شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
لماذا تُثار الدعوات لهدم قبره؟... أبو حنيفة النعمان في المُتخيّل الشيعي

لماذا تُثار الدعوات لهدم قبره؟... أبو حنيفة النعمان في المُتخيّل الشيعي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الأربعاء 4 ديسمبر 202404:50 م

شهد العراق، في السنوات الأخيرة، عدداً من الدعوات لإزالة وهدم مرقد الإمام أبي حنيفة النعمان، الواقع في جامع "الإمام الأعظم" شمالي العاصمة بغداد. أثارت تلك الدعوات عاصفةً من الجدل والنقاش في المجتمع العراقي، كما أنذرت باشتعال نيران التعصب المذهبي "السنّي-الشيعي" في بلاد الرافدين.

نلقي الضوء في هذا المقال على النظرة الشيعية إلى أبي حنيفة النعمان، لفهم سبب الرغبة في هدم قبره، ولنعرف كيف كانت العلاقة بين أبي حنيفة وأئمة الشيعة.

من هو أبو حنيفة النعمان؟

وُلد الإمام أبو حنيفة، النعمان بن ثابت، في الكوفة سنة 80 هـ. تدور الكثير من النقاشات حول أصوله العرقية؛ يذهب الكثير من المؤرخين إلى أنه ينحدر من أصول فارسية، بينما يؤكد بعض الباحثين المعاصرين -ومنهم على سبيل المثال الباحث العراقي ناجي معروف- على أنه من أصل عربي. نشأ أبو حنيفة في أسرة تعمل في التجارة، والتحق بحلقة درس الفقيه حماد بن أبي سليمان، فلازمه لفترة، فلما توفي حماد، أخذ النعمان مكانه في التدريس، وسرعان ما اشتهر في أنحاء العراق كافة، وأضحى مذهبه أحد المذاهب الفقهية الذائعة الصيت في العالم السنّي. 

شهد العراق، في السنوات الأخيرة، عدداً من الدعوات لإزالة وهدم مرقد الإمام أبي حنيفة النعمان، الواقع في جامع "الإمام الأعظم" شمالي العاصمة بغداد. وقد أثارت تلك الدعوات عاصفةً من الجدل والنقاش في المجتمع العراقي، كما أنذرت باشتعال نيران التعصب 

عُرف أبو حنيفة بلقب "الإمام الأعظم"، وانتشر مذهبه الفقهي في بلاد فارس وتركيا وآسيا الوسطى والهند. توفي النعمان في 150هـ، بعد أن تعرّض للضرب والحبس على يد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، ودُفن في مقبرة الخيزران في بغداد. وعُرفت تلك المقبرة فيما بعد بمقبرة الأعظمية نسبةً إلى أبي حنيفة.

أبو حنيفة في الوجدان الشيعي الزيدي

تختلف النظرة الشيعية إلى شخصية أبي حنيفة النعمان؛ إذ ينظر إليه الشيعة الزيديون بشكل إيجابي إلى حد بعيد، بينما يوجه له الشيعة الاثني عشرية الكثير من سهام الانتقاد والكراهية.

يمكن أن نحدد أوجه التقارب بين الشيعة الزيديين وأبي حنيفة النعمان، في نقطتين رئيستين. تتمثل النقطة الأولى في تأييد النعمان للثورات المسلحة التي قام بها أئمة الزيديين في أزمنة الأمويين والعباسيين، وتأتي نقطة التقارب الثانية في إقبال الزيديين -عبر القرون- على الأخذ بمبادئ وفتاوى الفقه الحنفي.

ذكرت الكثير من المصادر التاريخية قول أبي حنيفة: "لولا السنتان لهلك النعمان". اعتادت المصادر الشيعية الزيدية على التأكيد على أن السنتين المقصودتين، كانتا السنتين اللتين تتلمذ فيهما أبو حنيفة على يد الإمام زيد بن عليّ المتوفى سنة 122هـ. أكدت العديد من الروايات على اعتراف أبي حنيفة بعلم زيد وفضله، وورد على لسانه في بعض الروايات قوله: "شاهدت زيداً بن علي كما شاهدت أهله، فما رأيت في زمانه أفقه منه، ولا أعلم، ولا أسرع جواباً، ولا أبين قولاً، لقد كان منقطع القرين، وكان يُدعى بحليف القرآن". 

تختلف النظرة الشيعية إلى شخصية أبي حنيفة النعمان؛ إذ ينظر إليه الشيعة الزيديون بشكل إيجابي إلى حد بعيد، بينما يوجه له الشيعة الاثني عشرية الكثير من سهام الانتقاد والكراهية.

تؤكد الروايات التاريخية أن أبا حنيفة وافق أئمة الزيدية في مذهبهم الداعي إلى الثورة على الحاكم الظالم. يذكر أبو بكر الجصاص، المتوفى سنة 370هـ، في كتابه "أحكام القرآن" في هذا المعنى: "وكان مذهبه –أي أبا حنيفة- مشهوراً في قتال الظلمة وأئمة الجور...".

قدّم أبو حنيفة المساعدة لزيد في ثورته التي قام بها سنة 122هـ، ضد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك. يذكر الباحث المصري الدكتور محمد بيومي مهران، في كتابه "الإمامة وأهل البيت"، أنّ أبا حنيفة قال لمّا بلغه خروج زيد وثورته: "ضاهى خروجه خروج رسول الله يوم بدر". ذكر الزمخشري، المتوفى سنة 538هـ ـأيضاً في "الكشاف"، أنّ أبا حنيفة كان "يفتي سرّاً بوجوب نصرة زيد بن علي، وحمل المال إليه، والخروج معه".

أكد أبو الفرج الأصفهاني، المتوفى سنة 356هـ، في كتابه "مقاتل الطالبيين"، على المعنى نفسه، فنقل عن أبي حنيفة أنه أرسل لزيد من يبلغه: "لك عندي معونة وقوة على جهاد عدوّك فاستعن بها أنت وأصحابك في الكراع والسلاح". ظلّ تأييد أبي حنيفة للعلويين قائماً بعد هزيمة زيد بن عليّ. يذكر ابن عنبة، في كتابه "عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب"، أنّ أبا حنيفة ساند ثورة محمد النفس الزكية، سنة 145هـ، ضد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور. عُرف عن النعمان أيضاً أنه كان يثبط قادة الجيش العباسي عن الخروج لقتال العلويين. ولمّا قُتل النفس الزكية، أرسل الإمام الأعظم رسالة تأييد إلى أخيه إبراهيم بن عبد الله، قال فيها: "إنّي جهزت إليك أربعة آلاف درهم، ولم يكن عندي غيرها، ولولا أمانات للناس عندي للحقت بك".

من جهة أخرى، أسهم التقارب الفقهي بين أفكار المذهب الحنفي وأفكار الزيدية في الإعلاء من شأن أبي حنيفة في الوجدان الزيدي. أخذ المذهب الزيدي عن الأحناف التمسك بالقياس باعتباره مصدراً مهماً من المصادر التشريعية. يذكر عبد الكريم الشهرستاني، المتوفى سنة 548هـ، في كتابه "الملل والنحل"، في سياق الحديث عن أفكار الزيدية: "...وأما في الفروع فهم على مذهب أبي حنيفة إلا في مسائل قليلة يوافقون فيها الشافعي رحمه الله والشيعة".

أبو حنيفة في الوجدان الشيعي الاثني عشري

قُدّم أبو حنيفة، في المُتخيّل الشيعي الاثني عشري، بوصفه التلميذ الخائن لأساتذته من آل البيت، والفقيه المتآمر مع السلطة العباسية الغاصبة، والذي سعى إلى نقض عُرى الإسلام وهدم الدين.

تؤكد المصادر الشيعية الاثني عشرية، أنّ أبا حنيفة قصد الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق، من قوله المشهور "لولا السنتان لهلك النعمان". تتحدث تلك المصادر عن الفترة التي قضاها النعمان في معيّة الباقر والصادق، وكيف أنه نهل من علومهما النبوية التي لا حدّ لها.

تسهب الروايات الشيعية الإمامية الاثني عشرية في الحديث عن المناظرات التي دارت بين الإمام جعفر الصادق وأبي حنيفة. كان النقاش يدور في تلك المناظرات حول القياس. أكد الشيعة الاثني عشرية، أنّ الإمام هو حجة الله في الأرض، وأنه معصوم مطّلع على أخبار الغيب، وأنه -وحده- الجامع للعلم النبوي. كان من الطبيعي -والحال كذلك- أن يرفض الشيعة الاثني عشرية مبدأ القياس الذي توسع أبو حنيفة في استخدامه. كان القياس -بشكل مبطّن- يقلل من أهمية الإمامة، وتالياً استنفذ الشيعة وسعهم في نقده والحطّ من شأنه. 

وُلد الإمام أبو حنيفة، النعمان بن ثابت، في الكوفة سنة 80 هـ. تدور الكثير من النقاشات حول أصوله العرقية؛ يذهب الكثير من المؤرخين إلى أنه ينحدر من أصول فارسية، بينما يؤكد بعض الباحثين المعاصرين على أنه من أصل عربي 

يذكر الحرّ العاملي، المتوفى سنة 1104هـ، في كتابه "وسائل الشيعة"، مجموعةً من الروايات التي دار النقاش فيها حول مسألة القياس. يذكر الحرّ العاملي في إحدى الروايات: "دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله -يقصد جعفر الصادق-، فقال له: يا أبا حنيفة! بلغني أنّك تقيس؟ قال: نعم، قال: لا تقِس، فإنَّ أوَّل من قاس إبليس -يقصد عندما قال إبليس لله إنه خُلق من نار وإن آدم خُلق من طين، فلا يجوز أن يسجد له".

يذكر الحر العاملي روايةً أكثر تفصيلاً في موضع آخر من كتابه، جاء فيها أن جعفراً الصادق سأل أبا حنيفة:"أيّهما أعظم عند الله؟ القتل أو الزنا؟ قال: بل القتل، فقال: فكيف رضي في القتل بشاهدين، ولم يرضَ في الزنا إلّا بأربعة؟! ثمّ قال له: الصلاة أفضل أم الصيام؟ قال: بل الصلاة أفضل، فقال: فيجب على قياس قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب الله عليها قضاء الصوم دون الصلاة، ثمَّ قال له: البول أقذر أم المني؟ فقال: البول أقذر، فقال: يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني، وقد أوجب الله تعالى الغسل من المني دون البول... تزعم أنك تفتي بكتاب الله، ولست ممّن ورثه، وتزعم أنّك صاحب قياس، وأوَّل من قاس إبليس ولم يُبْنَ دين الله على القياس، وزعمت أنك صاحب رأي، وكان الرأي من الرسول صواباً، ومن غيره خطأ...".

لا يظهر أبو حنيفة في المصادر الشيعية الاثني عشرية كتلميذ ضلّ طريق الحق فحسب، بل يظهر أيضاً في صورة الفقيه المقرّب من السلطة الظالمة، والذي حاول الطغاة أن يستعينوا به لإضعاف مكانة الأئمة المعصومين من آل البيت. تتضح تلك الصورة في واحدة من الروايات المشهورة التي نُقل فيها عن أبي حنيفة قوله: "ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد، ويقصد الإمام جعفر الصادق لما أقدمه المنصور -يقصد الخليفة أبي جعفر المنصور- بعث إليَّ فقال: يا أبا حنيفة إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمّد، فهيّئ له من المسائل الشداد. فهيّأت له أربعين مسألةً ثمّ بعث إليّ أبو جعفر المنصور وهو بالحيرة، فدخلت عليه وجعفر بن محمّد جالس عن يمينه، فلمّا بصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور. فسلّمت وأومأ فجلست، ثمّ التفت إليه قائلاً: يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة. فقال: نعم أعرفه، ثمّ التفت المنصور فقال: يا أبا حنيفة ألقِ على أبي عبد الله مسائلك. فجعلت ألقي عليه فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا وهم يقولون كذا ونحن نقول كذا، فربّما تابعنا وربّما تابعهم وربّما خالفنا حتّى أتيت على الأربعين مسألةً، ما أخلّ منها مسألة واحدة. ثم قال أبو حنيفة: أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس". 

من هنا، اعتادت الذاكرة الشيعية الإمامية أن تضع النعمان في مقابل الإمام الصادق، فجعلت من الأوّل العدوّ اللدود للثاني. يتضح ذلك فيما يذكره العالم الشيعي المعاصر السيد علي الشهرستاني، في كتابه "وضوء النبي"، عندما يتحدث عن الدور العلمي الذي اضطلع به الإمام الصادق فيقول: "فإنه هو الذي أحبط بادرة الإمام أبي حنيفة في محاولة اختراقه للفقه الشيعي، بخلاف الزيدية الذين انشغلوا بالحرب والكفاح المسلح وعدم وجود أئمة من أهل البيت بينهم، مما أدى إلى خلق فجوة وفراغ فقهي عندهم اضطرهم إلى الالتجاء لفقه أبي حنيفة". 

أبرزت المصادر الشيعية الاثني عشرية أيضاً بعض المناظرات والمخاصمات التي وقعت بين أبي حنيفة وعدد من فقهاء الشيعة البارزين في زمنه. يحكي أبو منصور الطبرسي، المتوفى سنة 560هـ، في كتابه "الاحتجاج"، عن المناقشات الساخرة بين النعمان والمتكلم الشيعي محمد بن علي البجلي -يسمّيه السنّة شيطان الطاق، بينما يسمّيه الشيعة مؤمن الطاق- فيقول: "كان أبو حنيفة يوماً يتماشى مع مؤمن الطاق في سكة من سكك الكوفة، إذا منادٍ ينادي: من يدّلني على صبي ضال؟فقال مؤمن الطاق: أما الصبي الضال فلم نرَه، وإن أردت شيخاً ضالاً فخذ هذا! عنى به أبا حنيفة". يذكر الطبرسي، في موضع آخر من كتابه: "لما مات الصادق رأى أبو حنيفة مؤمن الطاق فقال له: مات إمامك؟ قال: نعم، أما إمامك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، يقصد أن إمام أبي حنيفة هو إبليس!". 

قُدّم أبو حنيفة، في المُتخيّل الشيعي الاثني عشري، بوصفه التلميذ الخائن لأساتذته من آل البيت، والفقيه المتآمر مع السلطة العباسية الغاصبة.

تسببت كل تلك الروايات والأخبار في رسم صورة سلبية لشخصية أبي حنيفة في الذاكرة الشيعية الاثني عشرية. من المهم هنا ألا ننسى أن العوامل السياسية لعبت دوراً كبيراً في رسم تلك الصورة، إذ أثّر الصراع المحتدم الذي وقع في القرن السادس عشر الميلادي بين الصفويين -الذين يعتنقون المذهب الشيعي الاثني عشري- والعثمانيين -الذين يعتنقون المذهب السنّي الحنفي- في تعظيم خطاب الكراهية الشيعية ضد أبي حنيفة. وتجلى ذلك عندما اجتاح الشاه إسماعيل الصفوي بغداد، وقام بنبش قبر أبي حنيفة وتدميره. يذكر الشيخ الشيعي المثير للجدل ياسر الحبيب،أنّ الصفويين بعد أن نبشوا قبر أبي حنيفة، وضعوا مكانه جيفة كلب إمعاناً في الحطّ من شأن المرقد وصاحبه!

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image