ الرثاء لم ينته. وفي الحياة الجديدة مقطّعة الأوصال الاجتماعية، أصبح الرثاء الرقمي عبر مواقع التواصل ملاذاً لبوح الحداد الذي يعم قطاع غزة، وشكلاً من أشكال بيوت العزاء المفتوحة، التي حُرم الغزيون من إقامتها في بيوتهم على مدار عام ونيّف.

لكن الرثاء الرقمي في العالم، ولّد ظاهرة جدلية في السنوات الأخيرة؛ ففي كل مرة يرحل أحدهم، يُعيد أصدقاؤه تدوير أرشيفهم الشخصي مع الفقيد، عبر نشرهم لمحادثاتهم الأخيرة والرسائل الحديثة التي لم تكتمل معه.

"الحزن يحتاج إلى من يشهد عليه حتى يُشفى. وعندما ننشر على إنستغرام أو فيسبوك عن أحبائنا الذين ماتوا، فإننا نسمح للآخرين أن يكونوا قادرين على مشاهدة حزننا"، يقول الكاتب ديفيد كيسلر.

لكن في عالم تبدو فيه حدود الخصوصيّة ضبابية، شكلت هذه الظاهرة جدلاً واسعاً، وبرزت تساؤلات عما إذا كان نعي الأحبة الرقمي، بمثابة تعريف صادق عن الحزن أم محاولة للفت الأنظار وجذب التفاعل.

تخليد للذكرى أم انتهاك للخصوصية؟

"عندما رحلت صديقتي وزميلتي إيمان الشنطي، شعرت بحاجة ملحة لتخليد ذكراها. فقمت برثائها عبر نشر محادثتنا الرقمية الأخيرة في حسابي على فيسبوك. ولا أعتقد أن هذا التصرف بالنسبة لإيمان هو انتهاك لخصوصيتها، لكونها نشطة عبر مواقع التواصل الاجتماعي"، تقول الثلاثينية أنسام عودة إثر رحيل الصحافية إيمان الشنطي، التي اغتالتها إسرائيل في كانون الأول/ديسمبر 2024.

شعرت أنسام أن المحادثة الأخيرة بينها وبين صديقتها الراحلة، كانت بمثابة وداع أخير. "ربما شعرت إيمان بدنوّ أجلها. حين تلقيت الخبر تذكرت حديثنا الأخير. فنشرته كتعبير عن حزني وصدمتي"، تقول لرصيف22.

عندما رحلت صديقتي وزميلتي إيمان الشنطي، شعرت بحاجة ملحة لتخليد ذكراها. فقمت برثائها عبر نشر محادثتنا الرقمية الأخيرة في حسابي على فيسبوك. ولا أعتقد أن هذا التصرف بالنسبة لإيمان هو انتهاك لخصوصيتها

وتردف: "لا يوجد في المحادثة الأخيرة التي دارت بيننا أي تعدّ لحدود خصوصية. كل ما في الأمر أنني أردت نعي إنسانة جمعتني بها علاقة صداقة وأخوة وزمالة قوية، تحديداً عندما كانت مقيمة في إسطنبول قبل عودتها إلى غزة. جمعتنا هويتنا الفلسطينية في الغربة. وفي رحيلها، فقدت شقيقة وإنسانة قوية".

هذا ما شعرت به شرود شقورة أيضاً، حين نعت صديقتها المقربة فاطمة كريري، فقامت بنشر آخر المحادثات بينهن عبر صحفتها على فيسبوك: "كان هذا تعبيري عن حبي وحزني"، تقول لرصيف22.

وتتابع قائلةً: "كان هدفي من وراء نشر الكلمات الأخيرة بيني وبين فاطمة، الإشارة إلى أنها كانت صديقة ودودة. نشرتها بشكل عفوي. فنحن نجد في مواقع التواصل الاجتماعي مساحة للبوح عن همومنا وأحزاننا. وواجبي أن أرثي أصدقائي بمنشور فيسبوكي".

وتؤكد شرود أنها أرادت أن يسمع الآخرون حزنها على صديقتها، وأن يشاركوها الحزن ذاته.

وفي مقابل هذا الحزن الذي يُظهره الأحبة على الراحلين، يظهر جانباً لا يقل أهمية عن خصوصيّة الفقيد وأرشيفه الشخصي، فهل كان سيروق له نشر محادثاته الشخصية لو كان لا يزال على قيد الحياة؟

كذلك، يتجلى خرق الخصوصية هذا حين يجد أهالي الضحايا أمام كشف حياة أبنائهم في الفضاء الرقمي العام. "تفاجأنا بعد مرور يومين من فقدان شقيقي، بقيام أصدقائه بنشر المحادثات بينهم وبينه، دون أن يستأذننا أحد"، يقول الغزي حسيب فتحي (40 عاماً). ويؤكد أن شقيقه ما كان ليسمح بكشف هذه المحادثات، حتى لو كانت محادثات يومية وعابرة.

اللحاق بالـ"ترند"

"صحيح أن شقيقي كان نشيطاً في مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أني شعرت أن الناس أرادوا الحصول على ردود فعل واهتمام بعد نشر محادثاتهم معه بعد موته، من باب اللحاق بالـ'ترند' واستغلال جماهيرية أخي، وكسب الانتباه، أكثر من كونهم ابتغوا أن يواسيهم الآخرون".، يقول حسيب لرصيف22.

ويؤكد أن غالبية من رثوه ليسوا من أصدقائه المقربين. "هؤلاء متابعون قاموا بأخذ صور له من صفحته الشخصية ونشروها في صفحاتهم، معلقين بكلمات الوداع الأخير. الأمر جعلني أشعر بمقت شديد".

"صحيح أن شقيقي كان نشيطاً في مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أني شعرت أن الناس أرادوا الحصول على ردود فعل واهتمام بعد نشر محادثاتهم معه بعد موته، من باب اللحاق بالـ'ترند' واستغلال جماهيرية أخي"

ويوضح حسيب أن العائلة، في لحظات رحيل الفقيد الأولى، تكون في حالة صدمة وألم شديدين، ولا تكترث بمتابعة ما يُنشر عن فقيدها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. "بالنسبة لنا، كان كافياً أن يقوم أصدقاؤه ومن يحبه بالدعاء له، وتذكّر محاسنه ومواقفه، عوضاً عن اقتحام خصوصيته بنشر الحلقات الأخيرة من محادثاته ومقاطع فيديو وصور خاصة به"، يضيف قائلاً.

ويشير إلى أنه يتفهم التأثر الذي يدفع صاحبه، تحت وطأة الصدمة، إلى التعبير عن مشاعره الأولى من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، "لكن من المفترض أن يسري ذلك تحت معايير إنسانية وضوابط معينة"، يؤكد.

وكان تقرير نشره موقع "باور أوف بوزيتيفتي"، قد نصح تجنب نشر معلومات على شبكات التواصل الاجتماعية عند حدوث وفاة، مثل المعلومات الخاصة والمحادثات، الخلافات الشخصية، والعلاقات العاطفية.

ويعتبر التقرير نشر الصور والمحادثات الخاصة انتهاكاً للطرف الآخر، إلا في حالة الحصول على موافقته قبل النشر. لكن في حالة الوفاة، التي تحول دون الحصول على الموافقة، يجب أن يمتنع الناس عن النشر مهما رأوا فيه من أهمية.

الرثاء خارج الشاشات

وفي ظل هذا الجدل حول حدود الرثاء الرقمي، يشير خبير الأمان المعلوماتي محمد يوسف، في حديثه لرصيف22، إلى ضوابط التعاطي مع رحيل الأصدقاء، قائلاً: "عند سماع خبر الرحيل، قد يشعر المرء بالحاجة الملحة للتعبير عن الحزن عبر مواقع التواصل. لكن لا بد من مراعاة الخصوصية. ومراعاتها لا تمنع من الراثي أن يكشف عن مناقب الفقيد في كتابة منشور رثائي، ولا أن يشارك ذكرياته الجميلة معه. لكن مسألة نشر الحادثات الشخصية الأخيرة مسألة حساسة".

ويؤكد يوسف على ضرورة احترام مشاعر عائلة الراحل. فمشاركة هذا النوع من المنشورات على الملأ، قد لا تساعد في جبر حزن العائلة.

نحن نجد في مواقع التواصل الاجتماعي مساحة للبوح عن همومنا وأحزاننا. وواجبي أن أرثي أصدقائي بمنشور فيسبوكي.

ويختم قائلاً: "من المهم أن نتذكر أن مواقع التواصل ليس المكان الوحيد لتفريغ الحزن. أنصح الفاقدين بتخصيص وقت للتأمل والتفكير بعيداً عن الشاشات. يمكنكم زيارة القبر، الدعاء للميت، أو القيام بأعمال خيريه باسمه".

ويعيش بعض الغزيين، سيما بعد أن سمحت الهدنة لهم بأن يبكوا ويحزنوا على أحبائهم الذين رحلوا خلال حرب الإبادة الإسرائيلية، رثاءً مفتوحاً لم يصحبه وداع جسدي أو دفن. فمنهم من فقدوا أحباءهم في مناطق بعيدة سيطر عليها الجيش الإسرائيلي، فعادوا ليجدوهم هياكل عظمية. ومنهم من لم يجدوا جثث أحبائهم بعد أن فُقدت أو تبخّرت بفعل حرارة الأسلحة، أو سُرقت خلال عمليات نبلش المقابر التي قام بها الجيش الإسرائيلي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image