في عام 2022، أتاحت لي الظروف لقاءَ الفنان والكاتب والشاعر والمخرج السوري فرحان بلبل، ابن مدينة حمص. كانت زيارة مطولة في منزله أو لنقُل في الغرفة التي اختارها في منزله منذ عام 1973، لتكون مكاناً لنشاطه الثقافي، حيث امتلأت تلك الغرفة بمعظم صور عروض فرقته (فرقة المسرح العمالي) بالإضافة إلى بعض الأوسمة والشهادات. وكانت هذه الغرفة مكاناً ثقافياً تقام فيه الندوات في معظم الأوقات، بالإضافة لكونها مكاناً لإقامة الأصدقاء القادمين من داخل سوريا أو خارجها، كما أخبرني حينها.
استقبلني بدوري في نفس الغرفة برفقة ابنته عفراء التي كانت حاضرة في معظم الحوار، لتؤيد ما يقول أو لتؤكد معلومةً خانته ذاكرته حولها. كان سعيداً جداً بهذا الحوار، كما أخبرني، وليس فقط كما شعرت. وكان يريد أن يحكي من خلاله عن جل تجربته، لا أن يكون مجرد لقاء سريع وخاطف عنه. فاستجبت لذلك وكأننا عقدنا اتفاقاً ضمنياً في ما بيننا؛ فحدثني عن طفولته المبكرة التي صنعت منه خطيباً لدى عائلته التي كانت تقيم حلقات للذكر أو ما يسمى "احتفالات صوفية"، وكيف تم تلقيبه بفارس المنابر حتى قبل بلوغه 15 عاماً. كما أخبرني عن عمه الذي شجعه على ذلك بشكل كبير حين اصطحبه إلى أحد التجمعات ليلقي خطبة، وصاروا ينادونه منذ ذلك الوقت بالفتى فرحان بلبل.
لا أعرف كيف انكبت على ذاكرتي اليوم كل تلك التفاصيل؛ ربما لأن رحيل بلبل (1937-2025) جاء على رأسي كالضربة، رغم أنني كنت أجهز نفسي لهذا الخبر منذ أيام؛ فابنته عفراء كانت شبه متأكدة أنه راحل هذه المرة لا محالة، وسألت نفسي: هل من المعقول أن يكون قلبه قد تعب وهو بانتظار وصول ابنه نوار بلبل الغائب قسراً عن سوريا؟ لكن المفرح، بكل تأكيد، أنه استطاع اللقاء به وتقبيله ولمسه وربما توديعه. ربما كان متعباً وكان يمسك قواه وقلبه فقط لكي يلتقي ابنه ويودعه.
حدثني عن طفولته المبكرة التي صنعت منه خطيباً لدى عائلته التي كانت تقيم حلقات للذكر أو ما يسمى "احتفالات صوفية"، وكيف تم تلقيبه بفارس المنابر حتى قبل بلوغه 15 عاماً
لم يحظ بلبل بفرصة لتعلم فن المسرح بشكل أكاديمي، لكنه على الرغم من ذلك، تعلمه من الكتب التي قرأها ومن التجارب الكثيرة جداً التي حضرها في مسارح سوريا. كما أخبرني قائلاً: "كنت أذهب لمشاهدة العروض المسرحية في أي مكان تعرض فيه داخل سوريا، مهما كان بعيداً. سافرت إلى دير الزور وحلب واللاذقية ودمشق، أشاهد العرض وأعود أدراجي لمدينتي حمص، وكانت أقرب العروض بالنسبة لي عروض مدينة دمشق على اعتبارها المدينة الأقرب لمدينة حمص، وبالتالي كونت في تلك المرحلة صورة شبه متكاملة عن المسرح السوري".
كما أخبرني عن أول نص كُلّف بكتابته صدفةً في العام 1960 حين كان مدرساً في مدينة القامشلي، الواقعة في أقصى الشمال الشرقي من سوريا، وفي هذه المدينة النائية حدثت المفارقة، وبدأت علاقته مع المسرح عندما طلب منه إسكندر عزيز أن يكتب مسرحية ليقوم بإخراجها. فكتب نصاً بعنوان "الثأر الموروث"، عن أسرة فلسطينية تهاجر من فلسطين بعد النكبة حاملةً ذكرياتها وآلامها التي تحولت إلى ثأر شخصي ووطني موروث عند أبنائها. كانت فلسطين جرحاً أطل في أول مغامرة مسرحية لبلبل، وظلت حاضرة في أكثر ما كتب في ما بعد.
كان بلبل حزيناً على واقع المسرح الذي لا أهمية له ، قائلاً: "وكأن المسرح أصبح مجرد 'كمالة عدد لا أكثر'، فأحياناً نشاهد عروضاً مسرحية تافهة أو ضعيفة كنوع من الواجب "
أخبرني عن عروضه التي أقامها سواءً في سوريا أم خارجها، وكيف كانت تنتهي بالتصفيق وقوفاً، وكانت عيناه تلمعان حين مرّ على العرض الذي قدمه في بغداد: "القرى تصعد إلى القمر عن نص دائرة الطباشير"، وخاصة العروض الأخيرة التي أمطرت بغداد فيها مطراً كثيفاً، قائلاً: "المعروف أنه لا مجارير في بغداد، مما يعني أنها ربما ستغرق. فاقترحوا علينا عدم الذهاب للمسرح، لأنه ما من جمهور يمكنه الوصول. لكنني أصررتُ على الحضور، وعندما وصلنا وجدنا المسرح الذي يضم 650 مقعداً ممتلئاً، والوقوف أكثر من الجلوس".
لكن بلبل كان حزيناً أيضاً في ذلك اللقاء على واقع المسرح الذي لا أهمية له، قائلاً: "وكأن المسرح أصبح مجرد 'كمالة عدد، لا أكثر' ،فأحياناً نشاهد عروضاً مسرحية تافهة أو ضعيفة كنوع من الواجب ".
اليوم برحيل فرحان بلبل تفقد سوريا والمسرح السوري قامة كبيرة من قامات المسرح السوري، كان لها بصمة وتأثير كبير على جيل كامل، سواءً من خريجي المعهد أم من العاملين في فرقته، "فرقة المسرح العمالي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
mahmoud fahmy -
منذ ساعتينكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم
KHALIL FADEL -
منذ يومراااااااااااااااااااااااااائع ومهم وملهم
د. خليل فاضل
Ahmed Gomaa -
منذ يومينعمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ 6 أياماسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...