شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
خُطب باسمها في المساجد وقادت نهضة ثقافية… أروى الصليحية، أول ملكة في تاريخ الإسلام

خُطب باسمها في المساجد وقادت نهضة ثقافية… أروى الصليحية، أول ملكة في تاريخ الإسلام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 13 مايو 202301:46 م

عرفت اليمن حضارة زراعية مزدهرة في الأزمنة القديمة، وفي العصور الوسطى، تعاقبت العديد من الدول الإسلامية على حكمها. كانت الدولة الصُليحية التابعة للخلافة الفاطمية في القاهرة واحدة من بين تلك الدول. وفي سياق التأريخ لتلك الدولة تحدثت المصادر التاريخية عن حكم الملكة أروى بنت أحمد، والتي عُرفت ببلقيس الثانية، وبالسيدة الحرة، كما لعبت دوراً مهماً في بقاء الدولة لما يقرب من النصف قرن، حتى أضحت نموذجاً للمرأة القوية التي تمكنت من إثبات نفسها في ميادين الحكم والسلطة.

الدولة الصُليحية

بدأ انتشار الدعوة الإسماعيلية في اليمن في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري على يد الداعية الحسن بن حوشب، المعروف بمنصور اليمن. كان اليمن وقتها خاضعاً لسلطة العديد من الأمراء، يتبع بعضهم السلطة العباسية في بغداد، كما يتبع البعض الآخر أئمة الشيعة الزيدية.

عرفها اليمنيون بالعديد من الألقاب التشريفية ومنها بلقيس الصغرى، والسيدة الحرة، وأول ملكة في تاريخ الإسلام. كما أن نساء اليمن أظهرن فخرهن بالانتساب إليها فأطلقن على أنفسهن لقب "بنات أروى"

على مدار ما يقرب من المائة وخمسين عاماً، عاشت بلاد اليمن في فوضى سياسية حقيقية، ودارت الكثير من الحروب بين كل من السنة والزيدية والإسماعيلية. في سنة 438 هـ تولى علي بن محمد الصُليحي أمر الدعوة الفاطمية في اليمن، وقد وصفه عمارة اليمني في كتابه "تاريخ اليمن" بأنه "كان عالماً فقيهاً في مذهب الدولة، مستبصراً في علم التأويل". جمع الصُليحي رجاله وتحصن في جبل مسار، ثم حارب الزيديين والسنة، وانتصر عليهم في أكثر من معركة. وبعدها تمكن من فرض سيطرته على جميع أنحاء اليمن، وأعلن نفسه ملكاً عليها. وفي 473 هـ تلقى الإذن من الخليفة الفاطمي المستنصر بالله للعمل على ضم بلاد الحجاز، وأُنعم عليه بلقب "عمدة الخلافة". ولكنه قُتل بالسم في طريقه إلى مكة، فتولى ابنه المكرم أحمد الحكم.

الملكة أروى: السيدة الحرة، وبلقيس الثانية

ولدت أروى بن أحمد في سنة 444 هـ على أرجح الأقوال. كان أبوها واحداً من كبار الدعاة الإسماعيليين المساعدين لعلي الصُليحي. ولما مات في أثناء عودته من إحدى رحلاته إلى مركز الدعوة الفاطمية في القاهرة كفلها الملك الصُليحي وزوجته أسماء بنت شهاب، وربياها في بيتهما "فنشأت نشأة طيبة بحيث لقيت من عناية الملكة والملك الشيء العظيم.

وخصاها بعناية امتازت عن سائر أولادهما، فكانت مثال التقوى والصلاح والعفاف، وكانت ربة القصر وسيدته بلا منازع. وتعلمت الأدب وسائر الفنون وخصصت قسماً من حياتها في المطالعة حتى أصبحت كاتبة فذة وعارفة بكل ما يدور حولها"، بحسب ما تذكر الباحثة حياة عبد القادر في كتابها "دور السيدة الحرة أروى بنت أحمد الصليحي في اليمن". في الثامنة عشرة من عمرها تزوجت أروى من ولي العهد المكرم أحمد بن علي الصليحي، وأصبح لهما أربعة أبناء: علي، محمد، فاطمة، وأم همدان.

بدأت مشاركة أروى في العمل السياسي عقب إصابة زوجها بالشلل في سنة 460 هـ تقريباً. كان المكرم قد تيقن أنه لن يستطيع إدارة أمور الدولة على الوجه الأمثل فترك تلك المسؤولية موزعة بين أمه وزوجه.

وسرعان ما انفردت أروى بالحكم بعدما توفيت أم زوجها. يتحدث عمارة اليمني في تاريخه عن إقدام أروى بنت أحمد على تولي تلك المسؤولية الصعبة، فيقول: "لمّا توفيت أسماء بنت شهاب، والدة المكرم، فوض الأمر لزوجته الملكة أروى، فقامت بالأمر وحدها واستعفته في نفسها، وقالت: إن المرأة التي تُراد للفراش لا تصلح لتدبير أمر، فدعني وما أنا بصدده". وافق المكرم عندها على طلب أروى فتولت مسؤولية إدارة جميع شؤون الدولة، وأقنعت زوجها بنقل عاصمة الدولة من صنعاء إلى جبلة، واتخذت مقرها الجديد في أحد الحصون الجبلية المنيعة التي يصعب حصارها.

تحظى الملكة اروى بمقام أكثر تبجيلاً عند طائفة البهرة، وهي الطائفة التي تتبع الإمام الطيب بن الآمر بالله بن المستعلي بالله بن المستنصر بالله. 

في كتابه "أروى ملكة اليمن" يذكر عارف تامر قصة إقناع أروى للمكرم بنقل العاصمة، وكيف أنها استخدمت دهاءها لتحقيق هدفها عندما طلبت من زوجها أن يجمع كبار أهل صنعاء في قصره ذات يوم، ثم طلبت منه أن ينظر جيداً لهم، فوجدهم وقد حملوا أسلحتهم ولبسوا لباس الحرب. وبعدها طلبت من أهل جبلة أن يقدموا إلى القصر، وطلبت من زوجها أن ينظر لهم، فوجدهم مزارعين ورعاة بسطاء. عندها سألت المكرم: هل تحب المكوث بين المحاربين أم بين الفلاحين؟ ففهم المكرم مرادها واختار أن يرحل إلى جبلة بعدما عرف أن ملكه فيها لن يتعرض للتهديد.

في 477 هـ، وقع تغيير مهم في الدولة الصليحية عندما توفي الملك المكرم أحمد وتجمع الصليحيون حول ابن عمه الأمير سبأ بن أحمد. لم يمنع ذلك من بقاء النفوذ في يد الملكة أروى. تذكر المصادر التاريخية أن الخليفة المستنصر بالله أرسل لها بكتابِ تولية ابنها الصغير علي بن المكرم لشؤون الدعوة الإسماعيلية باليمن. وباعتبارها الوصية على علي، كانت أروى هي الحاكم/ة الفعلي/ة للدولة، وكانت المكاتبات والرسائل تُرفع إليها فتقضي فيها بما تراه. كما كان خطباء المساجد يدعون لها بشكل علني في خطبهم بعد كل من الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، وسبأ بن أحمد.

يذكر عارف تامر في كتابه أن الصراع دب بين سبأ بن أحمد والملكة أروى، وأن الأول طلب من الثانية أن يتزوج منها حقناً للدماء، ولكنها رفضت هذا الطلب مراراً. ومع تفاقم التوتر بين الطرفين اضطر الخليفة المستنصر بالله أن يتدخل في هذا الخلاف، فأرسل ببعض مبعوثيه إلى أروى، وبعث معهم برسالة جاء فيها قراره بحتمية زواجها من سبأ. رضخت أروى لهذا الطلب بعد أيام من إصرارها على الرفض، وظل الاثنان يحكمان اليمن معاً حتى توفي سبأ في سنة 491 هـ، لتعود السلطة بيد أروى وحدها مرة أخرى.

على مدار أربعين سنة، تمكنت الملكة أروى من سياسة اليمن على أحسن وجه، ولعبت دوراً كبيراً في رفع المستوى الاقتصادي للدولة، فحفرت الترع والقنوات، وأوقفت الأراضي الواسعة لرعي المواشي، واهتمت بحركة التجارة وتبادل السلع والبضائع.

من جهة أخرى، قادت أروى نهضة عمرانية وثقافية كبرى، فعبدّت الطرق وبنت المساجد. ومما يُذكر لها أنها أقامت العديد من المدارس الدينية، وسمحت بالتعددية المذهبية في بلادها، ولم تضطهد المخالفين. ويُعدّ قصرها الكبير في جبلة المعروف بـ"دار العز" واحداً من أشهر آثارها على الإطلاق. تُحكى الكثير من القصص العجيبة بخصوص هذا القصر، ومن أشهرها أنه قد تكوّن من 365 يوماً على عدد أيام السنة، وأن الملكة أروى كانت تبيت كل يوم في حجرة مختلفة.

يتحدث عارف تامر عن الاضطراب العظيم الذي استشرى في اليمن في الفترة الأخيرة من حكم الملكة أروى، فيقول: "ومهما يكن من أمر فإن الملكة أروى عندما انفردت بالحكم في آخر أيامها تاقت نفوس أمراء اليمن إلى الاستقلال والاحتفاظ بما تحت أيديهم من القلاع والحصون والبلاد، بالرغم مما بذلته من جهود، وما استعملته من حكمة ودهاء، وما اعتمدت عليه من الرجال المشهورين بالكفاءة والمقدرة والإدارة، وبالرغم من معاضدة الخلافة الفاطمية في القاهرة لها... لكن العوامل الانحلالية وأسباب الانقراض تسربت إلى قلب الدولة، فكانت أقوى من العوامل الأخرى كافة، وتغلبت أخيراً عليها".

أُسدل الستار على عهد الملكة العظيمة بوفاتها في الثاني والعشرين من شعبان سنة 532 هـ. برغم ذلك ظلت حاضرة في الوجدان اليمني الجمعي، فعرفها اليمنيون بالعديد من الألقاب التشريفية ومنها بلقيس الصغرى، والسيدة الحرة، وأول ملكة في تاريخ الإسلام. كما أن نساء اليمن أظهرن فخرهن بالانتساب إليها فأطلقن على أنفسهن لقب "بنات أروى".

الملكة أروى في المُتخيل الشيعي الإسماعيلي

تحظى أروى بنت أحمد بمكانة مهمة في المُتخيل الشيعي الإسماعيلي الجمعي، وذلك عند كل من الطائفة النزارية، وطائفة البهرة على حد سواء. تنظر الطائفتان إلى أروى باعتبارها واحدة من أهم الزعماء الدينيين المؤثرين في انتشار المذهب.

تظهر أروى عند الطائفة النزارية -وهي الطائفة التي تتبع الإمام نزار بن المستنصر بالله- باعتبارها واحدة من العلماء الإسماعيليين الذين أخلصوا للأئمة الفاطميين في القاهرة. يذكر عارف تامر أن الخليفة المستنصر بالله قد أرسل كبار دعاته للملكة أروى، وأنها تعلمت منهم الكثير من علوم المذهب الإسماعيلي "ما رفعها عن حدود الدعاة إلى مقام الحجج الكبار". وكان دعاة اليمن يذهبون إليها في بيتها فيسمعون منها الكثير عن أصول الدعوة "فيأخذون عنها، ويرجعون إليها". ويُنسب إليها أنها كانت المسؤول/و الأول/ى عن نشر المذهب الإسماعيلي في كل من اليمن وعُمان والهند والإحساء والبحرين.

تحظى أروى بنت أحمد بمكانة مهمة في المُتخيل الشيعي الإسماعيلي الجمعي، وذلك عند كل من الطائفة النزارية، وطائفة البهرة على حد سواء

من جهة أخرى، تحظى الملكة اروى بمقام أكثر تبجيلاً عند طائفة البهرة، وهي الطائفة التي تتبع الإمام الطيب بن الآمر بالله بن المستعلي بالله بن المستنصر بالله.

بحسب التقاليد المعروفة عند تلك الطائفة فإن الملكة أروى لعبت دوراً مهماً في إنقاذ الإمام الطيب عقب وفاة ابيه المستعلي بالله أحمد في سنة 524 هـ. في ذلك الوقت، بايع أغلب الفاطميين في القاهرة الحافظ لدين الله ابن عم المستعلي بالله، فيما قام البعض بنقل الطيب بن المستعلي إلى الملكة أروى في اليمن، وكان وقتها لا يزال طفلاً رضيعاً. أخفت الملكة الإمام الطيب عن الأنظار، ووفرت له الحماية والأمان، وعينت الدعاة لنشر دعوته في اليمن والهند، وهكذا أسهمت بدور كبير في نشر الدعوة الطيبية، والتي سيُعرف أتباعها في وقت لاحق باسم البهرة. من هنا يتجمع الآلاف من طائفة البهرة في اليوم الثاني والعشرين من شهر شعبان من كل سنة حول مرقد الملكة أروى في جبلة، ويُعدّ هذا التجمع واحداً من أهم الطقوس الدينية المقدسة عند أتباع تلك الطائفة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image