شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
القصة بدأت من القامشلي… كيف صنع فرحان بلبل بصمته في تاريخ المسرح السوري؟

القصة بدأت من القامشلي… كيف صنع فرحان بلبل بصمته في تاريخ المسرح السوري؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

السبت 18 يناير 202512:48 م

 في عام 2022، أتاحت لي الظروف لقاءَ الفنان والكاتب والشاعر والمخرج السوري فرحان بلبل، ابن مدينة حمص. كانت زيارة مطولة في منزله أو لنقُل في الغرفة التي اختارها في منزله منذ عام 1973، لتكون مكاناً لنشاطه الثقافي، حيث امتلأت تلك الغرفة بمعظم صور عروض فرقته (فرقة المسرح العمالي)  بالإضافة إلى بعض الأوسمة والشهادات. وكانت هذه الغرفة مكاناً ثقافياً تقام فيه الندوات في معظم الأوقات، بالإضافة لكونها مكاناً لإقامة الأصدقاء القادمين من داخل سوريا أو خارجها، كما أخبرني حينها.

استقبلني بدوري في نفس الغرفة برفقة ابنته عفراء التي كانت حاضرة في معظم الحوار، لتؤيد ما يقول أو لتؤكد معلومةً خانته ذاكرته حولها. كان سعيداً جداً بهذا الحوار، كما أخبرني،  وليس فقط كما شعرت. وكان يريد أن يحكي من خلاله عن جل تجربته، لا أن يكون مجرد لقاء سريع وخاطف عنه. فاستجبت لذلك وكأننا عقدنا اتفاقاً ضمنياً في ما بيننا؛ فحدثني عن طفولته المبكرة التي صنعت منه خطيباً لدى عائلته التي كانت تقيم حلقات للذكر أو ما يسمى "احتفالات صوفية"، وكيف تم تلقيبه بفارس المنابر حتى قبل بلوغه 15 عاماً. كما أخبرني عن عمه الذي شجعه على ذلك بشكل كبير حين اصطحبه إلى أحد التجمعات ليلقي خطبة، وصاروا ينادونه منذ ذلك الوقت بالفتى فرحان بلبل.

لا أعرف كيف انكبت على ذاكرتي اليوم كل تلك التفاصيل؛ ربما لأن رحيل بلبل (1937-2025) جاء على رأسي كالضربة، رغم أنني كنت أجهز نفسي لهذا الخبر منذ أيام؛ فابنته عفراء كانت شبه متأكدة أنه راحل هذه المرة لا محالة، وسألت نفسي: هل من المعقول أن يكون قلبه  قد تعب وهو بانتظار وصول ابنه نوار بلبل الغائب قسراً عن سوريا؟ لكن المفرح، بكل تأكيد، أنه استطاع اللقاء به وتقبيله ولمسه وربما توديعه. ربما كان متعباً وكان يمسك قواه وقلبه فقط لكي يلتقي ابنه ويودعه.

حدثني عن طفولته المبكرة التي صنعت منه خطيباً لدى عائلته التي كانت تقيم حلقات للذكر أو ما يسمى "احتفالات صوفية"، وكيف تم تلقيبه بفارس المنابر حتى قبل بلوغه 15 عاماً

لم يحظ بلبل بفرصة لتعلم فن المسرح بشكل أكاديمي، لكنه على الرغم من ذلك، تعلمه من الكتب التي قرأها ومن التجارب الكثيرة جداً التي حضرها في مسارح سوريا. كما أخبرني قائلاً: "كنت أذهب لمشاهدة العروض المسرحية في أي مكان تعرض فيه داخل سوريا، مهما كان بعيداً. سافرت إلى دير الزور وحلب واللاذقية ودمشق، أشاهد العرض وأعود أدراجي لمدينتي حمص، وكانت أقرب العروض بالنسبة لي عروض مدينة دمشق على اعتبارها المدينة الأقرب لمدينة حمص، وبالتالي كونت في تلك المرحلة صورة شبه متكاملة عن المسرح السوري".

فرحان بلبل

كما أخبرني عن أول نص كُلّف بكتابته صدفةً في العام 1960 حين كان مدرساً في مدينة القامشلي، الواقعة في أقصى الشمال الشرقي من سوريا، وفي هذه المدينة النائية حدثت المفارقة، وبدأت علاقته مع المسرح عندما طلب منه إسكندر عزيز أن يكتب مسرحية ليقوم بإخراجها. فكتب نصاً بعنوان "الثأر الموروث"، عن أسرة فلسطينية تهاجر من فلسطين بعد النكبة حاملةً ذكرياتها وآلامها التي تحولت إلى ثأر شخصي ووطني موروث عند أبنائها. كانت فلسطين جرحاً أطل في أول مغامرة مسرحية لبلبل، وظلت حاضرة في أكثر ما كتب في ما بعد.

لكن توقفه عند مرحلة "المسرح العمالي" التي استمرت لحوالي 40 عاماً، كانت أهم ما أراد المرور عليه، وخاصة أن الفرقة أسست في مدينة حمص المعروفة أنها من أكثر المدن محافظةً، وكيف أنه بدا أباً متفتحاً وديمقراطياً لدرجة أنه سمح لبناته بالانضمام لفرقته المسرحية، في حين كان يرى البعض  وقتها، حتى في موضوع الانتساب دراسياً للمعهد العالي للفنون المسرحية، أمراً غير لائق لبناتهم.
عند هذه النقطة تدخلت عفراء قائلة: "تربينا ضمن فرقة المسرح العمالي وكنا نشعر بالأمان وجوّ العائلة ضمن الفرقة، التي تتكون من أقرباء (أخ وأخته)، يذهبان ويعودان برفقة بعضهما بعضاً؛ فالبروفات كانت تستمر لساعات وكنا نسافر سوياً. بالتالي كان لدينا جو عائلي. اما بالنسبة لأعضاء الفرقة، فقد مرّ  عليها كثيرون، بعضهم استمرّ لساعات وبعضهم لأيام، وبعضهم لشهور، والبعض الآخر استمر منذ التأسيس وحتى آخر العروض. كنا نشرح لهم عن المسرح وعن أهميته وأنه مكان ليس للتسلية، وعن المهام المناطة بالمنتسب للفرقة والتي تتجاوز التمثيل للديكور وتنظيف المسرح. لذلك من كانت نواياه سيئة انسحب فوراً".
أما بلبل فرد: "كنت رأس حربة في التغيير الاجتماعي والتغيير في عقلية أهل مدينة حمص؛ رجل أدخل بناته للعمل في المسرح كان أمراً كبيراً جداً، وخاصة أنني أنتمي لأسرة 'كريمة'، الأمر الذي بثّ الجرأة لدى الأسَر الكريمة الأخرى لإرسال بناتها للمسرح، أسوة بما فعل فرحان بلبل".
كان بلبل حزيناً على واقع المسرح الذي لا أهمية له ، قائلاً: "وكأن المسرح أصبح مجرد 'كمالة عدد لا أكثر'، فأحياناً نشاهد عروضاً مسرحية تافهة أو ضعيفة كنوع من الواجب "
في جعبة بلبل، خريج كلية الآداب من قسم اللغة العربية، 37 نصاً مسرحياً تمت طباعتها ونشرها جميعها، من ضمنها ثلاثة نصوص مسرحية للأطفال، بالإضافة إلى 15 كتاباً في النقد المسرحي. أما آخر كتاب له والذي صدر لأربع طبعات متتالية في مختلف الدول العربية فكان "أصول الإلقاء والإلقاء المسرحي"، وهو الكتاب الذي ألفه بعد تجربة طويلة في تدريس مادة الإلقاء لطلاب المعهد العالي للفنون المسرحية قسم التمثيل. كما أنه أخرج عشرات  المسرحيات، سواءً تلك التي كتبها بنفسه أو لكتاب آخرين، وكان سعيداً جداً بتلك التجارب وبتشجيع الجمهور له.

أخبرني عن عروضه التي أقامها سواءً في سوريا أم خارجها، وكيف كانت تنتهي بالتصفيق وقوفاً، وكانت عيناه تلمعان حين مرّ على العرض الذي قدمه في بغداد: "القرى تصعد إلى القمر عن نص دائرة الطباشير"، وخاصة العروض  الأخيرة التي  أمطرت بغداد فيها مطراً كثيفاً، قائلاً: "المعروف أنه لا مجارير في بغداد، مما يعني أنها ربما ستغرق. فاقترحوا علينا عدم الذهاب للمسرح،  لأنه ما من جمهور يمكنه الوصول. لكنني أصررتُ على الحضور، وعندما وصلنا وجدنا المسرح الذي يضم 650 مقعداً ممتلئاً، والوقوف أكثر من الجلوس".

فرحان بلبل

لكن بلبل كان حزيناً أيضاً في ذلك اللقاء على واقع المسرح الذي لا أهمية له، قائلاً: "وكأن المسرح أصبح مجرد 'كمالة عدد، لا أكثر' ،فأحياناً نشاهد عروضاً مسرحية تافهة أو ضعيفة كنوع من الواجب ".

اليوم برحيل فرحان بلبل  تفقد سوريا والمسرح السوري  قامة كبيرة من قامات المسرح السوري، كان لها بصمة وتأثير كبير على جيل كامل، سواءً من خريجي المعهد أم من العاملين في فرقته، "فرقة المسرح العمالي". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image