شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"حكايات مغتربين في واقع مرير"... كيف تتغيّر اللغة خارج حدود الوطن؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والمهاجرون العرب

الثلاثاء 26 نوفمبر 202412:19 م

مع كل رحلة تنطلق نحو الغربة، يحمل المغتربون/ ات العرب حقائبهم/ نّ المليئة بالأحلام والطموحات، لكن أيضاً المحمّلة بموروث ثقافي عميق يتراوح بين اللغة (لغة الضاد)، والعادات والتقاليد.

هذا التراث الذي توارثته الأجيال، يصبح في المهجر أكثر من مجرد وسيلة للتواصل؛ هو انعكاس لهوية وذاكرة، ووسيلة للتمسك بالجذور في ظل واقع يفرض الاندماج في ثقافة مختلفة.

السؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف تتغير اللغة والثقافة في الغربة؟ وكيف يتعايش المغتربون/ ات مع التحديات التي تواجه هويتهم/ نّ؟

معركة التمسّك بالجذور

بالنسبة للكثير من المغتربين/ ات من الجيل الأول، فإن الغربة تُعيد تشكيل حياتهم/ نّ على مستوى عميق.

تقول ليلى عبد المنعم (48 عاماً)، لرصيف22: "حينما هاجرت من مصر مع زوجي وأطفالي إلى كندا في أوائل الألفية الجديدة، كان الهمّ الأول الذي شغل بالي هو الحفاظ على هويتي العربية. كنا ندرك منذ اللحظة الأولى أن المحافظة على لغتنا الأمّ لن تكون مهمةً سهلةً، خاصةً أنّ أطفالي كانوا في المدرسة، حيث البيئة المحيطة تتحدث بلغة مختلفة".

مع كل رحلة تنطلق نحو الغربة، يحمل المغتربون/ ات العرب حقائبهم/ نّ المليئة بالأحلام والطموحات، لكن أيضاً المحمّلة بموروث ثقافي عميق يتراوح بين اللغة (لغة الضاد)، والعادات والتقاليد

تحكي ليلى كيف كانت تفرض على أسرتها التحدث باللغة العربية داخل المنزل، وكيف كانت تستعين بالقصص والأغاني الشعبية لتعزيز اللغة العربية لدى أبنائها.

وبرغم محاولاتها الدؤوبة، كانت ترى أن أطفالها يتغيّرون تدريجياً، ويكتسبون مفردات من محيطهم الجديد، ويُظهرون مقاومةً للتحدث بالعربية أحياناً، وفق ما تقول: "أحياناً كانوا يجيبونني بالإنكليزية، برغم أنني كنت أصرّ على الردّ بالعربية، شعرت بالحزن، وكأن شيئاً ما ينفلت من بين يدي".

ليست ليلى وحدها من خاضت هذه المعركة، بل الكثير من الأسر العربية المغتربة من الجيل الأول، التي تحاول جاهدةً الحفاظ على اللغة العربية داخل المنزل، لكن المعركة لا تُحسم دائماً لصالح الحفاظ على الهوية، إذ يفرض المجتمع المضيف لغةً وثقافةً تهيمنان على تفاصيل الحياة اليومية.

لغة هجينة وهوية مزدوجة

في حديثه إلى رصيف22، يقول أحمد الحسيني، وهو شاب مصري يعيش في فرنسا: "كبرتُ في بيت يتحدث أهله العربية، لكن في الخارج كنتُ فرنسياً بالكامل، لم أكن أشعر بوجود أي مشكلة في الأمر، لكن مع مرور الوقت، وجدتُ نفسي أواجه صعوبةً في التعبير عن مشاعري باللغة العربية، كنت أستعمل لغةً هجينةً، هي مزيج من الفرنسية والعربية".

"حينما هاجرت من مصر مع زوجي وأطفالي إلى كندا في أوائل الألفية الجديدة، كان الهمّ الأول الذي شغل بالي هو الحفاظ على هويتي العربية. كنا ندرك منذ اللحظة الأولى أن المحافظة على لغتنا الأمّ لن تكون مهمةً سهلةً، خاصةً أنّ أطفالي كانوا في المدرسة، حيث البيئة المحيطة تتحدث بلغة مختلفة"

تظهر تجربة أحمد، كيف أن أبناء الجيلين الثاني والثالث يعانيون من ازدواجية لغوية وثقافية، فهم في كثير من الأحيان يُجبرون على الموازنة بين لغتهم الأم، التي تربطهم بأهلهم وبثقافتهم الأصلية، وبين اللغة المحلية التي تُستخدم في المدرسة والعمل وفي جميع مناحي الحياة العامة. هذه الازدواجية تُنتج لغةً هجينةً ومصطلحات مختلطةً، ما يجعلهم يشعرون في بعض الأحيان بأنهم ينتمون إلى مجتمعين في آنٍ واحد، دون الانتماء الكامل إلى أيّ منهما.

في إحدى دراسات علم الاجتماع الثقافي، تم توثيق أن الأطفال من الجيل الثاني غالباً ما يميلون إلى استخدام اللغة المحلية بشكل أكبر من العربية، ليس فقط بسبب البيئة، ولكن لأنهم يشعرون برغبة في التكيف والاندماج مع أقرانهم. هذه التحولات تؤدي في بعض الأحيان إلى فجوة ثقافية بين الأجيال، حيث يواجه الأبناء صعوبةً في التواصل مع الأهل بسبب ضعف إتقانهم اللّغة الأمّ.

التحديات اليومية

تُدرك الجاليات العربية في المهجر حجم التحديات التي تواجهها في الحفاظ على لغتها وهويتها، ولهذا تسعى إلى إنشاء مدارس ومراكز ثقافية تهدف إلى تعليم اللغة العربية وتعزيز الروابط الثقافية.

لكن التحدي لا يكمن فقط في توفير التعليم، بل في خلق بيئة جاذبة للأطفال، حيث يكون تعلّم اللغة ممتعاً وليس عبئاً. هذه الجهود تُسهم في تعزيز الهوية، لكنها تواجه صعوبات كبيرةً، خاصةً مع زيادة ضغوط الحياة اليومية على الآباء وغياب الدعم الحكومي في كثير من الدول، فهل يمكن لهذه المبادرات أن تُحدث تغييراً حقيقياً في الحفاظ على اللغة الأم؟

بالنسبة للمغتربين العرب، فإن الحفاظ على الهوية ليس مجرد تحدٍّ فردي، بل هو صراع يومي مع المتغيرات.

يقول سامر عزيز، وهو مغترب يعيش في نيويورك منذ 15 عاماً: "في عملي، أحاول أن أشرح لزملائي عن عاداتي وتقاليدي، لكنني أشعر دائماً بأنهم لا يفهمون تماماً، وأحياناً يُنظر إليّ على أنني مختلف".

يشير سامر إلى أن محاولة الحفاظ على اللغة والثقافة في بيئة مختلفة تُواجه عراقيل دائمةً، حيث يُتوقع من المغترب التكيّف مع المجتمع الجديد والانخراط فيه، ما قد يؤدي إلى تضاؤل تأثير الموروث الثقافي على الجيل القادم.

من جهتها، تروي فاطمة، وهي مغتربة في إيطاليا منذ 5 سنوات، كيف استطاعت أن تزرع حب اللغة العربية لدى بناتها برغم صعوبات البيئة المحيطة. تقول لرصيف22: "كنت أحرص على أن تكون حياتنا اليومية مليئةً بتفاصيل اللغة العربية، كنت أروي لهنّ القصص وأشاركهنّ الأغاني".

وتضيف: "في البداية، كان الأمر ممتعاً لهنّ، لكن مع بلوغهنّ سنّ المراهقة، بدأن يتأثرن أكثر بالمجتمع الإيطالي ويرفضن الحديث بالعربية".

توضح فاطمة كيف أنها قررت في تلك اللحظة أن تترك بناتها يكتشفن هويتهنّ دون فرض، وشيئاً فشيئاً عادت الفتيات إلى الاهتمام باللغة العربية من جديد، لكن من منطلق الحرية والرغبة الذاتية.

بين الاسترجاع والاغتراب

في عصر التكنولوجيا، أصبح الحفاظ على اللغة والثقافة في المهجر تحدّياً معقداً، إذ تُتيح وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات الذكية للمغتربين العرب فرصةً غير مسبوقة للوصول إلى المحتوى العربي، سواء عبر القنوات الفضائية، أو الفيديوهات، أو الكتب الرقمية.

تقول سارة مهني، وهي مغتربة مصرية تعيش في إيطاليا، لرصيف22: "ابنتي تُتابع قنوات يوتيوب للأطفال باللغة العربية، وهذا ساعدها في تطوير لغتها بطريقة غير متوقعة، لأنها تريد معرفة هذا الفرق بينها وبين غيرها".

لكن من جهة أخرى، تعرض هذه الوسائل الثقافات الجديدة بشكل مكثّف، ما قد يُشوّش على هوية الأطفال، ويُضعف ارتباطهم بلغتهم الأصلية.

بمعنى آخر، فإن التكنولوجيا تُشكل قوةً مزدوجة التأثير؛ هي وسيلة للحفاظ على الجذور، لكنها أيضاً تفتح أبواباً للثقافات الأخرى، ما يجعل التحدي مضاعفاً.

يروي مصطفى فرغلي (65 عاماً)، الذي عاد إلى وطنه بعد 20 عاماً من الغربة، تجربته لرصيف22: "كنت أظنّ أنني سأعود إلى حضن الوطن وأشعر بالألفة، لكنني وجدت نفسي غريباً حتى هنا؛ تغيّرت العادات وتغيرت اللغة المستخدمة في الشارع وكأنني عدت إلى مكان لا أعرفه بالكامل، لم تكن المناطق والأماكن بهذا الشكل الغريب ولا العادات، حتى الأجيال تغيرت بشكل كبير واللغة المستخدمة في الشارع مزيج بين العربية ولغة أخرى جديدة ربما تكون من اصطناع الشارع أو الجيل المراهق الذي لا يدري معنى اللغة والعادات".

ويضيف قائلاً: "شعرت بأني غريب في وطني وغريب في غربتي".

"كنت أظنّ أنني سأعود إلى حضن الوطن وأشعر بالألفة، لكنني وجدت نفسي غريباً حتى هنا؛ تغيّرت العادات وتغيرت اللغة المستخدمة في الشارع وكأنني عدت إلى مكان لا أعرفه بالكامل، لم تكن المناطق والأماكن بهذا الشكل الغريب ولا العادات، حتى الأجيال تغيرت بشكل كبير واللغة المستخدمة في الشارع مزيج بين العربية ولغة أخرى جديدة ربما تكون من اصطناع الشارع أو الجيل المراهق"

هذه التجربة تُبرز كيف أن العودة إلى الجذور ليست دائماً كما يتوقعها المغتربون، فهم يحملون معهم ثقافات وعادات اكتسبوها في المهجر، وهو ما قد يجعلهم يصطدمون بالواقع الذي تركوه خلفهم. العودة قد تُصبح تجربة استرجاع مختلطة بالغربة، لكنها تُشكل فرصة أيضاً لإعادة الارتباط بالجذور بشكلٍ جديد.

باختصار، إن الغربة ليست مجرد انتقال جغرافي، بل هي رحلة داخلية معقدة تُمثّل تحدّياً للّغة والثقافة والهوية. وبين محاولات الحفاظ على الجذور والانخراط في مجتمع جديد، يعيش المغتربون العرب تجربةً تُعيد تشكيل هويتهم جيلاً بعد جيل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

"نؤمن في رصيف22، بأن متابعة قضايا العرب خارج العالم العربي، في المهجر/ الشتات/ المنفى، هي أيضاً نظرة إلى أنفسنا، وإلى الأسباب التي اضطر -أو اختار- من أجلها الكثيرون إلى الهجرة بحثاً عن أمانٍ في مكانٍ آخر، كما أنها محاولة للفهم وللبناء وللبحث عن طرائق نبني بها مجتمعات شاملةً وعادلةً. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image