شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
حكايات موجعة لفلسطينيين أخفاهم النظام السوريّ في عتم سجونه

حكايات موجعة لفلسطينيين أخفاهم النظام السوريّ في عتم سجونه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

لا تزال الأيام تكشف من جهة، وتضمر من جهة أخرى، قصص المعتقلين والمخفيين قسراً في سجون عائلة الأسد، الذي امتد حكمها نحو نصف قرن. كُسرت أقفال بوابات السجون- أو المسالخ البشرية، كما أسماها الناس والمؤسسات الأممية- حين أحكمت المعارضة المسلحة سيطرتها على مدينة تلو أخرى. ليسقط النظام، بعد ثلاثة عشر عاماً من خروج السوريين إلى الشوارع مطالبين بإسقاطه.

ومن القصص المريرة التي وصلتنا، محمّلةً بعذابات طويلة وغرف انفراديّة لا ترى الشمس ولا الرّحمة، وأساليب تنكيل متعدّدة الأشكال والشرور، قصص فلسطينيين كُثر قضوا عقوداً في سجون الأسد. منها قصص عاد أصحابها إلى أحضان عائلاتهم، ومنها قصص عائلات تنتظر خبراً أو طرف خيط يدلّها على أحبائها المفقودين، لكن دون جدوى.

خرجوا إلى النور

بعد 39 عاماً من الإخفاء القسري، ظهر وجه بشار شريف علي صالح من قرية عرقة في محافظة جنين (59 سنة). فالتقطته وسائل الإعلام في مقر السفارة الفلسطينية في دمشق. وهناك أجريت معه مقابلة، قال فيها إنه وصل إلى دمشق لينضم إلى معسكرات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بزعامة أحمد جبريل، الموالي لنظام الأسد. وفي أيامه الأولى في المعسكر، دخل المكان القيادي الفلسطيني جبريل، فوقف الجميع للتسليم عليه، أما بشار فسلم عليه وهو جالس. حُلق شعره ونُزعت عنه بزته العسكرية ووضع في سجن انفرادي، ثم سلّمه جبريل إلى المخابرات السورية. فبدأت هناك رحلته في السجون.

"اختفت آثار عم زوجتي، بشار، عام 1985. وذلك بعد 4 أشهر من دخوله إلى سوريا، ولم يكن قد تجاوز 20 عاماً من العمر. بعد بضع سنوات، توجّه والداه إلى سوريا للسؤال عنه، فأنكرت جميع الجهات وجوده"، يقول رأفت واكد، قريب بشار، لرصيف22.

ويضيف: "لكن بعد 30 عاماً من اختفائه القسري، يصل سجين سابق إلى الأردن ويقول إنه التقى ببشار في سجن صيدنايا. ثم وصلت العائلة معلومة تفيد بنقله إلى سجن عدرا". ومع توالي الأحداث الأخيرة التي أسقطت النظام، خرج بشار مع الخارجين إلى الحرية. في حين يؤكد رأفت أنه يحاول حالياً الحصول على وثائق تمكنه من الخروج من سوريا.

أما الفلسطيني وليد بركات (67 سنة)، فيخرج بعد اعتقال دام 42 عاماً. وقد قضى أكثر من ثلاثين عاماً منها دون أن يعرف أنه محكوم بالسجن مدى الحياة، 8 سنوات منها في السجن الانفرادي. جُبلت فرحة وليد بالحزن والألم، فقد خرج ليجد أن والديه قد توفيا، قبل لم يعرفا عنه شيئاً لحوالي ربع قرن.

يخرج المقدسي من سجن صيدنايا لدى تحريره، بعد أن قضى ريعان شبابه في سجون عدة. يقول بركات في مقابلة أجريت معه إنه كان متوجهاً في ثمانينيات القرن الماضي إلى سوريا بهدف الدراسة في جامعة دمشق. وكان يبلغ الخامسة والعشرين من عمره. وفور وصوله، اعتقل في مطار دمشق. وجهت له تهم نفى جميعها، لكن دون جدوى. ليغيب بعدها في غياهب السجون، منها سجن المزة وسجن تدمر، وآخرها سجن صيدنايا. تعرض بركات فيها لمختلف أشكال التعذيب، تشهد عليها الآثار والندب المحفورة في جسده. "كتب لي الله عمراً جديداً بخروجي. لكن داخل السجن، كتبت لي أعمار كثيرة، بعد أن نجوت من الموت الحتمي"، يقول.

كتب لي الله عمراً جديداً بخروجي. لكن داخل السجن، كتبت لي أعمار كثيرة، بعد أن نجوت من الموت الحتمي

عائلات لا تزال تنتظر

منذ لحظة تحرير سجون الأسد، طفحت صفحات التواصل الاجتماعي بصور بالأبيض والأسود، لمعتقلين ومخفيين فلسطينيين في سوريا. يأمل أفراد عائلاتهم أن يسمعوا خبراً واحداً يقودهم إليهم. وهم يتفقدون القوائم والمجموعات التي تنشر الوثائق والصور التي خلّفها النظام في السجون والفروع الأمنية.

يوضح أمين فخري العدم من بلدة بيت أولا في محافظة الخليل، أن أفراد العائلة، منذ اليوم الأول لسقوط النظام السوري، يتابعون قوائم الاسرى في السجون السورية، بحثاً عن عمه عبد الله إسماعيل العدم، الذي اختفى في سوريا منذ عام 1980.

عبد الله إسماعيل العدم، غيّب في سوريا منذ عام 1980

"العثور على أسرى معتقلين في السجون السورية منذ عقود، أحيا لدينا الأمل. لذلك كنّا ولا نزال نتتبع أولاً بأول القوائم الخاصة بالمعتقلين، التي تنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، آخرها كانت قائمة مكونة من 51 صفحة. طبعناها وأخذنا نبحث فيها عنه. لكننا لم نجد معلومة أو خيطاً يدلنا على مصيره حتى الآن. وكان الناس تداولوا صوراً وأخباراً غير صحيحة عن العثور عليه"، يقول أمين لرصيف22.

ويحدثنا عن ظروف الاختفاء: "اختفى عمي الذي كان يعمل سائق تكسي عمومي ما بين عمان ودمشق حين كان في الحادية والعشرين من عمره. بعد ذلك بخمس سنوات، وصلنا خبر أنه أُعدم في سوريا. ورغم هذا الخبر المفجع، تواصلنا مع أطراف سورية وفلسطينية مختلفة، لكنّا لم نفلح في الوصول إلى مصيره. ثم أُخبرنا أن علينا التوقف عن البحث عنه لأننا نضيع وقتنا سدى".

وربما فوجئ الفلسطينيون باختفاء فلسطينيين من الداخل في سوريا. فقد ضاعت آثار فائق مرعي فريج إبن برّي (48 عاماً)، وأب لثلاث بنات، من بلدة كفر قاسم. "بحسب المعلومات التي توفرت لدينا، فقد اجتاز أخي الحدود السورية عام 2012 من قرية مجدل شمس في الجولان السوري المحتل"، يقول شقيقه الأصغر راتب.

ومن هناك، توجه فائق إلى قرية حضر في الجانب السوري من الجولان، وكان عمره 35 عاماً. علماً أنه كان يعاني مشاكل في الذاكرة، إثر حادث سابق تعرض له، بحسب أخيه.

فائق مرعي فريج، غيّب في سوريا منذ عام 2012

"عام 2014، تواصل معنا من ألمانيا، شاب فلسطيني وأبلغنا أنه مع أخي في فرع فلسطين في دمشق. ومنذ تلك اللحظة، لم تصلنا أيّه معلومة عن مصيره، حتى عام 2022، حين عرفنا من بعض الاتصالات أنه يقبع في سجن صيدنايا"، يقول راتب مضيفاً.

ويؤكد أن العائلة تواصلت مع قيادي فلسطيني اجتمع بقياديين سوريين في دمشق. هؤلاء قالوا له إن فائق قُتل، دون أن يعطوه أي إثبات رسمي يدل على تفاصيل قتله وعلى مكان جثته أو دفنه.

ويختم الأخ: "بعد تحرير كل السجون، نأمل أن نعثر على اسمه في قوائم المعتقلين، وأن نعرف شيئاً عن مصيره. ما حل به ظلم شديد، سواءً قُتل أو سُجن".

اختفاء من انضموا للثورة الفلسطينية

وفي الضفة الغربية أيضاً، تنتظر عائلة ضراغمة خبراً عن اختفاء ابنها علي محمد علي ضراغمة من قرية اللبّن الشرقية في محافظة نابلس. "اختفى شقيقي في سوريا عام 1979، لدى التحاقه بالثورة الفلسطينية. وكان يبلغ السادسة عشرة من العمر"، يقول عبد الحي ضراغمة لرصيف22.

وكان الوالد قد التقى بعلي، للمرة الأخيرة، عام 1976 في لبنان. وكان وصل إلى هناك بعد رحلة ما بين الأردن والكويت والعراق. "انقطعت أخبار أخي. فذهبت أمي للبحث عنه عام 1979 في لبنان، لكن الجهات أخبرتها بأنه مفقود ولا أحد يعرف عنه شيئاً. وأن اسمه غير مدرج في قوائم الشهداء أو المصابين"، يضيف عبد الحي.

علي محمد علي ضراغمة، غيّب في سوريا منذ عام 1979

ويردف: "ثم ترددت أخبار تفيد بأنه في السجون السورية. لكنها لم تكن أكيدة. سدى بحثنا عن معلومة واحدة عنه. والآن، بعد تحرير السجون، نتابع ونبحث عنه بين أسماء المعتقلين المنتشرة في صفحات التواصل الاجتماعي. كما حاولنا التواصل مع السفارة الفلسطينية في سوريا. وإلى الآن، لم نعلم شيئاً عنه".

هذا الأمل، الذي تحاول أن تتحلى عائلات المفقودين، لم يجد طريقه إلى عائلة سليم حافظ أبو نصر من قرية عزموط في محافظة نابلس. فقد فُقد سليم قبل 48 عاماً. "من خرجوا وهم في الخمسين والستين من أعمارهم، خرجوا بحالة صحية بالغة السوء. فما بالك بالذي كان سيخرج طاعناً في السن. هل سيكون على قيد الحياة؟ أملنا شبه معدوم"، يقول إبراهيم، نجل سليم أبو نصر.

"فُقدت آثار أبي حين كان في التاسعة والثلاثين من عمره، في الأيام التي جرت فيها مذبحة تل الزّعتر في لبنان. قاتل حينها مع القوات الفلسطينية في القطاع الغربي. عرفنا أنه أصيب خلال اشتباك هناك. ورغم أن أحداً لم يعثر على جثته، تم الإعلان عنه شهيداً"، يقول إبراهيم.

ويردف: "بعد عام 1990، بدأت ترد معلومات حول وجوده في السجون اللبنانية أو السورية. فبدأنا البحث عنه من جديد. وحين لم نجد أي خبر عنه، اعتبرناه شهيداً".

سليم حافظ أبو نصر، غيّب في سوريا منذ عام 1976

وكانت قد كشفت وثائق عُثر عليها في الفروع الأمنية السورية، كفرع فلسطين وفرع 216، عن اعتقالات وملاحقات لفلسطينيين بتهم "الإرهاب" و"الارتباط بحماس". ويعتبر فرع فلسطين (235) من الفروع الأشد قسوة من بين فروع المخابرات السورية. وهو تأسس عام 1969، ليكون همزة الوصل بين النظام السوري  والجهات الفلسطينية المسموح لها بالعمل في الأراضي السورية، بما في ذلك حركة فتح (التي شهدت لاحقاً انشقاقات عن موالاة النظام وبقي شق منها في سوريا)  والجبهة الديمقراطية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (الذي عُرف أمينها العام أحمد جبريل بولائه الشديد للنظام السوري)، وحركة حماس، قبل أن تخرج من سوريا في أعقاب اندلاع الثورة عام 2011. 

فلسطينيون قيد الإخفاء القسري

في السياق نفسه، نشرت "مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية"، وهي منظمة حقوقية إعلامية متخصصة برصد أحوال اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، ومقرها لندن، في الثالث عشر من الشهر الجاري بياناً أشارت فيه إلى أن النظام السوري ارتكب جرائم وحشية وانتهاكات جسيمة بحق الشعبين، حيث قضى في السجون السورية آلاف الضحايا السوريين والفلسطينيين.

بعد تحرير كل السجون، نأمل أن نعثر على اسمه في قوائم المعتقلين، وأن نعرف شيئاً عن مصيره. ما حل به ظلم شديد، سواءً قُتل أو سُجن

ووفق ما وثقته المنظمة الحقوقية، فإن عدد الفلسطينيين المختفين قسرياً في السجون يزيد عن 3 آلاف. إلا أن السفارة الفلسطينية في سوريا، نشرت قبل يومين قائمة بأسماء مفقودين فلسطينيين بلغ عددهم 220.

فيما قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في بيان نشرته بعد سقوط النظام، أنها سجلت خلال الأعوام الـ13 الماضية أكثر من 35000 حالة لأشخاص فقدوا في سوريا. لكن هذا العدد لا يشمل العائلات التي لم تتوجه للصليب الأحمر. فقد أشارت الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى وجود ما لا يقل عن 112,713 شخصاً، بينهم 3105 أطفال، لا يزالون قيد الاختفاء القسري منذ آذار/ مارس 2011.

وكانت سفارة فلسطين قد أكدت في بيان نشرته على موقعها الرسمي، أنها تتابع ملف المعتقلين الفلسطينيين وتجمع كل ما أمكن من معلومات لمتابعة أوضاعهم وطمأنة أقاربهم. كما طلبت لاحقاً في بيان منفصل من المعتقلين المحررين وذويهم التواصل معها بشأن تزويدها بأسماء أو معلومات بشأنهم. وحتى هذه اللحظة، تنشر السفارة عبر صفحتها في "فيسبوك" صوراً لفلسطينيين خرجوا من سجون النظام، ليتأكد ذووهم من هوياتهم. في حين تنتظر عائلات أخرى خبراً أو رائحة قد يطول وصلوها في فوضى الوثائق والمقابر الجماعية. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image