شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
هل جرّبت الشتاء في الحرب؟

هل جرّبت الشتاء في الحرب؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الثلاثاء 19 نوفمبر 202408:20 ص

في الحروب تتبدل الاهتمامات. الحروب تغيرنا، للأبد.

لم أتخيل يوماً أن أصبح كارهةً للشتاء. تحولت خلال أسابيع فقط، من "رئيسة رابطة محبي الشتاء" – كما يناديني أصدقائي، إلى كائن غاضب من المطر.

في داخلي سخط كبير عليه. يبدو هذا الكلام وكأنه هلوسة، ولكن كل شيء في الحرب مباح. كيف يجرؤ الشتاء على القدوم هذا العام، والناس تفترش الطرقات والمدارس؟ كيف طاوعه قلبه في الانقضاض علينا كما فعل العالم بأسره؟

لو كان الشتاء رجلاً، لتقدمت نحوه، صفعته بكل ما أوتيت من حزن، وطالعته بكلماتٍ قاسية. لو كان الشتاء رجلاً، لخاصمته. ليس غضباً منه وحسب، بل عتباً يحمل في طياته انكسار المخذول. حتى أنت يا صديقي؟

لم أتخيل يوماً أن أصبح كارهةً للشتاء. تحولت خلال أسابيع فقط، من "رئيسة رابطة محبي الشتاء" – كما يناديني أصدقائي، إلى كائن غاضب من المطر. في داخلي سخط كبير عليه

الشتاء في أيام الحرب ليس ككل شتاء. إنه يمضي ببطء، وكأن الثواني محملة بأعباء لا تُرى، فتتساقط الأيام بيننا ونحن عالقون في دوامة البرد والعتمة. ما أثقله هذا الشتاء، إذ يأتي حاملاً صمتاً مطبقاً، تكسره أصوات الصواريخ والغارات وصهاريج الماء، صوتٌ يُشبه الغراب في هدوء الليل البارد. لكنّه الغراب الذي يعلن موت الأمان، لا موت الحقول.

كان الشتاء فيما مضى يأتي مصحوباً بآمال لا حصر لها. شهر خلقه الله للـ "كنكنة" والسبات المريح. شهر فيه تنظيف وتطهير، استعداداً لقطاف الربيع. كان الشتاء فصل الذكريات المطوية بين رائحة الحطب وأكواب الشاي. إن الشتاء ليس شتاءً ما لم يتخلله سحلب ساخن بطعم القرفة والمنزل. لكن في الحرب، صار برده قاسياً، لا يرأف بنا، ولا يحتمل ألمنا. صارت تلك الرياح الباردة تصافح وجوهنا كأنها تذكرنا بمدى عزلتنا، ومدى وحدتنا في قلب هذا الدمار. أحياناً، أشعر أن الشتاء يحاكمنا؛ يضعنا أمام أسئلة وجودية: كيف صار العالم بارداً لهذا الحد؟ كيف فقدنا الدفء الذي تحكي عنه الأغاني والقصص؟

كنت أعد العدة لاستقبال الشتاء وكأنه مولود جديد أرزق به كل عام. كان له طعماً مختلفاً متجدد. كان الشتاء ولادة، أقدسها سنوياً وأستمتع بكل تفصيل من تفاصيل طقوسها. الشتاء هو البيت، والبيت هو كل شيء. كيف لفاقد البيت أن يستقبل الشتاء؟ ألم يقل له أحد أننا لم نجهز أغطيتنا السميكة، ولم نحضر مونة الفصل الريفية بعد؟ تركنا بيوتنا يا شتاء وأراضينا، تركنا ملابسنا في الخزائن وبقي ابريق البابونج مع الزعتر البري دون نار.

لو كان الشتاء رجلاً، لخاصمته حتى يدرك أنه ليس مجرد طقسٍ، وأن المطر ليس مجرد قطرات، وأن الرياح ليست فقط هواءً يتحرك. إنها تفاصيل تتشابك لتكون حالة متمردة تطالنا، تزرع فينا شعوراً بأننا أسرى لهذا البرد اللعين

في كل ليلة، حين ينام الجميع وينفرد البرد بمدينتنا، أشعر أن الشتاء يُصرّ على ترك بصماته فوق كل شيء، فوق جدران مراكز الإيواء، فوق الأرواح التي تهرب من العتمة، فوق الأرصفة التي تئن تحت وطأة البرد وقسوة الظروف. يلتصق بنا، يذكرنا بضعفنا، بضعف الأشياء الجميلة التي كنا نظنها قوية.

لو كان الشتاء رجلاً، لخاصمته حتى يدرك أنه ليس مجرد طقسٍ، وأن المطر ليس مجرد قطرات، وأن الرياح ليست فقط هواءً يتحرك. إنها تفاصيل تتشابك لتكون حالة متمردة تطالنا، تزرع فينا شعوراً بأننا أسرى لهذا البرد اللعين. نحن أسرى لهذا القدر الثقيل.

في هذا الشتاء، لم يعد يهمني معطفي الأحمر، ولا فناجين الشاي التي اشتريتها قبل الحرب لاستقبل بها البرد. أبحث عن أمان، عن أملٍ بأن هذا البرد سيتوقف يوماً ما، أن هذه الغيوم ستتلاشى، وأن الشمس ستعود لتشفي جراح الأرض. جل ما أريد في هذا الشتاء هو الدفء لقلبي، الذي يعتصر ألماً وأنا بلا بيت، بلا بيتي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image