يبدو الأمر غريباً حين تكتشف أن شخصاً تواصلت معه في يوم من الأيام قد تحوّل بين ليلة وضحاها إلى خبر عاجل! وتزداد الغرابة وطأة على القلب والروح عندما يتورط هذا الشخص في مقتل خمسة أشخاص، والشروع في قتل آخرين، فضلاً عن الإصابات البدنية الخطيرة التي أوقعها بنحو 200 شخص.
يبدو الأمر غريباً حين تكتشف أن شخصاً تواصلت معه في يوم من الأيام قد تحوّل بين ليلة وضحاها إلى خبر عاجل!
قرأت الخبر وأنا في حالة من الذهول: طبيب نفسي في عقده الخامس، يدعى العبد المحسن يدهس العشرات في سوق عيد الميلاد بمدينة ماغدبورغ، متسبباً بسقوط قتلى وجرحى. عاد بي الزمن إلى أول مرة تواصلت فيها مع "العبد المحسن"، وكانت في عام 2021، حين أرسلت له رسالة عبر حسابه على منصة X طلباً للمساعدة في التواصل مع فتاتين سعوديتين وصلتا إلى ألمانيا كلاجئتين، كان هو نشر عنهما، فكان متجاوباً، وبفضل مساعدته تمكنت من إعداد التقرير حينها.
منذ ذلك الوقت، كان "المحسن" يرسل لي عبر الرسائل الخاصة عدداً من تغريداته، محاولاً لفت انتباهي إلى قضايا أو حوادث معينة، غالباً ما تتعلق بشخصيات على خلاف معه، أو بشكاوى رفعها ضدهم/ن أو رفعها آخرون ضده.
في إحدى المرات، اقترح عليّ إجراء حوار مع فتاة كويتية لجأت إلى بريطانيا لتغيير ملّتها إلى اليهودية، لكنني لم أجد دافعاً كافياً لإجراء اللقاء.
مؤيد لإسرائيل
وأنا أقرأ ردود الأفعال على الهجوم الذي نفذه، تذكرت أنني تواصلت معه في سبتمبر/أيلول 2021، بخصوص رأيه حول الانتخابات الألمانية في ذلك الوقت. أذكر جيداً إجابته عن سؤالين طرحتهما عليه: ما الذي يتمناه كمهاجر خليجي من السياسيين الألمان؟ وما الذي يطمح إليه من ألمانيا في سياستها الخارجية تجاه دول الخليج؟
كانت إجابته مزيجاً من الشكوى والانتقاد للسياسة الألمانية، إذ عبّر عن استيائه مما وصفه بـ"عدم اكتراثها بحماية القيم الغربية على أرضها"، متهماً حكومة بلاده السعودية بأنها "تشن حرباً على القيم الغربية داخل ألمانيا"، بينما الساسة الألمان - حسب رأيه - لا يحركون ساكناً.
لكن مواقفه تغيّرت بشكل جذري بعد عام 2022، إذ أخذت منحىً متطرفاً وعدوانياً وصل إلى حد التحريض. لم يُخفِ العبد المحسن دعمه لإسرائيل، ومعاداة الإسلام والمسلمين/ات إلى جانب تأييده لحزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف. كما استمر في التذمر من سياسات الحكومة الألمانية، متّهماً إياها أكثر من مرة بتبني سياسات تهدف إلى "أسلمة أوروبا".
نعم لذبح اللاجئين!
مواقف عبدالمحسن أخذت منحىً متطرفًا وعدوانياً بعد عام 2022،إذ أعرب عن دعمه لإسرائيل وأعلن تأييده لحزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف
في أغسطس/آب الماضي، قبل نحو أربعة أشهر، نشر العبد المحسن سلسلة من التغريدات عبّر فيها عن استيائه من تعامل السلطات الألمانية مع اللاجئين/ات السعوديين/ات، مهدداً بالقول: "إذا أرادت ألمانيا حرباً فنحن لها. إن أرادت ألمانيا أن تقتلنا، فسوف نذبحهم أو نموت أو ندخل السجن بكل فخر. لقد استنفدنا كل الوسائل السلمية، ولم نجد من الشرطة وأمن الدولة والنيابة والقضاء ووزارة الداخلية (الفدرالية) إلا المزيد من الجرائم ضدنا. السلم لا ينفع معهم".
وقبل تنفيذه الهجوم بقليل، عاد المحسن لينشر مقاطع فيديو يتهم فيها رجال الشرطة الألمانية بالتضييق عليه، مشيراً إلى أنهم سرقوا وحدة تخزين USB من صندوق بريده، وشكا من منعهم إياه من تركيب كاميرا مراقبة على صندوق بريده أو حمل السلاح للدفاع عن نفسه.
يُعرّف العبد المحسن نفسه بأنه طبيب نفسي سعودي ولاجئ في ألمانيا، ومؤسس ما سماه "حركة الحقوق السعودية". وأكد لي في وقت سابق أنه "سعودي الجنسية ولم يسعَ للحصول على أي جنسية أخرى". عبر حسابه على منصة X، انتقد عبدالمحسن كثيراً سياسات اللجوء الألمانية، واصفاً إياها بـ"الفاشلة في دمج المهاجرين/ات".
وعلى الرغم من إقامته في ألمانيا منذ عام 2006، لا ينصح السعوديات أو النساء الخليجيات عموماً باللجوء إلى ألمانيا، مشيراً إلى أن دولاً أخرى مثل الولايات المتحدة وكندا، وبعض الدول الأوروبية، قد تكون خياراً أفضل بالنسبة لهن.
مضطرّب ونرجسي
عند سؤال عدد من السعوديين المقيمين في ألمانيا حول معرفتهم بـ "عبد المحسن"، نفى جميعهم معرفتهم الشخصية بالمتهم، وقالوا إنهم يتابعونه عبر منصة x، وقد يكونون تواصلوا معه عبرها، ولكن لم يتم اللقاء بينهم وبينه.
وعن سؤاله كيف يكون لشخص نشط في مجال دعم اللاجئين القادمين من دول الخليج أن يتحوّل إلى قاتل ويرتكب جريمة بحجم جريمة اقتحام سوق لعيد الميلاد في دولة استضافته منذ ما يقارب الـ 20 عامًا؟
أجاب المحامي السعودي والمدافع عن حقوق الإنسان طه الحاجي: "أعتقد أن العبد المحسن هو شخصية مضطربة نفسياً وانعزالي وعدائي، كسعوديين نعيش في ألمانيا أو دول المهجر عموماً، ليس لدينا علاقة شخصية معه، عرفناه عبر منصة X لأنه نشيط جدًا في التعاطي مع اللاجئين السعوديين وعلى وجه الخصوص النساء، ودائماً ما قدّم لهنّ النصح، إلا أنه لا تربطه علاقة شخصية مع أي منهم/ن".
ويكمل الحاجي: "شخصيًا لم أصدم بما فعله، فلدى عبدالمحسن تضخّم شديد للذات"، مشيرًا إلى غرابة اختيار الهجوم: "تركيبة الهجوم غير منطقية، فالعبدالمحسن هو سعودي وملحد ويدعم اليمين المتطرف في ألمانيا، كان متوقعاً أن يقوم بعمل معاد للمسلمين بحكم إنه معاد للإسلام، ولكنه اختار الهجوم على سوق لعيد الميلاد ومرتاديه من عائلات وأطفال من الألمان وغير المسلمين، هو أمر غريب".
المحامي السعودي والمدافع عن حقوق الإنسان طه الحاجي: شخصيًا لم أصدم بما فعله، فلدى عبدالمحسن تضخّم شديد للذات، الغريب هو تركيبة الهجوم نفسه، إذ كان متوقعاً أن يقوم بعمل معاد للمسلمين بحكم إنه ملحد معاد للإسلام، ولكنه اختار الهجوم على سوق لعيد الميلاد ومرتاديه من عائلات وأطفال من الألمان.
آثار جانبية
وعما إذا كان هذا الهجوم قد يثير القلق بشأن مستقبل اللاجئين/ات من المملكة العربية السعودية، قال الحاجي لـ"رصيف22": "شخصياً لا أشعر بالقلق، فالمتهم يمثل نفسه فقط. قد يكون هناك تأثير على الأجانب، خاصة السعوديين طالبي اللجوء أو المقيمين في ألمانيا، من حيث تشديد الإجراءات والمضايقات وزيادة التدقيق. لكن بشكل عام، هو حالة خاصة بنمط تفكير وتوجهات مختلفة، لا يمثل السعوديين ولا اللاجئين، ولا الشيعة، ولا المسلمين، ولا حتى المنطقة التي ينتمي إليها في السعودية".
في المقابل، أعربت مقيمة سعودية - فضلت عدم الكشف عن هويتها - عن قلقها من تداعيات الحادثة قائلة: "للأسف، نحن في خوف من تأثير هذا الهجوم بشكل سلبي للغاية على حياتنا في ألمانيا. يبدو أن مرتكب الجريمة شخص مختل عقلياً ويعاني من اضطراب نفسي".
سياسياً، أعربت وزارة الخارجية السعودية عن إدانتها لحادثة الدهس، مؤكدةً تضامن المملكة مع الشعب الألماني وأسر الضحايا. وأفاد مصدر سعودي وآخر أمني ألماني أن السعودية قد عبّرت مراراً لألمانيا عن قلقها بشأن منشورات المشتبه به على وسائل التواصل الاجتماعي.
أما في الداخل الألماني، وبسبب تعريف عبدالمحسن لنفسه بأنه "يميني"، فقد نأت مختلف الأحزاب السياسية بنفسها عن الهجوم والمهاجم. وكان من بين هؤلاء تينو شروبالا، الزعيم المشارك لحزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني، الذي شارك في وقفة تضامنية مع الضحايا في ماغدبورغ، بحضور عشرات الشباب الذين استجابوا لدعوات الجناح الشبابي للحزب على وسائل التواصل الاجتماعي.
وعلى الرغم من كشف الشرطة والمتابعين لآراء عبدالمحسن وتأييده الواضح للحزب، إلى جانب مواقفه المعادية للإسلام والمهاجرين، إلا أن هذه المواقف، التي دافع عنها بشدة، انتهت بمفارقة مأسوية وساخرة: دهس "القيم الغربية المقدّسة" بسيارة دفع رباعي!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 10 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 11 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت