منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزّة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ولاحقاً العدوان على لبنان منذ 23 أيلول/ سبتمبر 2024، تعمل إسرائيل على شلّ جميع أنواع الخدمات الاجتماعية، وخاصةً تلك التي تعتني بالضحايا والجرحى بعد كل قصفٍ.
هذا التكتيك طالما استخدمته إسرائيل، وبشكلٍ روتيني كي لا يرتاح الناجون أو يسلموا من الاعتداءات اللامتناهية، ولأجل أن تعقّد معاناتهم في إيجاد المأوى والمأكل والشفاء. ففي الأشهر الأولى من الحرب على غزّة٬ خرجت العديد من المستشفيات من الخدمة حتّى لم يعد هناك الآن عقب مرور أكثر من عام على الحرب المستمرة أي مستشفى عامل بكامل طاقته في القطاع. علماً أن بعضاً منها تحوّل إلى مآوي للنازحين أو معسكرات لقوّات إسرائيل أو قتلت إسرائيل واعتقلت طواقمها الطبيّة وعبثت بمحتوياتها حتى أصبحت خالية من المعدات وغير قادرة على تقديم الخدمات المعتادة.
سعت إسرائيل إلى تكرار هذا النموذج في لبنان في الوقت نفسه. وعملت على إضعاف قطاعه الصحيّ بممارسات مشابهة منذ بداية التصعيد قبل نحو الشهرين، فدأبت طائرتها على التجوّل من الشمال إلى الجنوب والقصف عشوائياً ونشر الدمار لـ"ملاحقة كل ما قد يُشكّل خطراً على إسرائيل". وكما تدّعي آلة الدعاية الإسرائيلية دوماً، فإن الخطر العظيم الذي تخاف منه لا يختبىء سوى في بيوت المدنيين ومراكز الإيواء والمدارس والمستشفيات.
الاستهداف الممنهج للقطاع والمنشآت الصحيّة تكنيك طالما استخدمته إسرائيل، وبشكلٍ روتيني كي لا يرتاح الناجون أو يسلموا من الاعتداءات اللامتناهية ولأجل أن تعقّد معاناتهم في إيجاد المأوى والمأكل والشفاء. هكذا أضرّت بالقطاع الصحي في لبنان خلال أكثر من شهرين من العدوان المستمر
وفق وزارة الصحة اللبنانية، ومنذ بدء العدوان إلى 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، "سقط 222 شهيداً، و330 مصاباً" من العاملين في القطاع الصحيّ. علاوة على استهداف وتضرّر 251 آلية و94 مركزاً طبيّاً وإسعافيّاً، و40 مستشفى. علماً أن الوزارة وثّقت اعتداءات على 67 مستشفى و231 جمعية إسعافيّة.
كذلك، أَخرجت إسرائيل 8 مستشفيات في لبنان عن الخدمة، منها مستشفى مرجعيون ومستشفى ميس الجبل الحكوميان، ومستشفى سانت تيريز الطبيّ في الضاحية الجنوبية ومستشفى صلاح غندور في بنت جبيل حيث أُصيب 9 على الأقل من العاملين فيه بجروحٍ خطيرة.
ولم تسلم المناطق الأخرى من الاستهداف الممنهج للأطقم والمنشآت الصحيّة٬ إذ خرجت مستشفيات تمنين التحتا ورياق وتل شيحا في البقاع عن العمل بعد عدّة غاراتٍ إسرائيلية طالت محيطها، وسط تغطية إعلامية ضعيفة لا سيّما في ظل عدم توفير وزارة الصحة اللبنانية المعلومات والتفاصيل الكافية. وحتّى هذه اللحظة، تعرّضت 36 مستشفى لاستهداف مباشر، وأُغلق 63 مستشفى ومركز رعاية صحيّة قسراً، بحسب أحد التقارير المستندة إلى بيانات منظّمة الصحة العالمية.
العامل المشترك بين كل هذه المستشفيات هو الاكتظاظ الناجم عن استضافتها المتضرّرين من العدوان وتقديم الرعاية للجرحى وخاصة تلك الحالات الحرجة التي تحتاج علاجات طويلة الأمد.
تتضح صعوبة الوضع أكثر مع إدراك أن هذه المستشفيات الصغيرة حجماً في معظمها تعاني منذ زمنٍ طويل جرّاء عدم التوازن بين أعداد الجرحى فيها من جهة وقدرتها الاستيعابية وعدد العاملين فيها ونوعية الموارد التي تحصل عليها من الجهة الأخرى. تحديداً، تعاني المستشفيات والمراكز الصحيّة من نقصٍ ملحوظ في العمّال والمتخصّصين، وخاصةً في علاج الإصابات الخطيرة والحروق الناجمة عن القصف واضطراب ما بعد الصدمة.
"هلأ ماشي حالنا بس إذا رح تمتّد الحرب ما رح نقدر، فينا نتحمّل بس بعض الأسابيع" يقول نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة في لبنان د. سليمان هارون لرصيف22، قبل إعلان التوصّل إلى اتفاق الهدنة، متابعاً بأن "المشكلة الرئيسية والجديدة حالياً هي أن منازل الطاقم الطبيّ تعرّضت للقصف، فأصبحوا هم أنفسهم نازحون. وولّد ذلك ضغطاً مضاعفاً على العاملين٬ الصحيّين إذ تعمل بعض الفرق 24 ساعة متواصلة بحسب عدد الموظّفين الموجودين الذين لا يستطيع بعضهم أصلاً الوصول إلى المراكز والمستشفيات".
ويضيف د. هارون: "بالطبع دقّ ناقوس الخطر كوننا نواجه ضغوطاً مالية كبيرة أيضاً. نمر بفترة فريدة من نوعها ونحتاج إلى تمويل خاص لشراء المستلزمات. ولكن ما يحدث هو العكس، فالمستحقات التي تصلنا من الدولة تأتي متأخرة والمبالغ أصلاً غير كافية".
وتنفق وزارة الصحّة اللبنانية معظم موازنتها على تغطية علاجات المواطنين في المستشفيات الخاصة ضمن مؤسسات الضمان الاجتماعي المختلفة للموظفين في القطاعات العامة في لبنان، أو تغطية العلاجات المحددة للمواطنين مثل غسيل الكلى وغيره، كما تقول.
معاناة المستشفيات والكوادر الطبيّة لم تبدأ بعد العدوان الأخير، فمنذ بدء الأزمة الاقتصادية عام 2019، خفّضت الدولة الميزانيّة المخصّصة للقطاع الصحيّ وأُجبرت العديد عدة مستشفيات على إغلاق بعض أقسامها أو الاعتماد على مساعدات ماليّة خارجيّة.
وفق وزارة الصحة اللبنانية، ومنذ بدء العدوان إلى 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، "سقط 222 شهيداً، و330 جريحاً" من العاملين في القطاع الصحيّ. علاوة على استهداف وتضرّر 251 آلية و94 مركزاً طبيّاً وإسعافيّاً، و40 مستشفى
وأصبحت هذه المستشفيات تعاني من نقص الإمكانات المادية والأدوية واللوازم الطبيّة. والأخطر من هذا كلّه هو كثافة هجرة الأطباء والممرضين من لبنان، إذ برز غياب أصحاب الخبرة والتخصّص في مختلف المناطق. وتعمل هذه المستشفيات أصلاً في بنية تحتية ضعيفة ونقص في الإمدادات المناسبة لأنّها تأثرت بانفجار مرفأ بيروت والغياب شبه الكامل للكهرباء والاعتماد كليّاً على المولّدات الخاصة للاستمرار في عملها.
"لقد أصبحت وتيرة العمل أكثر إرهاقاً بعد الحرب، فبالإضافة إلى الحالات العادية التي تصل إلى المستشفى، هناك تدفق متزايد من مرضى الصدمات بشكلٍ خاص، فضلاً عن ضحايا الانفجارات وحالات البتر والحروق"، يقول أحد الممرضين العاملين في مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت، مفضّلاً عدم ذكر اسمه.
ويردف "يتعيّن على المستشفى الاستجابة لجميع ضحايا الحرب بشكلٍ متوازٍ للمرضى الآخرين الذين يعانون من مشاكل طبيّة مختلفة، ما يترك العديد منّا (الأطقم الطبيّة) منهكين ومدمرين نتيجة لموجة الحالات الضخمة التي نراها يومياً".
استهدافات "عشوائية" في محيط المنشآت الصحيّة
تزيد استهدافات إسرائيل العشوائية في محيط المستشفيات والمنشآت الصحيّة من صعوبة العمل ضمن القطاع الصحيّ. فمع تفجيرات أجهزة البيجر واللاسلكي بدايةً، اكتظّت مستشفيات بيروت وضواحيها بالجرحى وذويهم فوق قدرتها الاستيعابية.
واضطر أطباء العيون والعظام للتعامل مع حالات جديدة وغير متوقّعة وخاضوا عمليات جراحيّة طويلة لسحب معادن "البيجر" من أجسام مئات الجرحى. ومع بدء الحرب وتطوّرها يتحدّد عمل المستشفيات التي تضطر للاعتماد على المساعدات الدوليّة ومخازنها الخاصّة كمصادر أساسيّة لسير عملها بعدما أوضحت وزارة الصحّة أنّ ميزانيتها لم تعد قادرة على تلبية الاحتياجات المتزايدة.
"الوضع كارثي في مراكز النزوح والشح في الموارد يُزيد الوضع سوءاً، خاصةً مع توفّر 20% فقط من المستلزمات المطلوبة"٬ تقول زينة مهنّا، وهي عضوة في مجلس إدارة مؤسسة عامل الدولية، متابعةً "من خلال عملنا في العيادات النقّالة٬لاحظنا أنّ أكثرية مراكز الإيواء٬ومنها المدارس، غير مجهّزة بمضخّات المياه المناسبة في الحمّامات، ما يولّد مشاكل جلدية عديدة. وتتبلور الأزمة مع قدوم فصل الشتاء قريباً٬ خاصةً مع غياب وسائل التدفئة المناسبة وارتفاع مخاطر انتشار فيروس كورونا مجدداً٬ ناهيك بنقص اللقاحات المناسبة والعلاجات المطلوبة للمسنين. كما هناك نقصٌ ملحوظ في الأدوية خاصّةً للأمراض المزمنة والمشاكل النفسيّة في ظل نقص التمويل الخارجي".
ولم تكتفِ إسرائيل باستهداف المستشفيات الحكومية والمراكز الطبيّة٬بل استهدفت أيضاً الصليب الأحمر والدفاع المدني ومراكز الهيئة الصحيّة الإسلاميّة. وعلى إثر الهجمات الإسرائيلية٬قضى 192 مسعفاً علاوة على الآليات والمنشآت المستهدفة التابعة للفرق الصحيّة ضمن سياسة تدمير ممنهجة على المنظومة الطبيّة والعاملين بها من قبل إسرائيل.
ومن أبشع جرائم إسرائيل بحق المسعفين في لبنان خلال الأسابيع الماضية٬ استهداف مراكز للدفاع المدني والهيئة الصحيّة الإسلامية في بلدتي دردغيا وسلعا وسقوط 6 مسعفين من الهيئة الصحيّة الإسلامية وجمعية الرسالة للإسعاف الصحيّ في غارات إسرائيلية على حبوش وزفتا ودردغيا خلال 24 ساعة فقط. وفي جميع هذه الاعتداءات، خرقت إسرائيل القوانين والأعراف الدولية٬ خاصّةً أنّ فرق الإسعاف تُعلم قوّات اليونيفيل قبل دخولها إلى المناطق الجنوبية المتضرّرة بالقصف الإسرائيلي.
وعلى الرغم من فساد الطبقة السياسية المستشري في لبنان منذ عقود وتأثيره على القطاع الصحيّ، استطاعت وزارة الصحة التنسيق مع الجهات المعنية لتطوير خطط استجابة للطوارئ والعمل على تقديم الخدمات الصحيّة للمتضررين. فعملت مع العيادات النقّالة على مراكز الإيواء لتسهيل وصولها لقاعدة بيانات شاملة تتضمن ملفات المرضى النازحين لتوفّر لهم المساعدة الطبيّة والأدوية المتوافرة. كما اتبعت إستراتيجية واضحة لضمان وصول الأدوية إلى مراكز الإيواء حيث تم تسليم أكثر من مليوني ونصف علبة دواء من المساعدات الخارجية حتى نهاية تشرين الأول الفائت، وفق ما تفيد الوزارة وتؤكد مهنا من خلال العمل المشترك بين الوزارة و"عامل".
"أصبحت وتيرة العمل أكثر إرهاقاً بعد الحرب. بالإضافة إلى الحالات العادية التي تصل إلى المستشفى، هناك تدفق متزايد من مرضى الصدمات وضحايا الانفجارات وحالات البتر والحروق. كما يتعيّن على المستشفى الاستجابة لجميع ضحايا الحرب بشكلٍ متوازٍ، ما يترك العديد منّا (الأطقم الطبيّة) منهكين ومدمرين نتيجة لموجة الحالات الضخمة التي نراها يومياً"
ختاماً، ساهمت الأزمات المتتالية التي طالت لبنان في إضعاف قدرة المنظومة الطبيّة على الاستمرار بعملها بشكلٍ طبيّعي. وقد واجه القطاع الصحيّ للمرة الأولى إسرائيل مواجهة مباشرة غير متكافئة على إثر الاستهدافات والاعتداءات على أطراف المستشفيات واستهداف طواقمها وفرق الإسعاف.
ويبدو مصير القطاع الصحيّ في لبنان وقدرته على مواصلة عمله غير واضحين إذا لم تدم الهدنة التي تم التوصّل إليها أخيراً. غير أن المؤكّد أنه في الوقت الراهن، يبقى الاتِّكال الأكبر على الأطباء والممرضين والمسعفين والعاملين في الصفوف الأماميّة في القطاع، والذين لم يتقاعسوا يوماً عن أداء واجبهم ومعالجة الجرحى، متحدّين وحشية إسرائيل وهمجيتها ومصرّين على تقديم الدعم مهما كانت التحديات كبيرة وقلّة الموارد والإمكانات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم