للشهر الثاني على التوالي، تعجز النازحة أمينة جعفر، المصابة بأمراض مزمنة عدة، عن تلقّي علاجاتها.
اضطرت صاحبة الـ86 سنةً، إلى النزوح مع عائلتها بعد الهجوم العنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت، إلى مدرسة كفرحبو في قضاء الضنية، تاركةً خلفها أغراضها وأدويتها وذكريات كثيرةً. هناك تحدّق أمينة في الأفق بعيون يملؤها الحزن، منتظرةً "الفرج" الذي يشفيها، كون الأدوية التي تحتاجها غير متوافرة حالياً.
في الواقع، إن مريضة الضغط والكوليسترول التي رسم الزمن التجاعيد على وجهها، لا تجد أدويتها.
تكشف حفيدتها ريان (22 عاماً)، عن حجم المعاناة، وتقول لرصيف22: "جئنا إلى مدرسة كفرحبو، هرباً من وتيرة القصف الإسرائيلي على الضاحية، وهنا تتفقدنا الجمعيات دائماً لكن دون جدوى، فمعظمها تقوم بتسجيل حاجاتنا وأدويتنا وترحل دون عودة".
وتضيف: "جلبنا لجدّتي أدويتها التي تحتاجها من الصيدليات القريبة، لأن انقطاع العلاج زاد من تفاقم حالتها الصحيّة، وقد حاولت بعض الجمعيات مساعدتنا ولكن غالبيتها تقوم بتصويرنا فقط، أو تقدّم لنا المسكّنات الخفيفة مثل البنادول، وفي بعض الأحيان نحصل على حبيباتٍ من الأدوية التي نطلبها".
ريان نفسها تعاني من حموضة في المعدة، وخالتها مصابة بالسكري أيضاً، والمعاناة واحدة: لا أدوية لها ولا لجدّتها ولا لخالتها ولا حتى لابن خالها الذي يعاني من كهرباء في الدماغ، وهنا "المصيبة" الكبرى، فالشاب (29 عاماً)، يحتاج إلى أدوية معيّنة غير متوافرة أصلاً.
لا ماء ولا غذاء
الأدوية ليست وحدها المشكلة، فحتى الجدّة وأولادها وأحفادها يعانون من سوء تغذية، كما أن هناك مشكلةً في الماء، وفق ما تقول ريان: "المياه غير صحية أبداً. لونها أخضر"، وبسببها تسمّمت العائلة، اذ عانى البعض من إسهالٍ شديد ووجعٍ في المعدة.
وقد حذَّرت منظمة الصحة العالمية، من أن خطر تفشّي الكوليرا في لبنان مرتفع جداً، بعد تأكيد إصابات بالعدوى البكتيرية الحادة في ظل العدوان الإسرائيلي على لبنان. وأشارت المنظمة إلى خطر انتشار الكوليرا بين مئات الآلاف من النازحين، وذلك بسبب تناول أطعمة أو شرب مياه ملوثة.
"حاولت بعض الجمعيات مساعدتنا ولكن غالبيتها تقوم بتصويرنا فقط، أو تقدّم لنا المسكّنات الخفيفة مثل البنادول، وفي بعض الأحيان نحصل على حبيباتٍ من الأدوية التي نطلبها"
تحاول ندى المصري، المصابة بسرطان الثدي وتعاني من مرضَي السكري والضغط، أن تتجنب تناول الطعام المقدّم، لكيلا تضطرّ للدخول إلى المرحاض كثيراً، حيث يتوجب عليها الانتظار لساعات في طابور طويل أمام المراحيض في ملهى "سكاي بار" في بيروت الذي فتح أبوابه للنازحين.
وتقول المصري، التي نزحت من الضاحية الجنوبية لبيروت بسبب القصف الإسرائيلي العنيف، لرصيف22: "تضطرّ العائلات هنا إلى استخدام مرحاض واحد أو عدد قليل من المراحيض، وهذا قد يعرّضني للإصابة بأمراضٍ عدّة معدية في ظلّ قلّة النظافة التي قد تنتشر".
أما نزهة سليم، فرحلة نزوحها كانت صعبةً جداً وشاقّةً عليها وعلى عائلتها، خاصةً أنها حصلت تحت النار في ظل القصف العشوائي. واللافت أنها وخالتها زينب (63 عاماً)، تواجهان مشكلة نقص الأدوية؛ فالأولى تعاني من الضغط، الديسك والروماتيزم، وهي بحاجة إلى إبرٍ مزمنة لم تكن متوافرةً أصلاً قبل الحرب، والثانية تعاني من مرضٍ مزمنٍ في عينها اليمنى وهي بحاجة إلى قطراتٍ دائمة قد تنطفئ عينها دونها.
في حديثها إلى رصيف22، من المركز الثقافي في برجا قضاء الشوف، تقول نزهة، إنها تحاول منذ نزوحها من منزلها إلى برجا الحصول على الأدوية والإبر، مشيرةً إلى أنها غير موجودة في أغلب الصيدليات، وكانت تحصل عليها من صيدلية قرب منزلها عن طريق وزارة الصحة، قبل تعرّض محيطها للقصف: "من دون هذه الإبر لا أستطيع العيش فهي ضرورية إلى جانب أدويتي الأخرى، وحالياً أحاول التواصل مع الجهات المعنية هنا في برجا لتلبيتها لأن حالتي الجسدية تتدهور تدريجياً".
أوضاع مأساوية جداً
من الطبيعي أن تكون أوضاع النازحين/ ات، خصوصاً أصحاب الأمراض المزمنة، مأساويةً، فبعضهم خرج بلا أغراضه وحاجاته بسبب القصف الإسرائيلي الذي طال الأحياء السكنية في مختلف المناطق اللبنانية.
يصف دكتور الصحة العامة، حسين هواري، الذي جال على مراكز الإيواء في بشامون، المشهد لرصيف22: "إنه مؤسف تماماً، فمعظم مراكز الإيواء لا وسائل تدفئة فيها والنظافة غائبة عنها، وبسبب هذا يعاني أصحاب الأمراض المزمنة بشكلٍ كبير. فمعظمهم يصابون بأمراض معدية بسبب قلّة النظافة وعدم الاستحمام ومنها: الأكزيما، الجدري ، والفطريات (أمراض جلدية)، الإسهال، الالتهابات في المعدة، الإنفلونزا، ومشكلات رئوية بسبب الروائح المنبعثة نتيجة الصواريخ الإسرائيلية".
بالإضافة إلى أن العديد من النازحين/ ات يفترشون الأرض، وينامون بلا فراش أو أغطية، وهذا يعرّضهم لمشكلات صحية عدّة في ظل برودة الطقس.
أما بالنسبة إلى مرضى السرطان، فهؤلاء حالياً يعانون من عدوٍ خبيث أكثر من السرطان، قد يحرمهم من العلاج اذا أطال الحرب.
ولكن رئيس جمعية "بربارة نصار" لدعم مرضى السرطان في لبنان، الدكتور هاني نصار، يطمئن بأن الوضع الحالي بالنسبة إلى مرضى السرطان تحت السيطرة، موضحاً أن نقص الأدوية الخاصة بمرضى السرطان، مشكلة ليست بجديدة وليست بفعل الحرب، وإنما هي موجودة في لبنان قبل الحرب الإسرائيلية على لبنان.
ويقول نصار لرصيف22، إنه على مريض السرطان إبلاغ وزارة الصحة عبر الاتصال على الخط الساخن الخاص بها 1214، بمكان نزوحه وإقامته، لتحويله إلى أقرب مستشفى، وهناك يعالَج ويحصل على أدويته.
هل الواقع الصحي في خطر؟
تؤكد المنسّقة المركزيّة للرعاية الصحيّة الأوليّة في وزارة الصحة العامة وفاء كنعان، لرصيف22، أنّ الواقع الصحي في لبنان ما زال تحت السيطرة برغم ارتفاع وتيرة القصف الإسرائيلي، مشيرةً إلى أن وزارة الصحة العامة-دائرة الرعاية الصحية الأولية، تقوم بتغطية مراكز الإيواء المحددة من قبل الهيئة العليا للإغاثة في مناطق النزوح تدريجياً. ويأتي ذلك في إطار التعاون الوثيق مع الشركاء المحليين والدوليين بهدف إرسال فرق طبية متخصصة إلى مراكز الإيواء لتقييم الحاجات الصحية للنازحين/ ات وتقديم الخدمات الطبية المناسبة بشكل مجاني، ومنها الفحص الطبي، التلقيح، توزيع الأدوية المزمنة والحادة، والدعم النفسي.
وبحسب كنعان، في المرحلة الأولى تم ربط مراكز الإيواء بمراكز الرعاية الصحية الأولية، وتقوم العيادات النقالة التابعة لمراكز الرعاية الصحية الأولية، والتي تضمّ فرقاً متخصصة من أطباء وممرضين وفي بعض الأحيان قابلات قانونيات وعاملين صحيين مجتمعيين، بزيارة مراكز الإيواء لتقييم احتياجات النازحين/ ات، وتقديم الخدمات الطبية الأساسية لهم.
كما قامت وزارة الصحة العامة ومن خلال المستودع المركزي في الكرنتينا، بتوزيع حصص من الأدوية المزمنة والحادة التي تم شراؤها من قبل الوزارة على مراكز الرعاية الصحية الأولية، والتي بدورها وزّعتها على المستفيدين/ ات في مراكز الإيواء بحسب الحاجة، بالإضافة إلى هبات الأدوية من الدول الصديقة. كما تم ربط مراكز الإيواء بمراكز الرعاية الصحية الأولية ضمن الشبكة الوطنية التابعة لوزارة الصحة العامة، وذلك لتمكين النازحين من متابعة حالتهم الصحية إذا ما تطلب الأمر خدمات طبيةً متخصصةً غير متوافرة عبر العيادات النقالة.
"معظم مراكز الإيواء لا وسائل تدفئة فيها والنظافة غائبة عنها، وبسبب هذا يعاني أصحاب الأمراض المزمنة بشكلٍ كبير. فمعظمهم يصابون بأمراض معدية بسبب قلّة النظافة وعدم الاستحمام ومنها: الأكزيما، الجدري ، والفطريات (أمراض جلدية)، ومشكلات رئوية بسبب الروائح المنبعثة نتيجة الصواريخ الإسرائيلية"
أما بالنسبة إلى النازحين/ ات الموجودين/ ات في مراكز الإيواء غير المسجّلة رسمياً على اللائحة الصادرة من رئاسة مجلس الوزراء، فحالياً تحاول وزارة الصحة بالتنسيق مع الشركاء المحليين والدوليين الوصول إليهم/ نّ لتقديم العناية الصحية اللازمة، خصوصاً أصحاب الأمراض المزمنة.
أما بالنسبة إلى النازحين الذين خارج مراكز الايواء، أي لدى أقاربهم أو في منازل تمكّنوا من استئجارها، فيمكنهم، بحسب كنعان، التوجه إلى مراكز الرعاية الأولية القريبة منهم، حيث خصصت الوزارة خطاً ساخناً (1787-1214)، لمعرفة أقرب مركز رعاية صحية أولية.
وتعمل الوزارة على تدريب الأطباء على بروتوكولات الصحة النفسية، لتقديم هذه الخدمات بما فيها توفير الأدوية المناسبة لهم في مراكز الرعاية الصحية الأولية.
في الختام، يخرج المسؤولون في القطاع الصحي إلى العلن في محاولات لطمأنة النازحين بأن "الأدوية متوافرة لأشهر بعد". وعليه، لا خوف من انقطاع الأدوية المزمنة والمستعصية حالياً، لكن ما يتخوّف منه نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة في لبنان، سليمان هارون، ويعدّه ضربةً موجعةً "يتمثل في فرض حصار جويّ وبحريّ يصعّب حينها عملية استيراد الأدوية من الخارج"، وفق ما يقول لرصيف22.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...