شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
كيف كان العرب يقيمون مسابقات

كيف كان العرب يقيمون مسابقات "سوبر ستار" الغناء في العصور القديمة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الجمعة 3 يناير 202512:11 م

بعدما آلت مقاليد الحكم إلى الأمويين، بعد لأيٍ شديد ومعارك عديدة، قاموا بنقل حاضرة الخلافة من الكوفة إلى دمشق، ولم تنتقل السياسة والدبلوماسية اللتان اشتهر بهما الأمويون فقط، بل انتقلت معهما مظاهر الحضارة والترفيه كالغناء والموسيقى، إليها مع استمرارهما على أوسع نطاق في الحجاز.

أسباب انتشار الغناء في العصر الأموي

اهتمّ العرب بالغناء منذ الجاهلية، ولنا في لقب الأعشى "صنّاجة العرب"، خير شاهد على ذلك، وقد لُقّب به لأنه كان يغنّي شعره على الصنج، وهي أداة موسيقية. واستقبل أهل المدينة الرسول محمد بعد هجرته الشهيرة من مكة إلى المدينة بالغناء، إذ غنّت بنات الأنصار له: "طلع البدر علينا"، كما يذكر صفي الرحمن المباركفوري في كتابه "الرحيق المختوم".

لو أردنا الحديث عن الإنشاد والغناء في عهد بني أمية، لوجدنا الكثير من الكتب والمراجع التاريخية الموثوقة التي تكلمت باستفاضة عن الغناء، وليس كتاب "الأغاني" لأبي فرج الأصفهاني فحسب، فهناك "مروج الذهب" للمسعودي، و"التّاج في أخلاق الملوك"، و"البيان والتبيين" للجاحظ، و"الفصول والغايات" للمعرّي، و"العقد الفريد" لابن عبد ربه، و"خزانة الأدب" للبغدادي.

كان كبار قريش يُجرون مسابقات غنائيةً يحصل الفائز فيها على جائزة، على غرار "سوبر ستار" في هذه الأيام، كما فعل ابن صفوان وهو أحد نبلاء مكة، فتدافع المغنّون حينها وكان جلّهم من الموالي من بلاد فارس والروم والحبشة

غنيّ عن البيان أن الغناء استفحل وانتشر في عهد بني أمية في دمشق، خاصةً بعد الفتوحات الإسلامية الكبيرة، وهي الفتوحات التي كان لها أيضاً تأثيران كبيران في معالم الحياة في الحجاز، حيث سُكِبت خزائن بلاد فارس والروم في حجور بيوتات أهل قريش، مع العلم بأن تلك البقاع الكريمة هي ثريّة وموسرة أساساً بسبب إيرادات التجارة والحج العظيمة.

والتأثير الآخر أن الفتوحات جلبت الكثير من العبيد والإماء والقينات والموالي من فرس وروم وأحباش إلى أرض الحجاز، فكان لهم تأثير في طرائق العيش بشكل عام، من عمران ولباس وطعام وحِرف كثيرة، والغناء بشكل خاص، لما أدخلوه من أساليب أجنبية وموسيقى وأدوات، لعل أهمها العود، إذ كان الموالي كثيرين كثرةً مفرطةً في مكة والمدينة، وكانت منازل الصحابة والتابعين تزدحم بهم.

زهّاد ونسّاك ومغنّون/مغنّيات

من أروع وأمتع ما تميزت به مكة والمدينة، في العصر الأموي، جمعهما أئمة العبادة والزهد والإنشاد والغناء، في آن معاً. يذكر ابن سعد في طبقاته، أنّ العابد الجليل عبد الله بن عمر، المتوفى سنة 73 للهجرة، كان على النقيض من قومه؛ لم يكن يشرب في أقداح من الفضة، ولا من قوارير، ولم يكن يلبس الخزّ وكان قوّاماً صوّاماً، وأنّ ابن حنظلة كان يصلّي ألف ركعة، وكذلك علي بن الحسين، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله الذي كان يطيل السجود والركوع فتحسبه العصافير جداراً وتحطّ على ظهره.

في المقابل، اشتهر "معبد" الذي كان يُعدّ إمام المغنّين في العصر الأموي، وهو تلميذ سائب خاثر، الذي علّمه الغناء الثقيل، وابن سريج وهو تلميذ طويس الذي علّمه الغناء الخفيف، كما اشتهر أيضاً ابن محرز وابن عائشة ونافع بن طنبورة وعزّة الميلاء وسلّامة القس وجميلة ونومة الضّحى وبلبلة ولذّة العيش وسعيدة والزرقاء وغيرهم/ غيرهنّ.

ليس هذا فحسب، بل فُتن بعض الزاهدين بالمغنّيات، ومنهم عبد الرحمن بن أبي عمار الجشميّ، الذي كان يُلَقّب بـ"القسّ"، لعبادته وزهده، والذي ولِهَ بإحدى المغنيات التي تُدعى "سلّامة"، حتى سُمّيت بـ"سلّامة القسّ"، وقصتهما معروفة في كتب الأدب والتاريخ.

الغناء في الحجاز و"السوبر ستار" الأوّل

يذكر ابن عبد ربه الأندلسي، ابن مدينة قرطبة (860-940 م)، في "العقد الفريد"، أنّ طويس الفارسي، وهو مولى لبني مخزوم، يُعدّ من أشهر المغنّين في المدينة, ويقال إنه أوّل من أدخل الإيقاع في الغناء، وكان ينقر بالدف، وأوّل غناء غنّى به طويس كان:

"قد بَراني الحبُّ حتى/كدتُ من وجدي أذوبُ".

من أروع وأمتع ما تميزت به مكة والمدينة، في العصر الأموي، جمعهما أئمة العبادة والزهد والإنشاد والغناء، في آن معاً. 

وهو أوّل من صنع بحرَي الهزج والرّمل في الإسلام. البحور الشعرية هي الأوزان التي تُكتب القصائد وفقها. وقد انبثقت الكثير من الأغاني والأهازيج الشعبية من هذين البحرين اللذين صنعهما طويس الفارسي، وكما أنهما أشهر بحور الشعر الغنائي لسهولة تطويعهما الغنائي. و يذكر الدكتور شوقي ضيف في كتابه "الشعر والغناء في المدينة ومكة" أنّ من أشهر تلامذة طويس المغنّين، ابن سريج، وهو مولى لبني حارث بن عبد المطلب. كان في مكة ورحل إلى المدينة ليأخذ الغناء، خاصةً "الخفيف" من أستاذه طويس.

ومن المعروف عنه أنه بعد وقعة الحرّة، ارتقى جبل أبي قبيس، وناح عليه ليالي عديدةً فأُعجب الناس بنواحه. وكان سادة المجتمع القرشي من رجال ونساء، يرسلون إليه قطعاً شعريةً ليضيف إليها لحناً يُناح عليه، كما فعلت سيدة قريش الأبرز حينها، سكينة بنت الحسين. أما في الغناء فكان هو الأبرز لأنه أول من غنّى بالعود الفارسي، حتى نال شهرةً مدويةً.

وكان المغنّون يعتنون أيّما اعتناء بمظهرهم وملبسهم وأناقتهم، ويصف أبو الفرج في "الأغاني"، ابن سريج بقوله: "كان آدم أحمر ظاهر الدّم سناطاً (لا لحية له)، في عينيه قَبَل، بلغ خمساً وثمانين سنةً، فصَلِع فكان يلبس جُمّةً مركّبةً".

والجمّة المركبة تعني الشعر المستعار أو كما نسمّيها في لغتنا الدارجة "باروكة".

كما يورد الدكتور شوقي ضيف في كتابه "الشعر والغناء في المدينة ومكة" قولاً لإسحق بن إبراهيم الموصلي أذ سأل ذات يوم هشام بن المرية، وهو من المعمّرين والعلماء بالغناء عن أحذق الناس بالغناء، فأجاب: "ما خلق الله تعالى بعد داود النبي عليه الصلاة والسلام، أحسن صوتاً من ابن سريج".

كما يذكر إسحق قولاً عن أبيه أورده الأصفهاني في كتابه "الأغاني": "أصل الغناء أربعة نفر: مكّيان ومدنيان، فالمكّيان ابن سريج ومحرز، والمدنيان معبد ومالك".

يذكر الأصفهاني في "الأغاني" أيضاً أن ابن سريج كان يلحّن مقاطع شعريةً لعمر بن أبي ربيعة، ويغنّيها وعمر يعطيه على كل مقطوعة ثلاثمئة دينار، ومن تلك المقاطع التي كان يكتبها عمر لغرض الغناء ويجيز للمغنّين تأديتها، فيجعلها من مجزوء الخفيف:

"قل لهندٍ وتربها قبل شحط النوى غدا

إن تجودي فطالما بتُّ ليلي مسهدا".

وبسبب انتشار الغناء واستحسانه من قبل الجمهور الحجازي، كان كبار قريش يُجرون مسابقات غنائيةً يحصل الفائز فيها على جائزة، على غرار "سوبر ستار" في هذه الأيام، كما فعل ابن صفوان وهو أحد نبلاء مكة، فتدافع المغنّون حينها وكان جلّهم من الموالي من بلاد فارس والروم والحبشة، ففاز بالجائزة مولى حبشي هو مَعبد، الذي يقول فيه إسحق الموصلي: "هو فحل المغنّين وإمام أهل المدينة في الغناء".

من الملاحظ أن تداول الغناء في مدن الحجاز والشاّم، كان له أيّما تأثير على الشعر وصناعته، فقد أدى إلى انتشار الأوزان القصيرة والبحور المجزوءة. وعليهِ فقد تأثّر الشعر بالغناء وأثّر فيه بشكل واسع

وكان معبد تلميذاً لسائب خاثر، أخذ عنه الغناء الثقيل، وبلغت شهرته الآفاق، حتى طلبه الوليد بن يزيد وأقام عنده حتى وفاته، ومن تلامذته الذين أتقنوا صنعة الغناء بعده مالك، ويونس الكاتب، وابن السمح الطائي، وهو عربي، وحبابة وسلّامة القس التي ندبته حين وفاته.

أئمة الغناء في بلاد الشّام

تحدث البغدادي (1030-1093 هـ)، في كتابه "خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب"، عن ظاهرة انتقال المغنّين والمغنيات إلى دمشق، خاصةً في عهد يزيد بن معاوية. ومن المعروف أن الخليفة يزيد هو ابن ميسون بنت بحدل الكلبية، التي كانت تنظم الشّعر ورفضت معيشة دمشق كما يقول الرواة، وقد تربّى ابنها يزيد على حب الشّعر، وكان له ذوق موسيقي ويحب الطرب والإنشاد، حيث أنه طلب المغنّين والمغنيات من المدينة، الأمر الذي حثّ الكثير منهم على الانتقال إلى عاصمة الخلافة الإسلامية، وقد انتقل إليها معبد، المغني والمنشد الشهير، وأقام في قصور بني أمية حتى وفاته. أضف إلى ذلك ابن سريج ومالكاً وابن عائشة وسلّامة القس وعزّة الميلاء، وهم/نّ من رؤوس الغناء، في ذلك الوقت، الأمر الذي يُظهر لنا مدى اهتمام الأمويين بالغناء العفيف لغاية في أنفسهم.

في كتاب "الأغاني"، يخصص الأصفهاني ترجمةً مطولةً يتحدث فيها عن الخلفاء وأولادهم ممن تركوا أصواتاً في الغناء، ويضع الوليد بن يزيد في أعلى طبقاتهم، إذ كان يضرب بالعود ويوقّع بالطبل ويمشي بالدّفّ على مذهب أهل الحجاز.

ومن البديهي القول إنّ عناية الخلفاء بالغناء والمغنّين، حثّت الشّعراء على تعلّم الغناء، وحثّت المغنّين/المغنّيات على تعلّم الشّعر، مثل سلّامة القس التي تقدّم ذكرها، إذ أتقنت الشّعر والغناء معاً. ومن شعرها الذي ندبت به يزيد بن عبد الملك، وهو من مجزوء الرّمل:

"قد لعمري بتُّ ليلي كأخي الدّاء الوجيعِ

ونجيُّ الهمّ مني بات أدنى من ضجيعي".

حتى أن الوليد بن يزيد كان شاعراً يتقن الشّعر، وهو أوّل من صنع الوزن المجتثّ الذي غنّى به أئمة الغناء حينها، وأكثره شهرةً هذه المقطوعة الشّعرية الغنائية التي صاغها:

"إني سمعتُ بليلٍ ورا المُصلّى برنّه

إذا بناتُ هشامٍ يندُبن والدهنه

يندبن قَرماً جليلاً قد كان يعضُدهنّه".

ومن الملاحظ أن تداول الغناء في مدن الحجاز والشاّم، كان له أيّما تأثير على الشعر وصناعته، فقد أدى إلى انتشار الأوزان القصيرة والبحور المجزوءة. وعليهِ فقد تأثّر الشعر بالغناء وأثّر فيه بشكل واسع.

يظهر لنا بوضوح ذكاء بني أمية وتحضّرهم وثقافتهم العالية، الأمر الذي تجلّى في تشجيعهم هذه الظواهر الشّعرية والفنية في المجتمعات العربية، حيث أن الغناء لم يظلّ محصوراً في القيان والمخنثين من الموالي، بل انتقل إلى جماعات من العرب، وعمِل البعض به كأنه حرفة كسائر الحرف الأخرى، وبرع في هذا العصر مغنٍّ عربي معروف، هو مالك بن أبي السّمح الطائي، ومما كان يغني به:

"ما بالُ أهلكِ يا ربابُ خُزراً كأنهمُ غضابُ".

كما يظهر لنا بجلاء، سماحة المجتمع العربي والإسلامي وتعدديته في تلك الحقبة الزمنية البعيدة، حيث كانت المجتمعات تجمع الزهّاد والنسّاك والعبّاد من ناحية، ومن ناحية أخرى المغنّين والمنشدين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image