شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
سوريا حرة بدون مازن حمادة... غصّة من بين ملايين الغصّات

سوريا حرة بدون مازن حمادة... غصّة من بين ملايين الغصّات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحريات العامة

الثلاثاء 10 ديسمبر 202401:17 م

ما أجمل صباح الأحد الثاني من كانون الأول/ ديسمبر. أحد الفرح، أحد العدالة، الأحد المجيد. الأحد الذي شهد على فرار بشار الأسد إلى مزبلة التاريخ، وتغيّرت المشهدية في سوريا. وها هي اليوم تشهد الحرية الذي حرمها منها الطاغية وأبوه، وتحقق حلم ملايين السوريين المعتقلين والمهجرين والنازحين.

هي فرحة انتظرناها 13 عاماً من الظلم والاستبداد والديكتاتورية. انتظرتها شخصياً منذ العاشرة من عمري، عندما تعرفت على همجية النظام عبر مشاهدة الأخبار مع أبي يومياً. وكلما كبرت وفهمت أكثر، كان هاجس الحالة الديكتاتورية في سوريا يكبر معي، وكيف لها أن تتحرر.

شعرت كفتاة صغيرة حينها بالإحباط لأنني لا أستطيع أن أفعل أو أقدم شيئاً. وعندما كبرت، بدأت أبحث في القضية السورية وتعمقت بها أكثر، فأصبحت من اهتماماتي الأساسية. وتحديداً في قضية السجون المأسوية، وعلى رأسها سجن صيدنايا القذر.

مازن حمادة… التهمة: كاميرا

ومع جمال مشهد الحرية والتحرر، تذكرت أحد الأبطال الذي لا تُمحى قصته من بالي، وهو المناضل والمصور مازن حمادة، ابن دير الزور، وعضو في حزب الشعب الديموقراطي المستقل، الذي شارك بكل فخر مع إخوته السوريين في الثورة عام 2011. كان مازن عنصراً أساسياً في تصوير وتغطية المظاهرات وبثّها للفضائيات العربية مثل قناة الجزيرة.

كأنه يوم أمس، كنت أتصفح تطبيق "تيكتوك" وشاهدت فيديو من إحدى مقابلاته بعد التحرر. يشرح بالتفاصيل عن التحقيق الذي أجري معه في فرع المخابرات الجوية السورية في مطار المزة بعد مشاركته في مظاهرات الثورة السورية. "بكل وقاحة قلتله كاميرا توشيبا، وما بشيل سلاح"، قالها وهو في وضعية السجود ورأسه في الأرض، للسجّان الذي سأله عن نوع سلاحه في المظاهرات. 

تذكرت أحد الأبطال الذي لا تُمحى قصته من بالي، وهو المناضل والمصور مازن حمادة، ابن دير الزور، وعضو في حزب الشعب الديموقراطي المستقل، الذي شارك بكل فخر مع إخوته السوريين في الثورة عام 2011. كان مازن عنصراً أساسياً في تصوير وتغطية المظاهرات وبثّها للفضائيات العربية 

يستذكر مازن، والغصة في قلبه، كيف قفز عليه السجان دون رحمة حتى تكسرت ضلوعه، وسمع صوتها وهي تتكسر، في محاولة لجعله يعترف بجرمٍ لم يرتكبه. وبالرغم من التهديد بقتله، لم يخَف، ورَفض الخضوع لبلطجية السجّان والنظام التابع له. واستمر إذلال مازن بالضرب والشتائم والتجويع سنة وسبعة أشهر -هو الاعتقال الثالث له- مرت عليه وكأنها دهر.

وعلى الرغم من هدوئه، اغرورقت عينا مازن بالدموع بعدما سُئل عن مشاعره للبلطجيين الذين قاموا بتعذيبه. سكت لعدة ثوانٍ، وذرف دموعه المحبوسة وهو يسترجع الذكريات المرة التي عاشها بسبب النظام المجرم. "في الله بحاسبهم، في قانون بحاسبهم، رح جيبهم عالمحكمة وآخد حقي بالقانون".

وأنهى مازن المقابلة بالبكاء، وقال: "حقي وحق رفقاتي اللي انقتلوا. لو بتكلفني حياتي، بدي لاحقهم".

"كأنني أقف أمام ميتٍ يتحدث"

استوقفتني قصته، وأبكتني، وضجّت في رأسي لأسابيع. أستذكر وجهه كل ما استخدم تطبيق التيكتوك، وأتذكر المقابلة وبكاءه على تجربته الموجعة التي غيّرت مصيره. عاودت البحث عن اسمه مجدداً، ووجدت بدل القصة الواحدة عشرات القصص. ففي مقابلة مطوّلة أخرى، يروي مازن عن الحالة الوحشية في السجون. جثث متكدسة، تعذيب نفسي وجسدي لا متناهٍ، وحبس العشرات في زنزانة لا تتعدى مساحتها المترين.

"كأنني أقف أمام ميتٍ يتحدث"، هكذا وصفه الإعلامي موسى العُمر بعد المقابلة. وعلى الرغم من أن هذه الجملة وطريقة قوله لها استفزتني، فقد كان محقاً. ففي كل المقابلات، نرى وجه مازن الشاحب، يحمل العديد من مشاهد القسوة والإجرام، وسيطرته على مشاعره التي تخونه في بعض الأحيان وتبكيه على حياته وعلى سوريا التي يعشقها.

علمني مازن الكثير، أن للحرية ثمناً باهظاً، وكلما كان الوصول إليها أصعب، كان الاستمتاع بها أكبر. علمني أن المواقف والمبادئ أهم من كل شيء، وهي جزء لا يتجزأ من كرامة الإنسان. 

علمني مازن الكثير، علمني أن للحرية ثمناً باهظاً، وكلما كان الوصول إليها أصعب، كان الاستمتاع بها أكبر وأغنى. علمني أن المواقف والمبادئ أهم من كل شيء، وهي جزء لا يتجزأ من كرامة الإنسان. وعلمني أنه يجب أن لا نسكت عن الظلم والطغيان مهما كلفنا الثمن.

أحمل هذه الدروس معي وأطبقها دوماً، وهي التي تجعلني على يقين أن مازن سينال الحرية التي يستحقها، ولو طال الوقت.

ولكن، بعد المقابلات العديدة التي فضح مازن خلالها إجرام الأسد ضد مواطنيه وبشاعة سجونه، حاول العودة إلى سوريا لإيجاد أي طريقة يمكنه من خلالها وضع حد لجرائم النظام. كان محبطاً من استمرار الوضع في بلده كما هو عليه، دون أي محاولة أو دعم من المجتمع الدولي، رغم تهديده بسلامة عائلته.

وعند عودته إلى سوريا، أعيد اعتقال مازن حمادة في 22 شباط/ فبراير 2020 في مطار دمشق الدولي، وأصبح مفقودًا منذ ذلك الحين.

هذا مازن حمادة، المناضل الشجاع الذي عاد بكامل إرادته إلى دمشق لإنهاء المأساة وطغيان الإجرام. وها المأساة انتهت اليوم، ورحل من ظلَمَك وجوعَك وأتعبك يا مازن.

أين أنت لرؤية كل ذلك؟ أين أنت يا مازن؟

عندما شاهدت فيديوهات تحرير السجون، فرحت للمعتقلين والنساء والأطفال المظلومين والمقموعين. كنت أصلي لرؤية مازن أو معرفة شيء عنه. تمنيت أن أرى وجهه الأسمر المتعب، أو أعرف كيف يكون شكله مبتسماً وفرحاً بالنصر العظيم. وحتى الآن، جزء مني لا يزال يبحث عنه في كل مشهد لتحرير السجون. 

وصلني اليوم خبر وفاتك يا مازن، كنت أتمنى يا مازن أن تخرج إلى ضوء الشمس الذي تحبه. أن ترى الحلم يتحقق، وتعرف أن مشقّاتك تكللت بالنجاح

وصلني اليوم خبر وفاتك يا مازن، وكأن سكيناً دخل في قلبي. كم كنت أصلي أن تعيش ولو يوماً في سوريا ما بعد الأحد المجيد. كنت أتمنى يا مازن أن تخرج إلى ضوء الشمس الذي تحبه. كنت أتمنى أن ترى الحلم يتحقق أمامك، وتعرف أن مشقّاتك تكللت بالنجاح. كنت أتمنى أن تحتفل مع إخوتك وأخواتك في سوريا المتحررة من الديكتاتورية، وأن تعود وتصوّر الاحتفالات وتبثها كما كنت تفعل في الـ2011. لقد تحققت أمنيتك يا مازن، التي ضحيت بحياتك لها.

إلى المرحوم الشهيد مازن حمادة، البطل في سبيل الحرية، أتمنى لروحك الهدوء والسلام الذي تستحقه، وأعدك أنني سأظل أستذكر قصتك وأحكي للناس عن بطولتك وشجاعتك إلى الأبد. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لا ليل يطول، ولا خريف

بعد ربيعٍ عربي كان يزهو بفورات الأمل ونشوة الاحتجاج، ها هي نوستالجيا الحريّة تملأ قلوب كلّ واحد/ ةٍ منّا حدّ الاختناق.

نوستالجيا أفرغها الشلّل القسريّ الذي أقعدنا صامتين أمام الفساد العميم والجهل المتفشي. إذ أضحت الساحات أشبه بكرنفالاتٍ شعبية، والحقيقة رفاهيةً نسيناها في رحلتنا المضنية بحثاً عن النجاة.

هنا في رصيف22، نؤمن بالكفاح من أجل حياةٍ أفضل لشعوب منطقتنا العربية. ما زلنا نؤمن بالربيع العربي، وربيع العالم أجمع.

Website by WhiteBeard
Popup Image