ذات ليلة خطفتُ حافلة صغيرة مليئة بملاحين سوريين. كنا نصوّر فيلماً في جنوب إيران، في مدينة بوشِهر المطلة على الخليج. كنا ذلك اليوم في مراحل تصوير مشاهد الجمارك.
من بين الأعلام المختلفة المرفوعة على السفن، ذهب عمّال سوريون كانوا يعملون في سفينة فيلبينية نحو قبطانهم وأقنعوه أن يسمح لنا بالتصوير في سفينته دون مقابل مادي. هذا ما لم يستطع فعله حتى الملاحون الإيرانيون من قبل. كان أمراً جللاً ولطفاً كبيراً منهم.
تلك الليلة ذهبتُ نحو سفينتهم بالحافلة الصغيرة التي كان حراس البوابات يعرفونها كحافلة التصوير ولم يطبّقوا، عند دخولها وخروجها، الكثيرَ من القوانين التي كانت تنفّذ على البضاعات الخارجة والداخلة من الجمارك. طلبت من أحد عشر منهم أن يستلقوا على أرضية الحافلة، وهربتُ بهم من بوابة جمارك بوشِهْر.
من بين الأعلام المختلفة المرفوعة في السّفن، ذهب عمّال سوريون في سفينة فيلبينية نحو قبطانهم وأقنعوه أن يسمح لنا بالتصوير في سفينته دون مقابل مادي. هذا ما لم يستطع فعله حتى الملاحون الإيرانيون من قبل
كان ذلك أقلّ تعويض يمكن أن أقوم به إزاء مروءتهم ولطفهم. أخذتهم إلى مكان يسعدون فيه ويبتهجون. لم يكن مسموحاً لهم أن يتركوا السفينةَ حتى عند المرض والألم. كانوا يسيرون ويعيشون فوق سطح المياه لأشهر عديدة، والآن حتى عندما كانوا قد وصلوا إلى الميناء فكان عليهم أيضاً أن يبقوا في البحر وفوق سطح المياه. أولئك الملاحون السوريون، لثلاث سنوات، كانوا يشتغلون ويعيشون في السفينة دون أي إجازة، ودون أن يذهبوا إلى بيوتهم، خشية سطوة بشار الأسد.
ملخص القول إنني أخذتهم إلى حي "سَرتُل"، بيت "حسين قُفْلي"، حيث كان هناك حفل مقام منذ غروب الشمس. من تلك الحفلات التي كنا نفرد حصيرة وسط باحة البيت، دون أن نجلس عليها لحظة واحدة؛ إلا نصف ساعة لتناول العشاء.
رقصنا حتى الساعة الرابعة صباحاً، دون أن يفرطوا بثانية من الوقت. وإن كنا نهدأ قليلاً لنجدّد أنفاسنا، كانوا يشرعون بمقطوعة عربية إلى أن يُنفخ مزمار القربة من جديد، ويعلو صوته.
بمجرد أن سمعت خبر سقوط دمشق وهروب بشار الأسد، كانت وجوههم أولى الصور التي تداعت أمام عيني وأخذت بالمرور في رأسي.
إلى أن وقعت الواقعة تلك الليلة! بمجرد أن سمعت خبر سقوط دمشق وهروب بشار الأسد، كانت وجوههم أولى الصور التي تداعت أمام عيني وأخذت بالمرور في رأسي مثل شريط. في عزّ الدبكات البوشِهرية وضوضائنا، وعندما كانت تتكوّن أغرب لحظات تلك الليلة من فرط الحماس والإيقاع والجلال، كما لو أن قفازة خرجت من سكونها إثر ضغط كبير، أخذ أحدهم بالغناء بالعربية. في عزّ أصواتنا التي تتعالى ككورال، خرجت من حنجرته أغنية أخرى. كما يقول لاعبو الورق: أظهر 21 على عشريننا.
لم نكن نفهم العربية ولم نفهم ماذا كان يقول. سكتنا علّنا نجد إيقاعه لنواصل معه، وإن لم تكن مجاراة في الكلمات، كنا نريد أن نواكبه بالإيقاع والرقص وبلغة الجسد، ونردّ عليه. دبكتهم كانت تشبه الهتاف. محمود، عازف مزمار القربة، كان يصيخ السمع نحو الإيقاع، أما ستار، الذي كان يضرب على البِركشِن، وجد خط الإيقاع، وأخذ بالعزف، وهكذا انزلقنا في دبكتهم.
كنا سعداء جداً لرؤيتنا أنهم أخذوا بزمام الحفلة، وظنِّنا أنهم سعداء في أجواء حفلتنا. قلت لرفاقي: لا تقصّروا، فإنهم أوفياء جداً وأصحاب حمية، واقتربنا منهم. حين اقتربنا رأينا خطاً من الدمع يسيل من زوايا عيونهم. نظرنا إلى بعضنا بعضاً خلسةً. كلنا كنا قد رأينا ذلك الخط المبتلّ السائل من المدامع. شيئاً فشيئاً سمعنا: "فاك"، و"… يا بشار"، "بالرّوح…"، وسرعان ما أدركنا أن ذلك الوجد وتلك النشوة التي ترفعنا عالياً وتُفرغ صدورنا وتُثلجها في كل مرة من الشدو والغناء، غير موجودة في أجسادهم.
انقلب كل شيء وتخبّط الجوّ. من الخارج كانت تبدو وكأنها دبكات، ومن الداخل، كانوا قد تجمعوا حول الأسد، وكأن ديكتاتور برمقِه الأخير كان يتلوّى في وسط باحة بيت "حسين قفلي". قالت أم جعفر: "آه من قلوبهم المفطورة يَمّا!".
ثم قالت امرأة ما: "كما لو أن أخي محمد رضا!"، وأم أمير قالت: "كما لو أن أمير…". وكان أمير إذ ذاك يقضي أياماً قارسة البرد في الخدمة العسكرية في تبريز.
ثم امرأة أخرى، بدل أن تقول شيئاً، زغردت. من تلك الزغاريد التي تصدح بها أمّ في جنازة ابنها الشاب وهي تسير خلف تابوته؛ زغردة رفعت بنا، نحن والسوريين، من أرضية باحة بيت حسين.
في ذلك الركن من حي "سَرتُل"، كنا في مأتم ديمقراطي صغير.
عند الفجر، بين العتمة والضوء، كانوا مستلقين ثانية على أرضية الحافلة وصامتين لأعود بهم إلى السفينة.
حتى إن كانت الدموع تغطي وجوههم ولم يبق لهم من أهل ورفاق في سوريا ليذهبوا إليهم ويلفوهم بين أذرعهم، فمجرد أن أعمارهم كفَتْ ليشهدوا على ذهاب ديكتاتور، فهو أمر باعث للغبطة
ذكرى ذلك الرقص لم تذهب من جسدي قط؛ ذكرى رقص مفعمة بحسرةٍ شرق أوسطية تعرفها قلوبنا جميعاً.
لا أشك، ولا تشكوا بأن ملّاحي تلك السفينة يرقصون الآن الدبكةَ في ميناء ما في هذا العالم، وإن بوهنٍ أشدّ وسحنات أكثر شحوباً من قبل.
حتى إن كانت الدموع تغطي وجوههم ولم يبق لهم من أهل ورفاق في سوريا ليذهبوا إليهم ويلفوهم بين أذرعهم، فمجرد أن أعمارهم كَفَت ليشهدوا على ذهاب ديكتاتور، فهو أمر باعث للغبطة؛ أن يذهب وينظروا إليه من الخلف.
حتى إن جلس عقرب أعمى محلَّ الأفعى، ذهاب الديكتاتور كل مرة، جذَل وبهجة في قلوب كل إنسان محبّ للحرية، أينما كان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...