شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"المقامة البرازيلية" ونعت نزار قباني "أبا النهد الأشقراني"... هكذا روى العجيلي أسرارَ الحياة السورية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ نحن والحقيقة

الاثنين 11 نوفمبر 202411:22 ص

"في هذه البيئة ذات الطابع البدوي، وذات الأسلوب نصف المتحضر في العيش، كان والدي واحداً من أوائل الذين تحوّلوا من نصف الحضرية إلى الحضرية التامة. كنّا نملك ماشيةً وأفراساً ونمارس الزراعة الموسمية، ولكننا تخلّينا عن بيت الشعر ذي الأعمدة والأطناب، وسكنّا المنزل الحجري بصورة مستمرة، غير أن صلتي أنا الصبي الصغير لم تنقطع بارتياد البراري وبالعيش في الهواء الطلق".

في مطلع القرن العشرين، وضمن محيط وادي الفرات، شمالي سوريا، نشأ عميد الرواية والقصة السورية عبد السلام العجيلي، لأسرة مرموقة عشائرية ذات أصول عراقية موصليّة تُسمّى "البوبدران"، من أب يُعدّ أحد وجهاء الرقّة وأعيانها.

حيث الحياة البدوية ومجالس السمر والغناء وأحاديث العشيات، صيغت حياة الحكواتي السوري الذي حوّل الحكاية إلى تاريخ عابر للأزمنة، ووثّق تفاصيل واقع أهلها ومواجعهم وتصوراتهم، ونقل تجاربهم الشخصية بنفح واقعي شفاف بوصفه طبيباً، مانحاً تلك التجارب أسلوب الوثائق التاريخية وخصائصها.

استطاع العجيلي نقد الآثار الاجتماعية السلبية دون أن يتصادم معها، كالثأر العشائري والتعلق بالخرافات والغيبيات والشعوذة والسحر، مستفيداً أيضاً من عمله في مطحنة والده التي عمل فيها يافعاً

بعد أن تخرّج العجيلي طبيباً في دمشق، آثر العودة إلى مدينته الرقة الراكنة في حضن البداوة برغم أيادي المدنيّة التي كانت تشدّها من ردائها آنذاك، ليعمل في ممارسة الطب في عيادته الصغيرة التي استطاع من خلالها اقتناص قصص الناس بمختلف طبقاتهم وطباعهم، وتدوينها وتشريحها بعيداً عن الرومانسية، لا سيما أنه كان ابن بيئته البدوية التي أثّرت فيه بعض خصالها وقيمها الموروثة كالكرم والحمية واحترام الأعراف، فبمعاينة إنتاجه الأدبي الغزير ما بين القصة القصيرة والروايات والمقالات، لم يذكر أو يعرّض بامرأة واحدة من منطقته، وهو الذي قال عنه نزار قباني: "العجيلي أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته البادية".

واللافت أن العجيلي استطاع نقد الآثار الاجتماعية السلبية دون أن يتصادم معها، كالثأر العشائري والتعلق بالخرافات والغيبيات والشعوذة والسحر، مستفيداً أيضاً من عمله في مطحنة والده التي عمل فيها يافعاً وأكسبته معارف واسعةً من البدو والحضر ونصف الحضر، كما منحته تصوراً عن قصص العشائر ومشكلاتها وقضايا النزاعات وألوان الحوادث الواقعية، ما دفع بالصحافي السوري الأشهر رياض نجيب الريس، في كتابه "الفترة الحرجة"، إلى القول: "عبد السلام العجيلي فارس من فرسان البادية. أتى المدينة سائحاً، وعاش فيها ووعاها فأغناها بقدر ما أغنته، وخرج منها أميراً من أمراء القصة، عنده حسن إلقاء المحدّث الذي يعرف كيف يكتب، وكيف يمسك بتلابيب القارئ المستمع، وهو يكتب بعربية البادية الأصيلة الواثقة من نفسها."

كيف عالج الأدب؟

في كتابه "عيادة في الريف"، الذي نشره في العام 1978، رسم العجيلي، في 24 قصةً، انطباعات طبيّةً بسيطةً عن مجتمع البدو الحضر ضمن منطقة وادي الفرات، خاصةً في مدينة الرشيد (الرقّة)، واستطاع عبر تلك العيادة تدوين حكايات مجتمع قبائلي برمته بمضحكاته ومؤسياته وغرائبه، فقد غدت عيادته الطبية العيادة الوحيدة والأمل للمرضى البؤساء بفضل براعته في معالجة الأبدان، فكثيراً ما كانوا ينتظرون عودته من أسفاره ليتهافتوا نحو عيادته جماعات من كل فجّ عميق.

مما يذكره العجيلي في كتابه: "رفعت رأسي عن جسد طفل مريض أعاينه لأرى رجلاً شقَّ الزِّحام إليّ، فلما صار على مقربة مني رفع صوته مُنشداً بصوتٍ عالٍ هذه المولية الفراتية (أحد أبرز ألوان الشعر الغنائي في وادي الفرات)، واصفاً مرضاً أقضّ مضجعه:

_ اللهْ خلقْ صاحبْ واللهْ خلقْ لي عدا

_ المرضْ لهْ مَنتهى والموتْ لهْ وعده (أي: الميعاد)

_ حكيمْ، مرَاضي عصبْ ولا عرجْ معدةْ؟ (أي: مرضي عصبٌ هو أم عِرقُ معدة؟ وكثيراً ما ينطقُ سكانُ الفراتِ القافَ جيماً)

_ رايدْ هرجْ منكْ بهْ مَنصحهْ ليا (أي: أريدُ كلاماً فيه النصيحةُ لي)".

يتابع العجيلي: "من الطريفِ أن عِرْقَ المعدة هو مرضٌ لا تعرفه عامة الأطباء، وهو داءٌ مستشرٍ في مناطق وادي الفراتِ والبادية، ولم يَردْ ذكرُه في مجلدات العلوم الطبية، أما التفسير الطبي له، فأنه توهمٌ لا يحتاج لعلاج، غير أن كثرة المرضى الذين يعانون من هذا المرض أعيتني حتى أنكرت الطبّ الرسمي وتعاطفتُ مع المرضى، فليس منطقياً أن أظلَّ متجاهلاً آلامَ مئاتِ المصابين".

في مشهد آخر، يلتقط العجيلي من خلاله الرقّةَ زاويةً زاويةً، ليعيد تشكيلها وهو الذي هجر دمشق بمغرياتها واستقال من الوزارة رافضاً الكثير من المناصب السياسية التي تفجّر ممارساً لها مع ميعة شبابه.

وبرغم اهتمامه بالأسفار والرحلات، إلا أن الرقة كانت برجه العاجي بغبارها الموسمي وطينها: "تعالوا وانظروا في أي برج أعيش، أنا أعيش في برج من الوحل. الرقّة بلدتي وأنا أغوص في طينها".

بالعودة إلى عيادته حيث منبع القصص وتحليل اللقطات، يستعرض لنا قصة امرأة بدوية أنهكها مرضٌ عضال قبل أن تستجير بطبيبِها العجيلي في عيادته ليخلّصها من هموم المرض، لكنها لم تكن تعلمُ تلك البدوية أن ما قالته سيصبح موروثاً شعبياً في بادية الشام يغنّى في الأعراس والمناسبات وحلقات الدبكة، بعد أن صُرفَ معناهُ من الشكوى الطبية إلى الشكوى من لواعجِ الهوى ومضايقات الحب والهجران وقساوة الظروف، فحتى رعاةُ الغنم في بادية الشام راحوا يغنّون ذلك الموروث في البرّية بعد أن دخل كلَّ خيمةٍ وكلَّ بيتٍ طيني.

"غربي طاحونة عيّاشْ دقّ النجر بالليلي

وآني دخيل الدكتورْ عبد السلام عجيلي".

(دقّ النجر بالليلي: أي سمعتُ صوتَ المهباج يدقَّ القهوة في صمتِ الليل والمرضُ أتعبني؛ فاستجرتُ بطبيبي العجيلي).

هو راوٍ وحكواتي ذو قدرةٍ باهرةٍ على اجتذابِ الحاضر بحبكة مشوقةٍ وفكاهةٍ سرديةٍ، يجيد المزاح ويروي القصص ويفلسفُها لتأتي على مزاجِه كما يقول الصحافي عادل أبو شنب، عندما حاوره.

وعلى الرغم من خبرة العجيلي الطبية إلا أنه وقف حائراً أمام الكثير من الحالات المرضية التي لم يجد لها دواء يوقف معاناة أصحابها، فقد جاءه يوماً مريضٌ يعاتبه لأنه لم يستطع أن يجد دواء لدائه، فقال له:

"درست كل الكتب ومساهر الليلي وربحت بكل العلم من دون العجيلي

واني ما بيّا مرض إلا ردا حيلي وعجزت عن وصفه بيها شفا ليّا؟".

يصف العجيلي أبيات المريض بـ"البسيطة البعيدة عن التزويق، غير أنها بسذاجتها البدوية تؤثر في النفس وتدعو الإنسان، أي الطبيب الذي يفهمها ويتأثر بها، إلى أن يضاعف جهده ليسعف هذا الشاكي لو أن لمضاعفة الجهد فائدةً في شفائه...".

سرديات الدجل والشعوذة

يطرق العجيلي أبواب المعتقد لدى الناس، خاصةً ذلك المتعلق بالشعوذات والدجل والذي كثيراً ما يكون الفيصل بين الحياة والموت لأولئك الباحثين عن النجاة والدواء. وفي المجتمعات البدوية ونصف الحضرية تنتشر قصص العادات والتقاليد وطرائق العلاج الشعبية الأقرب إلى الشعوذة وهي التي واجهها العجيلي بالعلم والتوعية الصحية ليحمل من بإمكانه حمله من مستنقعات الجهل، معتمداً على مركزه الاجتماعي والطبي وثقة الناس به.

وقد تنوعت الأشكال الطبية الشعبية، إلا أن أشهرها الكيّ المستخدم بشكل كبير في وادي الفرات، وفي علاج كل الأمراض حتى أبسطها، ولكل الأعمار، ومن تلك الأنواع "التلكيع"، وهو اللذع بطرف السيكارة المشتعلة أو بحجرة متّقدة لذعاً سريعاً ومتعدداً، و"التشطيب" وهو شطب الجلد بسيخ حديد أو مسلّة غليظة بعد إحمائها، وغيرها الكثير.

وقد تناول العجيلي، هذه الطرائق التي يمارسها المشعوذون في كثير من القصص التي عاينها في عيادته، فكان أشدّها تلك التي وقع ضحيتها طفل داواه أحد المشعوذين بالدلج بالماء والملح، وبالكي بالنار، ثم شدّد على أهله ألا يعرضوه على طبيب تستّراً على أموال قبضها لقاء تدجيله وهو ما فاقم حالة الطفل المرضية.

يقول العجيلي: "المعالجة تتعلق بالتبكير فيها، وأين التبكير في الريف وقد وقف فيه للمريض بالمرصاد عجائز الحي ليعالج باللبخات الحارة والنفطة أو المسنون في العشيرة يتناولون العضو المصاب بالكيّ بالحديد المحمى والحرق بلفافة الخرق الزرقاء والشيوخ ذوو اللحي العريضة ليعزموا على المريض المسكين ويبخرونه ويبتزوا ما في جيب أهله من مال".

وفي قصة "في ردهة الانتظار"، يسخر العجيلي، من علاجات شعبية عدة، مجيباً صديقَه الذي سأله: أحقاً وصفت أنت مثل هذه البطيخة للمشتكين من الرمال في مجاريهم البولية؟

ليردّ العجيلي: "لا، ولكنه مكر جاري البائع الذي قوّلني ما لم أقله وليس ذنبي إذا وقع السذّج في أحابيل الماكرين أو استسلموا لخزعبلات المشعوذين أو نسبوا إلينا ما يرفضه التفكير والمنطق وما يتجاوز المألوف والمعقول...".

تكيّف ما بين السياسة والأدب

خاض العجيلي، غمار السياسة عبر الانتخابات البرلمانية عام 1947، أيام انقلاب حسني الزعيم، قبل أن يستقيل من عضوية البرلمان ليلتحق بجيش الإنقاذ طبيباً جرّاحاً، ثم تنقّل بدءاً من عام 1962، بين وزارات الدولة من الثقافة إلى الخارجية فالإعلام، قبل أن يعود إلى الرقة التي جعل منها إحدى أهم مدن الرواية العربية، متفرغاً لعيادته والكتابة والسفر، وقد زار بلدان أوروبا والأمريكيتين والكثير من البلدان العربية، وألّف عن رحلاته ثلاثة كتب هي: "دعوة إلى السفر" و"خواطر مسافر" و"حكايات من الرحلات".

أما دمشق فكانت ملاذه الآمن، يعايش عبر أزقتها ومقاهيها حياة الحضر وطبقات الناس، وقد كان يحلو له الجلوس في مقهى البرازيل، ومقهى الكمال القديم، ومقهى فندق الشام، ومقهى الروضة.

يطرق العجيلي أبواب المعتقد لدى الناس، خاصةً ذلك المتعلق بالشعوذات والدجل والذي كثيراً ما يكون الفيصل بين الحياة والموت لأولئك الباحثين عن النجاة والدواء

فهو راوٍ وحكواتي ذو قدرةٍ باهرةٍ على اجتذابِ الحاضر بحبكة مشوقةٍ وفكاهةٍ سرديةٍ، يجيد المزاح ويروي القصص ويفلسفُها لتأتي على مزاجِه كما يقول الصحافي عادل أبو شنب، عندما حاوره.

حتى أن الصحافي الشهير سعيد الجزائري، كان يسميه "الحكواتي"، وكان لا يناديه إلا بهذا الاسم، وكان جليسه على مائدة الشراب، مع أنه لم يشرب قطّ، بل كان مدمناً على شيءٍ واحدٍ فقط هو المشي، ومن نوادر حياته أنه ذات مرة جاءت سيارة جيب عسكرية، وأخذته من بيت حميه في حي "الشعلان"، ليحضر جلسة شراب مع أديب الشيشكلي، دامت إلى ما بعد منتصف الليل.

لم يقف العجيلي عند القصة، بل تخطاها إلى فن المقامة الذي كان واحدة من أدواته في السخرية التي اتّخذت لدى العجيلي مداها الواسع، برغم أنها بداية لم تكن قريبةً من إدراكه الفني، فحسب اعترافه أن جلّ ما قرأه منها لا يتعدى مقامتين أو ثلاثاً، إلا أن هذا الطراز من الكتابة الساخرة كان قد راق لمزاجه الفني في ما بعد.

وقد جاءت المقامة "الطبية الأولى"، باكورة إنتاجه بعد أن نُشرت في عدد خاص من مجلة "الصباح" الدمشقية الصادرة عن الرابطة الثقافية في المعهد الطبي العربي عام 1942، لتلتصق به وينتج عدداً أكبر منها أهمها "المقامة البرازيلية"، نسبةً إلى مقهى البرازيل، وفيها يسخر من أدعياء الثقافة والأدب على لسان راوية المقامة عبد السلام بن محبّ، بالإضافة إلى "المقامة القنصلية" والتي ردّ فيها على مقامة نزار قباني ("المقامة النهدية")، المرسلة من أنقرة، حيث كان يعمل في السفارة السورية، وقد أسمى العجيلي قباني في مقامته "صريع الغواني أبا النهد الأشقراني". ممازحاً إياه بأنه انشغل عن البعثة والسفارة بصبايا الحارة، وعشق الجارة وبنت الجارة، ومنها ما نظمه العجيلي أيضاً على لسان نزار معرِّضاً بديوانه الأول "قالت لي السمراء":

"قالت لي السمراء إنك بارد فأجبتها بل أنت فيّ أبرد

تيهي علينا بالصدود فإنني عبد لحسنك والقناصل تشهد".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image