شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
لماذا اعتُبر أشهر فيلم مصري هذه الأيام؟...

لماذا اعتُبر أشهر فيلم مصري هذه الأيام؟... "أبو زعبل 89" وحكاية مسكوت عنها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

في المرة الأولى التي سمعنا فيها عن احتمالية وجود هذا الفيلم تحديداً ضمن الأفلام التي ستُعرض في دورة مهرجان القاهرة السينمائي الأحدث، لم نصدّق الأمر. بالطبع طُرحت الفكرة لكن الجميع استبعدها بعد دقائق. كنّا ضمن لجنة مشاهدة المهرجان، ولم يمرّ الفيلم أمامنا للموافقة عليه أو رفضه. قابلنا مخرج العمل قبل أيام من المهرجان، في مهرجان سينمائي سبقه بأيام قليلة، ولم يؤكد أيّ شيء. لماذا؟ تخيّلوا فيلماً عن أسرة سجين سياسي مصري يُعرض في مهرجان الدولة الرسمي هنا والآن! كل ذلك في لحظة لم يكن قد مرّ وقت طويل فيها على أزمة فيلم "آخر المعجزات" الذي كان رصيف22، أول من تابع قصة منعه. عرفنا بعد وقت أن المدير الفني للمهرجان عصام زكريا، سيحمل فيلم "أبو زعبل 89"، وحده، ليتابع إجراءات الرقابة في الخفاء، وسيخبر المخرج بأن الفيلم سيُعرض، لكن دون أن يظهر مع الأفلام المقرر عرضها ضمن المؤتمر الصحافي، وسيظل مسكوتاً عنه حتى يمرّ عرضه بسلام، لأن مجرد عرضه انتصار كبير.

أخبرنا زكريا بأن ذلك كان الضمانة الوحيدة لمنع البروباغندا التي قد تؤدي إلى منعه قبل العرض، وطلب بشكل مباشر عدم الكتابة عن الفيلم وقت المهرجان. لماذا كل هذه الديباجة؟ ليس فقط لأنه حصد لاحقاً جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل، وجائزة أسبوع النقاد الدولية، بالرغم من همس عدد غير قليل في كل عرض من عروضه الثلاثة، بغرابة الموافقة على عرضه أساساً، بل لأنه كذلك سيصبح ضمن أشياء أخرى أدت إلى مشكلة كبيرة حدثت بين المدير الفني ورئيس المهرجان حسين فهمي.

هذا الفيلم يمكن أن يحمل في كل تفصيلة من وجوده حكايةً مختلفةً مثيرةً ومساحة تأمّلٍ رحبةً للمؤيد والمعارض. ربما كان الفيلم الأكثر جدلاً وشهرةً بين كل أفلام دورة المهرجان

صدّقوا أو لا تصدّقوا! هذا الفيلم، يمكن أن يحمل في كل تفصيلة من وجوده حكايةً مختلفةً مثيرةً ومساحة تأمّل رحبةً للمؤيد والمعارض. ربما كان الفيلم الأكثر جدلاً وشهرةً بين كل أفلام دورة المهرجان.

يروي "أبو زعبل 1989"، روايتين متوازيتين لجيلين مختلفين؛ فهو رحلة شخصية للمخرج بسام مرتضى مع والده محمود، تسترجع لحظات مفصليةً من حياتهما الشخصية، وتتقاطع مع تاريخ المقاومة السياسية في مصر في الأوقات الأخيرة من وجود أنور السادات والأولى من عهد حسني مبارك، في قصة تبدو مأساةً أركانها مكتملةً وقد انقضّت على جميع من اقترب منها أو كان في قلبها.

ملصق فيلم "أبو زعبل 89"

يبدأ كل شيء فيها باعتقال وتعذيب 52 رجلاً في سجن "أبو زعبل" عام 1989، بعد أشهر من الإضرابات العُمّاليّة، من بينهم والد المخرج. يفتح المخرج دفاتر ماضيه الذي يبدو تساؤلاً عن اللحظة سياسياً واجتماعياً وربما ثقافياً أحياناً، ويطرح خلالها رواية الأب بعد أن دفعته الملاحقات السّياسية القضائيّة نحو عزلته عن أسرته، ورواية الابن الذي حمل إرثاً شخصياً وعاماً لم يختره تماماً. يحاولان معاً استرجاع ذكريات الماضي، وإلى جانبهما الرواية الأكثر تماسكاً والأقل وجوداً على الشاشة: رواية الأم المكلومة.

ثالوث غير مقدّس

الأم في سؤالها المركزي عن السبب الذي جعل الوالد يهرب بعيداً، ويتركها وحدها مع الأبناء، بعد خروجه من المعتقل. الأب الذي يطرح تساؤلاً عن الهزيمة العامة التي لم يكن يتحملها أحد، خصوصاً بعد اعتقاله بالرغم من تضاد ذلك مع سبب وجوده كبطل يُنتج إجابة الجميع هنا. والمخرج ذاته الذي يختبئ شخصياً وراء أبطاله دون أن نعرف تماماً من هو، أو ماذا كان يريد بالتحديد، خصوصاً مع استبعاد وجود الأخ الأصغر الذي يبدو أن ظهوره كاد يصبح كاشفاً لمدى مسؤولية بسام (المخرج) نفسه.

يراهن بسام على عالمية فكرة الأب والابن، لكننا نفهم أنه مسار مغلق في سياق بسّام. يبدأ منه، ويورّط الجميع فيه، ويظل يضيّق عالمه من العام إلى الخاص الأسري، فهناك أصدقاء اعتُقل آباؤهم مثله. ثم يضيّق عالمَه أكثر على أسرته، ثم عليه وعلى أبيه فقط، فيغطس تماماً، ليحبس الجمهور أنفاسه، ولا يجد إجابةً. تورّط الأم ابنها الأكبر في زيارة والده في السجن. يوّرط الأب ولده في لعب دوره بعد أن يهرب. يقف بسّام كشخص يتلقى الأشياء دون إرادة. والكاميرا قد فُتحت على مصراعيها لتلتقط كل شيء، ولا تتخذ موقفاً.

مشهد من فيلم "أبو زعبل 89"

يدور الفيلم في ذلك الثالوث العائلي بين الابن والأب ثم الأم. يُغلق العالم عليهم، ثم يضيق أكثر فيصبح بين الأب والابن. تتفكّك الحواجز بينهما بالتدريج؛ تبدأ من مشاهد يظهران فيها في الكادر نفسه، لكن نظراتهما وأوضاعهما الجسدية تبدو متنافرةً تسعى للهروب، وتصل إلى ذروتها وقت جلوسهما في الشقة ذاتها يفصلهما جدار في الغرفة نفسها، لتصل إلى لحظات مكاشفة حقيقية تكاد تجعل سؤال قربهما أكثر صعوبةً، ولا يقترب من الحل حتى نهاية الفيلم.

ثمة شيء مركزي يفكّر فيه الإنسان لو قرر مشاهدة فيلم مثل "أبو زعبل 89": التغوّل أكثر في لحظة من خلال أسرة استثنائية أُعيد تشكيلها. كما أحاول معرفة تلك الأم التي صبرت أكثر مما يجب، والأب الذي ندم من هروبه، والابن الذي أعاد الزمن سينمائياً ليورّط من تسبب في أزمته. كل ذلك يتجاهله بسام، ويتخذ القصة الشيّقة ذريعةً للمراوغة والتشكيك في كل شعور وتصرّف.

مشهد من فيلم "أبو زعبل 89"

يقول بسام في حوار مع رصيف22 بأنه في بدايات تصوير الفيلم الذي احتاج إلى سبع سنوات لصناعته، كان الأب يريد قيادة دفة طريقة التصوير بأن يعطيه كبسولات مغلقةً للحكاية دون تفكيك، فيجعل الأشياء كلها محط تساؤل. بل كان يريد أن يأخذه إلى حكي يتأثر فيه الأب ويبكي ويتطهر أمام الجميع. فرفض المخرج ذلك، فهو كان تقريرياً سينتمنتالياً وغير ناضج تماماً، وهو ما يبدو واضحاً في الفيلم. بعد ذلك سنعرف أن الأب لم يرَ الفيلم أبداً سوى مع عرضه في المهرجان، وسيخبره بأنه سيكتشف نفسه مرةً أخرى من عين الابن. يساعد القدر بسّام في سياق حكاية الأم ويعطيه بُعداً درامياً لم يكن متوقعاً، لكنه يكمّل نظرته المتسائلة فقط.

هل الأفلام تبدأ في المونتاج؟

في كل مرة تجمعنا مع المخرج بسام مرتضى مناقشة حول فيلم من الأفلام، لا يتوقف عن إعادة عبارته الأثيرة: "الأفلام تُصنع في غرفة المونتاج". لا نتذكر مرةً واحدةً لم يكرر فيها المعلومة كبديهية. في الحقيقة مرات عديدة كان من الممكن الاعتراض عليه نسبياً. هناك أفلام تعتمد على تعديلات طفيفة تقنياً، بل هناك أفلام تنتهي تقريباً قبل المونتاج، لكن وفق بسام، مخرج "أبو زعبل 89"، الأفلام تبدأ من غرفة المونتاج. يفهم المشاهد ذلك جيداً بعد فيلمه. الفيلم ابتُكر تقريباً داخل غرفة المونتير أحمد أبو الفضل، وفق رؤية ولعب بسام المستمرين.

فيلم "أبو زعبل 89"

على عكس ما يعتقد بسام، كان ذلك بمثابة انقطاعات في المشاهدة. المونتير والمصوّر والمخرج تعاونوا على توريط المشاهد بشكل عكسي يجعله يعيد البناء والتساؤل. وهي مقامرة مغرية خطرة لأنها تفتح مسارات أسئلة قد لا تجد إجابتها لدى المشاهد، كما لم تجد إجابتها لدى الصنّاع أنفسهم. يخلق ذلك إيقاعاً بصرياً يبدو أشبه بلوحات فن تشكيلي ممنتجة سينمائياً. انطباعات سريعة لخلق تساؤلات، والقفز من كل سؤال إلى سؤال آخر. يفتتح بسام مسار شخصياته الثلاثة من خلال أسئلة بصرية خطابية دون إجابة. يخلق ذلك توتراً يلازم المشاهد طوال ثمانين دقيقة يُعرض خلالها الفيلم.

يحكي المخرج أن بعض المشاهد الأولى في الفيلم كانت حاضرةً في ذهنه تماماً بالشكل الذي ظهرت به، للدرجة التي جعلته بعد رؤيتها يتخيل أنه من الممكن التخرّيب أكثر. مرةً أخرى، يتحدّث بسام عن "التخريب". يعيد تشكيل المشاهد تمثيلاً بما يجعلها شذرات/ لقطات سريعةً لا تعطي انطباعاً بأننا أمام مشاهد تمثيلية لقصة مكتملة، لكنها مجرد ومضات تكشف أجزاء تجعل القصة أسهل استقبالاً. يساعده في ذلك مدير التصوير ماجد نادر، الذي يصوّر مشاهد عدة (خام تصوير 16 مل)، تخلق مسافةً حميميةً بين عالمين بصرياً وفكرياً، تماماً كالتي تصنعها شرائط الكاسيت التي يعتمد عليها المخرج في استعادة الأحاديث التي سجّلها لوالده وقت سفره إلى فيينا بعد الخروج من المعتقل.

فيلم "أبو زعبل 89"، عمل ذهني أكثر من كونه بصرياً أو خطابياً، يستخدم أدوات السينما بشكل مثالي لكي يزيد من حياديتها تجاه المتلقي. الخطاب البصري في فيلم أبو زعبل يمنع الإجابة، أو يعطّل وجودها. الأشياء مصنوعة بشكل مثالي دون أن تقدّم خدمةً للمشاهد أكثر من ذلك. تورّطه وتتركه سجيناً في أحد عنابر "أبو زعبل".

أسئلة مضادة للأسئلة

في فيلم مليء بالأسئلة، ما دور النقد؟ طرح أسئلة موازية. تجعل الفيلم في جزء من أزمة، بينما هو انتصار للسينما المصرية في لحظة صعبة، وقد امتلك مقومات تجعله أكثر حميميةً وقرباً من مناطق مختلفة للمجتمع. طبخ الشابُّ كل ذلك، وهرب منا دون إجابة. لا نعلم تماماً شيئاً شخصياً عن المخرج، لكن يمكن أن ندّعي بشكل واضح أنه هارب ممتاز. هذا الفيلم مذهل يورّط صانعه أكثر مما يدعمه.

لماذا كان الأشهر بين جميع الأفلام مصرياً على الأقل؟ ربما لأنه وعد يقول إنه من الممكن صناعة قصص تتحدث عن المسكوت عنه

لمن نصنع الأفلام؟ يخرج بسام على مدار سبع سنوات لإنتاج فيلم ذاتي تماماً، لكنه يبدو ذاتياً للدرجة التي تجعله يخص بسّاماً نفسه أكثر من أي إنسان آخر. صنع المخرج فيلماً لنفسه، ذكياً ومركباً وعاطفياً لخلق حالة من التضامن حول فكرة عنترية جريئة، وتعاطف حول طفولة مأزومة لأسرة اعتقل ربّها، وأم مكلومة ظلمها الخاص والعام، في قصة رجل هارب يحلّق بعيداً بالأسئلة دون الاصطدام بمآسي إجابتها. عمَّ يتحدث الفيلم؟ لا يمكن أن تقرر من يروي القصة أساساً. هرب المخرج حتى من صوته. لماذا نكتب عنه؟ لأنه يحقق كل شيء على المستويين الشخصي والعام. بدا وثيقةً سياسيةً مذهلةً وحواراً حميمياً شديد الصدق. كل تفكيك في فيلم "أبو زعبل 89"، يحرق مشاهدته دون رجعة. فهو فيلم يحتاج إلى طبقات من المشاهدة.

ما الجديد الذي يطرحه فيلم "أبو زعبل 89"؟ لا يوجد. الضبابية التي يتركها الفيلم على شخصياته بدت رد فعل عنيفاً على عدم إطلاق أي أحكام قيمية أو حتى مساءلتها. بسام سجين ماضيه. نحن كذلك سجناء معه بشكل أو بآخر. وعدنا بأشياء كثيرة، وهرب بقسوة من أي إجابة شخصية أو عامة. قسوة قد تخلق بعض الغضب.

تحوّل من قصة تعرض حياة أبناء المعتلقين إلى سؤال مفتوح عن المجتمع كله. كل ذلك لا يجعل تصرف مدير المهرجان عصام زكريا، في محاولة دفع الفيلم عنوةً للمشاهدة، غير ذي جدوى. بل لا نُبالغ لو كانت اللحظة التاريخية كلها أهّلت نفسها لعرض فيلم جريء وذكي ومغامر مليء بالأسئلة التي يورّط فيها المخرج كل مشاهد ويهرب. ماذا تفعل لو كنت ابن معتقل سياسي؟ ماذا تفعل لو كنت معتقلاً سياسياً؟ ماذا تفعل لو أنّ شريكك معتقل سياسي؟ تتحمّل الدولة مبدئياً ذنبها ثم تُترك الإجابة مفتوحة تنتظر أسئلة أخرى. الخيالات التي يتحرك من خلالها بسام تبدو تهويمات شاعريةً للمشاهد، وذلك ضَعف في الفيلم.

لماذا كان فيلم "أبو زعبل 89" الأشهر بين جميع الأفلام مصرياً على الأقل؟ ربما لأنه وعد يتمسك به جمهور ليثبت لنفسه أنه من الممكن صناعة قصص تتحدث عن المسكوت عنه. فيلم بمثابة رصاصة أخذ الثأر أطلقها صانع مستقلّ بمعاونة أصدقاء، يشبههم ويشبهونه.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image