كفتاة شابة في غزّة، أشد ما يُخيفني هو اقتراب موعد دورتي الشهرية. لن أنسى يوماً من كانون الأول/ ديسمبر 2023، حين كانت الدبّابات الإسرائيلية تُحاصر منطقتي، ودورتي تُنبئني بمجيئها. وما إن أتت حتى حملت معها آلاماً تُمزّقني وتنتزع روحي بالتدريج. مع ذلك، لم أجد حبّة مسكن تخفف من عذابي.
ما زالت صورتي حينها حاضرةً أمامي، فتاة ملقاة على فراشها، تضع يديها المرتجفتين على بطنها، تردد آيات من القرآن وتدعو الله أن يُسكِّن الألم الذي لا يُحتمل.
لم يكن الألم وحده خصمي. الخوف من أصوات القذائف، والظلام الدامس، وعدم وجود مياه كافية، جميعها أمور جعلت من كل لحظة جحيماً. لم أكن الوحيدة في ذلك، خلف كل نافذة مغلقة في غزّة، فتاة أو امرأة تُعاني بصمت من ألم لم يكن يوماً جزءاً من حسابات الحرب.
خلف كل نافذة مغلقة في غزّة، فتاة أو امرأة تُعاني بصمت من ألم لم يكن يوماً جزءاً من حسابات الحرب
في زمن الحرب، تعيش النساء تحدّيات لا يمكن تخيلها، تتجاوز مجرد النجاة من القصف والنزوح. واحد من هذه التحدّيات التي نادراً ما تُناقش هو كيفية التعامل مع الدورة الشهرية في ظل انعدام أساسيات الحياة. فكيف تواجه النساء هذه الظروف القاسية؟
بدايةً، هناك صعوبة الحصول على الفوط الصحية. فعدم توفّرها وارتفاع أسعارها بشكل جنوني يدفعان الكثيرات من النساء إلى استخدام بدائل بدائية مثل قطع القماش. وأخريات يستخدمن الفوطة الواحدة لأوقاتٍ طويلة ترشيداً لاستهلاكهن. ورغم أنها حلول مؤقتة، تفتقر إلى النظافة اللازمة، وتعرّض النساء لخطر الالتهابات والأمراض. وحتّى اليوم، لا تزال هذه البدائل الخيار الوحيد للكثيرات بسبب انعدام القدرة المادية.
اختفاء المسكّنات هو تحدٍ آخر إذ الألم الحاد المصاحب للدورة الشهرية يصبح معاناة لا تُطاق في غياب المسكّنات. في ظل الحرب، وإن توفرت بعض المسكّنات تكون بأسعار مضاعفة ومن أنواع رديئة لا فعالية تُذكر لها، ما يترك النساء يعانين بصمت من وجع لا يرحم.
أمر ثالث وهو غياب فرص الراحة والخصوصية. ففي الخيام، حيث الحرارة العالية نهاراً والبرد القارس ليلاً، تُصبح الراحة حُلماً صعب المنال. النساء لا يستطعن أخذ قسط من الراحة خلال الدورة الشهرية، فالحياة اليومية تستمر دون توقف، ما يزيد من حدة الإرهاق الجسدي والنفسي.
كل مرة تقترب دورتي الشهرية منذ بداية الحرب، أشعر وكأنني في معركةٍ جديدة لا أملك أي سلاحٍ لخوضها
شُح المياه وغياب سُبل النظافة تحدٍ أيضاً لا يقل خطورة عن سابقيه إذ تعاني النساء لا سيّما في وقت الحيض من قلة المياه اللازمة للاغتسال والنظافة الشخصية. فحتّى الاستحمام الذي قد يُخفّف من ألم الدورة أو يؤمّن "الطهارة" يصبح رفاهية مؤجلة. وفي بعض الأوقات، تُجبر النساء على تأجيل "حمام الطهارة" (الاغتسال بعد انتهاء الحيض) لعدة أيام بسبب شح المياه، ما يزيد من الإحساس بالضيق وعدم النظافة الشخصية.
افتقاد النساء إلى التغذية الصحية والجيدة، والمشروبات الدافئة، أمر آخر ليس في الحسبان زمن الحرب. فمع قلّة توفّر غاز الطهو وصعوبة إعداد الطعام، تصبح وسائل التدفئة التقليدية كإشعال النار الخيار الوحيد، وهو أمر شاق وغير عملي. حتّى كوب من المشروب الساخن الذي قد يخفف ألم المرأة وقت الدورة الشهرية يصبح تحدّياً كبيراً.
النزوح المفاجئ أثناء الدورة من الأمور التي تُثير قلق الكثيرات. تخيّلوا أن فتاة تهرب تحت قصف القذائف الإسرائيلية دون أن تحمل معها أي من حاجاتها، وتأتيها الدورة الشهرية وهي بلا فوط صحية، وبلا ملابس إضافية، وبلا قدرة على الاستعداد لهذا الظرف الشهري. هذا السيناريو يتكرر مع آلاف النساء في غزّة، تاركاً أثراً نفسياً وجسدياً لا يمكن محوه، وندبة في الروح لا تُشفى.
علاوة على كل ما سبق، هناك التوتر والخوف وتأثيرهما. فالحرب تُحدث فوضى في المواعيد الطبيعية للدورة. الضغط النفسي والخوف يؤديان إلى تأخرها أو تقدمها بشكل غير متوقع، وعادةً يترافق ذلك مع آلام مضاعفة ونزيف غزير بسبب الإجهاد والضغط النفسي.
كل هذا يمكن تخيّل آثاره المضاعفة في ظل رداءة المرافق الصحية حالياً في مخيّمات النزوح، فالحمامات مشتركة بين العائلات، وليست نظيفة ولا صحية. في فترة تحتاج فيها النساء إلى أقصى درجات النظافة والعناية، يجدن أنفسهن في بيئة تفتقر إلى أدنى معايير الصحة.
الدورة الشهرية تُعطل حياة النساء حتّى في الظروف الطبيعية، فما بالكم بالنساء اللواتي يعشن حرب إبادة لا ترحم
الدورة الشهرية تُعطل حياة النساء حتّى في الظروف الطبيعية، فما بالكم بالنساء اللواتي يعشن حرب إبادة لا ترحم. الحديث عن معاناتنا، نحن نساء غزة، ضرورة لإلقاء الضوء على أزمة لا تُرى، ولإيجاد حلول تُمكّننا من الحفاظ على كرامتنا وصحتنا في أحلك الظروف.
فهل تُعنى المؤسسات الدولية بالعمل على تأمين حاجاتي أنا وجميع النساء في مناطق الحروب، من فوط صحية، ومسكّنات، وتحسين ظروف المعيشة في المخيّمات؟
واليوم، أجدني فتاة نازحة في خيمة على أرض قاحلة في مدينة خان يونس، أُعاني البرد القارس وأترقّب المطر بقلقٍ وفزع. وفي الوقت نفسه، يدق ناقوس الخطر منبّئاً بقدوم دورة شهرية جديدة، مُثيراً في داخلي رعباً عميقاً. سأواجهه البرد بملابس خفيفة وبالية، مع انعدام أبسط سبل الراحة وقلة الماء، ودون وجود أي مسكّن قد يخفّف آلامي. كل مرة تمر هذه اللحظة، أشعر وكأنني في معركةٍ جديدة لا أملك أي سلاحٍ لخوضها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 15 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت