عُرفت الحملات الصليبية بأنها الحروب التي شنّها مسيحيو غرب أوروبا على الشرق المسلم بين القرنين الخامس والسابع الهجريين/الحادي عشر والثالث عشر الميلاديين، وذلك بهدف الاستيلاء على الأراضي المقدسة في فلسطين وانتزاعها من أيدي المسلمين.
بشكل عام، ارتبطت ذكرى الحروب الصليبية في الوجدان الإسلامي الجمعي ببعض البديهيات الشائعة، ومنها تقاعس الدولة الفاطمية الشيعية عن النضال ضد المعتدين، والبطولات الكبرى التي قام بها الأيوبيون، الذين خلفوا الفاطميين، لوقف الزحف الصليبي على بلاد الإسلام.
برغم أن الكثير من تلك البديهيات قد تمتع، إلى حد بعيد، بالمصداقية التاريخية، إلا أن الكثير من تفاصيلها قد تم تمريره تحت غطاء من روح الطائفية المذهبية المقيتة التي اعتادت أن تقسم العالم الإسلامي إلى سنّي وشيعي.
نلقي الضوء في هذا المقال على بعض التفاصيل المهمة المتعلقة بتاريخ النضال الإسلامي ضد الحملات الصليبية، لنرى كيف تسبب الشحن الطائفي المذهبي في إغفال بعض الحقائق وتعظيم حقائق أخرى.
هل سلّم الفاطميون بيت المقدس للصليبيين؟
من المعلومات التاريخية الشائعة في الأوساط السنّية، أن الدولة الفاطمية رحّبت بالحملات الصليبية الأولى على المشرق الإسلامي، وأن زعماء الفاطميين سلّموا بيت المقدس للمعتدين، بعدما سحبوا قواتهم العسكرية، وآثروا أن يُحكموا نفوذهم داخل مصر.
ارتبطت ذكرى الحروب الصليبية في الوجدان الإسلامي الجمعي ببعض البديهيات الشائعة، ومنها تقاعس الدولة الفاطمية الشيعية عن النضال ضد المعتدين والبطولات الكبرى التي قام بها الأيوبيون
لمناقشة ذلك الرأي، ينبغي الرجوع إلى دراسة الأحوال السياسية في المنطقة في القرن الخامس الهجري. في تلك الفترة، وقع الصدام بين الفاطميين الشيعة والسلاجقة السنّة في منطقة بلاد الشام. استغل السلاجقةُ ضعفَ الدولة الفاطمية بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي مرّت على مصر زمنَ الشدّة المستنصرية (457-464هـ)، وتمكنوا -أي السلاجقة- من فرض سيطرتهم على العديد من المدن الشامية.
في دراستها "الفاطميون والغزو الصليبي"، تذكر الباحثة هيفاء عاصم محمد الطيار، أن الفاطميين تمكنوا من استعادة نفوذهم في الشام مرةً أخرى بواسطة مجموعة من الحملات العسكرية الناجحة. في هذا السياق، استطاع الوزير بدر الجمالي، ومن بعده ابنه الأفضل شاهنشاه، أن يضمّ بعض المدن الساحلية المهمة، وأن يثبت النفوذ الفاطمي فيها جميعاً.
في ظل تلك المنافسة الحامية بين الفاطميين والسلاجقة، قدمت طلائع الحملة الصليبية الأولى إلى المشرق، وتمكنت من احتلال مدينة أنطاكية التي كانت تقع داخل دائرة النفوذ السلجوقي.
بحسب ما يذكر الباحث جيمس واترسون في كتابه "سيوف مقدسة"، فإن الفاطميين نظروا إلى الصليبيين في تلك الفترة باعتبارهم أعداء لأعدائهم السلاجقة، ومن هنا، فقد كان من الطبيعي أن يسعى الفاطميون إلى إيجاد صيغة تفاهم أو تحالف مع الصليبيين، فلم يكن يدور ببال الفاطميين في تلك المرحلة أن الصليبيين قد قدموا إلى الشرق لاحتلال بلاد الشام وتهديد الوجود الإسلامي برمته.
تغيّر الوضع سريعاً بعدما تأكد الفاطميون من حقيقة الأطماع الصليبية في مدينة بيت المقدس. بحسب ما تذكر المصادر التاريخية، فإن الفاطميين سحبوا الحامية الفاطمية الضعيفة الموجودة في مدينة الرملة، وركزوا قوتهم في بيت المقدس استعداداً للهجوم المتوقع من الصليبيين.
تذكر الباحثة هيفاء عاصم محمد الطيار، في دراستها المُشار إليها، أن الاحتلال الصليبي لبيت المقدس لم يكن بالعمل السهل، فقد واجه المعتدون مقاومةً شديدةً من قِبل والي الفاطميين على بيت المقدس، افتخار الدولة، والحامية الفاطمية التي كانت معه.
وقد أشار المؤرخون إلى قيام هذا الوالي بالدفاع عن مدينة بيت المقدس بالقوات التي كانت بين يديه من العرب والسودانيين، وأنه حرص على توفير المؤن الكافية لحاميته ولسكان المدينة. كما قام بإفساد مياه الآبار والينابيع التي تقع خارج المدينة حتى لا يستفيد الصليبيون منها. كما عمل في الوقت ذاته على إخفاء الإبل والمواشي والمحاصيل والمواد الغذائية كافة في الكهوف والمغارات، فضلاً عن اهتمامه بتدعيم الأبراج وتقوية التحصينات. كما عمل على حفر خندق حول أسوار المدينة. وفي الوقت نفسه، أرسل إلى مصر يطلب النجدة العاجلة. لكن كل ذلك لم يكن كافياً لدفع الخطر عن المدينة المقدسة، فسقطت في أيدي الغزاة بعد طول مقاومة.
لم تضع هزيمة الفاطميين في بيت المقدس حداً لكفاحهم المسلح ضد العدو الصليبي. أشار جيمس واترسون في كتابه إلى المجهودات الضخمة التي قام بها الفاطميون في سبيل استعادة المدينة المقدسة، فذكر أن الوزير الفاطمي الأفضل شاهنشاه، جهّز جيشاً كبيراً، لاقى الجيش الصليبي في عسقلان، غير أنه، أي الأفضل، تعرّض للهزيمة.
بعد سنتين، تجددت المعركة بين الصليبيين والفاطميين مرةً أخرى، وبرغم الاستبسال الفاطمي في تلك المعركة، إلا أنها انتهت بهزيمتهم مرةً جديدةً، بعدما فرّ الفرسان البربر من أرض المعركة. أما في المعركة الثالثة، التي وقعت في مدينة الرملة سنة 495هـ، فقد شهدت انتصار القوات الفاطمية بقيادة شرف بن الوزير الأفضل على الجيش الصليبي الذي قاده بلدوين.
من جهة أخرى، يشير واترسون إلى المحاولة التي قام بها الوزير الفاطمي الأفضل شاهنشاه، إلى عقد تحالف سنّي شيعي، بين الفاطميين من جهة ودمشق من جهة أخرى، من أجل ما وصفه شاهنشاه وقتها "بالحفاظ على أراضي الإسلام والشعوب الإسلامية"، وهو الأمر الذي تحقق فعلاً في سنة 498هـ، عندما انضمت قوات السلاجقة من دمشق إلى الفاطميين في رام الله، ودخل الطرفان في معركة مشتركة ضد العدو الصليبي. كذلك تحدث واترسون عن قيام الأسطول الفاطمي بالدفاع عن مدن بلاد الشام الساحلية التي لم تكن تمتلك في هذا الوقت أي سفينة حربية، وهو الأمر الذي نتج عنه تعطيل وعرقلة التقدم الصليبي في مدن الساحل الشامي لسنوات.
في حلب: تحالف السنّة والشيعة ضد الصليبيين
في حلب الشهباء، كُتبت صفحة أخرى من صفحات المقاومة الإسلامية الموحدة ضد الصليبيين. وبرغم الأهمية الكبرى لتلك الصفحة إلا أنها هُمّشت وتم تناسيها بفعل النزاعات الطائفية بين السنّة والشيعة.
عندما توفي حاكم حلب رضوان بن تتش، سنة 507هـ، فرض قاضي حلب الشيعي، أبو الفضل بن الخشاب، نفوذه على المدينة، وقام باستدعاء أمير ماردين السنّي إيليغازي بن أرتق، ووعده بتمكينه من حكم حلب شريطة الدفاع عنها ضد الصليبيين. لم يكتفِ ابن الخشاب بذلك، بل قدّم لإيليغازي الأموالَ والسلاح، وانضمّ إلى جيشه بمن معه من عساكر حلب وأهلها. وفي سنة 513هـ، وقع الصدام بين الحلبيين والصليبيين، في معركة سرمدا التي عرّفتها المراجع الأجنبية باسم "سهل الدم".
أيّ من السنّة والشيعة لم يستأثر بفضيلة النضال ضد العدو الصليبي، فكلٌّ من الطرفين تبادل مع الصليبيين الحربَ والعلاقات الودية، وذلك تبعاً لظروف ومقتضيات الأمر الواقع، ومعادلات التوزان العسكري في المنطقة.
في كتابه "زبدة الطلب في تاريخ حلب"، تحدث كمال الدين بن العديم، عن الدور المعنوي المهم الذي لعبه ابن الخشاب، في المعركة، فقال: "أقبل القاضي أبو الفضل بن الخشاب يحرّض الناس على القتال، وهو راكب على حجر وبيده رمح، فرآه بعض العساكر فازدروه، وقالوا: إنما جئنا من بلادنا تبعاً لهذا المعمم، فأقبل على الناس، وخطب فيهم خطبةً بليغةً استنهض فيها عزائمهم، واسترهف هممهم بين الصفّين، فأبكى الناس وعظم في أعينهم". نجحت جهود ابن الخشاب في إثارة عزائم الجند من السنّة والشيعة على حد سواء، وسرعان ما تلقّى الصليبيون في معركة سرمدا، واحدةً من أهم وأكبر الهزائم التي تعرّضوا لها.
في سنة 518هـ، وعقب وفاة إيليغازي، حاول الصليبيون الانتقام من حلب، فضربوا الحصار عليها، وقاسى الحلبيون الأمرّين في أثناء الحصار. برغم ذلك، رفض ابن الخشاب الخضوع، وأرسل إلى أمير الموصل الأتابك أق سنقر البرسقي السنّي، طالباً منه المساعدة، واستجاب سنقر للطلب وخفّ بجيشه لنجدة المدينة المحاصرة، فخرج ابن الخشاب بنفسه لاستقباله بعدما فكّ المحاصرون حصارهم ورحلوا إلى ديارهم.
تسببت التحالفات التي عقدها القاضي الشيعي ابن الخشاب، مع القوى السنّية في المنطقة، في إحداث تطور مهم على الساحتين السياسية والعسكرية في بلاد الشام.
يلقي الباحث محمد المختار الشنقيطي، الضوء على ذلك التطور في كتابه "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنّية الشيعية"، فيقول إن التوافق بين القاضي ابن الخشاب وكل من إيليغازي بن أرتق ومن بعده آق سنقر البرسقي، هو بمثابة "تلاحم سنّي إمامي صلب ضد الصليبيين وضد الحشاشين، تجاوز خطوط الطائفية خدمةً للمصير المشترك... ويدلّ على مستوى عميق من الانسجام بين السنّة والإمامية في حلب، فرضه تحدي الصائل الإفرنجي، والنخر الباطني الذي كان يمثله الحشاشون آنذاك".
ماذا فعل الأيوبيون بعد حطّين؟
في سنة 583هـ، تمكّن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، من إنزال هزيمة كبرى بالقوات الصليبية في موقعة حطّين. عُدّ ذلك الانتصار واحداً من أهم الانتصارات التي حققها المسلمون طوال تاريخهم، خصوصاً أنه (الانتصار) قد فتح الطريق أمام الجيش الأيوبي للزحف على مدينة بيت المقدس. بشكل عام، أثبتت معركة حطين نفسها في الذاكرة الإسلامية الجمعية، وخلدت اسم صلاح الدين والدولة الأيوبية في الوجدان السنّي باعتبارهما عنوانين للنصر والنضال المشرّف ضد الصليبيين.
مع الاعتراف بالأثر المهم الذي خلّفه انتصار حطين على مسار الصراع الإسلامي-الصليبي، يحقّ لنا أن نتساءل عما جرى بعد تلك المعركة من أحداث تاريخية، لنفهم دور الطائفية المذهبية في تشكيل الوعي التاريخي الآني، بحيث يتم اختزال الحقائق بهدف تهميش جهة ما، أو تعظيم جهة أخرى.
للإجابة عن هذا السؤال، تنبغي العودة إلى نهايات القرن السادس الهجري. تسبب انتصار صلاح الدين الأيوبي في حطين في إثارة غضب القوى الأوروبية المختلفة، ونتج عن ذلك تشكّل الحملة الصليبية الثالثة، التي قادتها مجموعة من ملوك الغرب المسيحي، ومنهم كلّ من ريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا، فيليب الثاني أغسطس ملك فرنسا، وفريدريك بارباروسا إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
في تلك الحملة، تمكن الصليبيون من الاستيلاء على مدينة عكا الحصينة، وتبادلوا مع صلاح الدين النصرَ والهزيمة في بعض المعارك. وفي سنة 588هـ، تم عقد صلح الرملة بين الطرفين، وبموجبه احتفظ المسلمون ببيت المقدس، وتم تسليم مدن الساحل السوري من صور إلى يافا للصليبيين، كما سُمح للحجيج المسيحي بالحج إلى القدس دون قيد أو شرط.
بعد وفاة صلاح الدين، عانت الدولة الأيوبية من الانقسام والتفتت على يد الأمراء الأيوبيين الذين دخلوا في صراعات متعددة ضد بعضهم بعضاً. وتمكن الصليبيون من استغلال تلك الحالة لاستعادة نفوذهم في العديد من المدن والمناطق. في هذا السياق، أقام بعض الأمراء الأيوبيين علاقات ودّيةً وتحالفات وطيدةً مع بعض القوى الصليبية. وكانت العلاقة بين السلطان الكامل الأيوبي حاكم مصر، وفريدريك الثاني إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، إحدى أهم تلك العلاقات على الإطلاق، خاصةً أنها شهدت تنازل الأول للثاني عن مدينة بيت المقدس.
من المعلومات التاريخية الشائعة في الأوساط السنّية، أن الدولة الفاطمية رحّبت بالحملات الصليبية الأولى على المشرق الإسلامي، وأن زعماء الفاطميين سلّموا بيت المقدس للمعتدين، بعدما سحبوا قواتهم العسكرية، وآثروا أن يُحكموا نفوذهم داخل مصر
في كتابه "الأيوبيون والمماليك"، تحدث الباحث المصري قاسم عبده قاسم، عن ظروف تلك الواقعة الغريبة، فذكر أن ملك صقلية وحاكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة، فريدريك الثاني، قدِمَ عام 626هـ، مع قوة صغيرة من فرسانه إلى بلاد الشام، في التجريدة التي اشتهرت في ما بعد باسم "الحملة الصليبية السادسة"، وعقد بعض المفاوضات مع السلطان الكامل الأيوبي، وفي نهاية المطاف، وافق الكامل على تسليم بيت المقدس، كنوع من أنواع المساندة لفريدريك في حربه ضد البابوية، وبقية القوى الأوروبية المتحالفة ضده. بطبيعة الحال، أثار ذلك التنازل الجدل والغضب داخل البلاد الإسلامية، خصوصاً أن الأيوبيين بنوا شرعية حكمهم على الانتصار الكبير الذي حققه جدّهم في حطّين.
في كتابه "الكامل في التاريخ"، أشار المؤرخ ابن الأثير الجزري، الذي عاصر تلك الحادثة، إلى حالة الغضب الشعبي التي اندلعت في البلدان الإسلامية، عقب تسليم بيت المقدس للإمبراطور، وبيّن أن قسماً كبيراً من المسلمين وجّه إلى الكامل، الاتهامات بالخيانة والتقصير والخذلان، لكونه سلّم تلك المدينة المقدسة للأعداء.
وهكذا، يمكن القول ختاماً إن أيّاً من السنّة والشيعة لم يستأثر بفضيلة النضال ضد العدو الصليبي، فكلّ من الطرفين تبادل مع الصليبيين الحرب والعلاقات الودية، وذلك تبعاً لظروف ومقتضيات الأمر الواقع، ومعادلات التوزان العسكري في المنطقة. ومن ثم فإن محاولة إسباغ صفة الولاء المطلق أو الخيانة على أحد الأطراف، لم تكن إلا نتيجةً لمناخ فكري طائفي بامتياز، لا نزال نعيش فيه حتى اللحظة الحاضرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ يومينمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم