في لحظةٍ ما، يطفئ الكاتب قلمه، ينكفئ على نفسه، ويختار الصمت عن الكتابة. قد يبدو هذا الصمت خياراً شاقاً، بل وخيانةً في زمنٍ يفرض فيه كل شيء أن يصرخ المرء بوجه الظلم والقتل، أن يوثق الآلام والكوارث، أن يكون شاهداً على حطام الإنسانية في وضح النهار. لكن، حين يُستنزف القلم في تفاصيل يوميات الإبادة الجماعية، ويصبح الموت واقعة مألوفة، قد تتسرب إلى نفس الكاتب لحظةٌ يجد فيها أن كلماته لم تعد تعني سوى شظايا عاجزة، فتخرج باهتة كظلالٍ على جدران متآكلة.
أفق العبث واليأس
يدرك الكاتب، بعد زمنٍ من النزف، أن كلماته أصبحت تدور في حلقة مفرغة. فما قيمة أن يكتب عن رصاصة تخترق جسداً، عن أطفال تذروهم الرياح وسط الأطلال، أو عن أصوات تختنق تحت الأنقاض، إن كانت الكلمات تُسقط نفسها على واقعٍ لا يتغير، بل يزداد جفافاً وقسوةً؟ في هذا الأفق، يصبح الصمت أقرب إلى الصرخة الصامتة، إلى هروبٍ من العبث. يدرك الكاتب أنه لم يعد يضيف شيئاً، وأن الكلمات قد استهلكت كل معانيها. يكتشف أنه، في زمنٍ تغدو فيه الكلمات بقايا رماد، فإن الصمت هو الملاذ الوحيد.
حين يُستنزف القلم في تفاصيل يوميات الإبادة الجماعية، ويصبح الموت واقعة مألوفة، قد تتسرب إلى نفس الكاتب لحظة يجد فيها أن كلماته لم تعد تعني سوى شظايا عاجزة، فتخرج باهتة كظلال على جدران متآكلة
اللغة بين المقاومة والعجز
الكتابة، منذ البدء، كانت سلاحًا، أداة لتوثيق الوجع وكشف الحقائق، لطرح أسئلة كبرى بلا إجابات جاهزة. لكن، ماذا يحدث عندما تتحول الكتابة ذاتها إلى جزء من الدمار؟ عندما تصبح الكلمات أشبه بالجثث التي لا يمكن إنقاذها، ومجرد إضاءات على مأساة لا تنتهي؟ في تلك اللحظة، تصبح اللغة عاجزة عن حمل الأوجاع، فيفكر الكاتب في اعتزالها، في الصمت كمنفى يهرب إليه، حيث الكلمات لا تكفي، بل تفضح هشاشتها. يصبح الصمت هنا وسيلة لفهم أعمق للوجع، إذ يُتيح للمشاعر أن تستقر في الداخل، أن تأخذ شكلها وتتشكل بلا ضجيج.
من الشهادة إلى الانسحاب
الكاتب شاهد، والشهادة هنا ليست رفاهية بل جرحٌ ينزف من الداخل، لكن إلى متى يستمر الكاتب شاهداً؟ إلى متى ينثر الكلمات كحبات رمل، تنثرها الرياح بلا أثر؟ الشهادة واجب، نعم، لكن قد تأتي لحظة يجد فيها الكاتب أنه قد أفرغ كل ما لديه، أن روحه باتت خاوية، بلا طاقة ليحمل القلم مرةً أخرى ويكتب عما لا ينتهي. ربما يصبح الصمت هنا دعوة للاعتراف بالحدود الإنسانية، فليس كل جرحٍ يُوصف، وليس كل موتٍ يُسجل. يأتي الصمت كنوع من الرحيل الداخلي، انسحابًا إلى زاوية مظلمة، حيث يعترف الكاتب بأنه ليس قادرًا على مواجهة الحطام مرة أخرى، وأنه قد حان وقت الاعتزال.
الكتابة، منذ البدء، كانت سلاحًا، أداة لتوثيق الوجع وكشف الحقائق، لطرح أسئلة كبرى بلا إجابات جاهزة. لكن، ماذا يحدث عندما تتحول الكتابة ذاتها إلى جزء من الدمار؟
الصمت كنوع آخر من الكتابة
لكن الصمت ليس استسلاماً، بل هو كتابةٌ من نوع آخر، كتابة بلا كلمات، حيث يصبح الصمت ذاته موقفاً وفعل مقاومة. الصمت هنا احتجاجٌ على العالم، على اللغة، على العجز المطلق في وصف ما يتجاوز الوصف. الصمت في هذه اللحظة هو ثورة داخلية، صرخة مكتومة تقول: "لقد قلت كل شيء، وحان وقت الصمت، فلعل الصمت هنا يُعبّر أكثر مما تعبر عنه الكلمات".
الصمت كفضاء للتأمل
حين يتخذ الكاتب قرار الصمت، فهو يفتح لنفسه فضاءً جديداً للتأمل. ينكفئ على نفسه لا لأنه يريد الابتعاد عن الواقع، بل لأنه يحتاج إلى أن يرى الأمور من زاويةٍ أخرى، من الداخل حيث يلتقي الألم بالسكون، ويتحول إلى جزءٍ من ذاته. هذا التأمل يمنح الكاتب وقتًا لإعادة بناء رؤيته للعالم، ربما كنوعٍ من محاولة لإيجاد الحقيقة داخل الخراب. هنا، لا يُنظر إلى الصمت كفعلٍ سلبي، بل كفعلٍ يتيح له تأمل جوهر العالم كما يراه بعيداً عن قيود اللغة والكتابة. الصمت هو المجال الذي يستطيع فيه الكاتب تفكيك ذاته، والتساؤل عن معنى الكتابة نفسها، عن قوتها وعجزها، عن قدرتها على التغيير ومدى ارتباطها بالواقع.
الصمت وعبثية التكرار
يجد الكاتب نفسه محاصرًا داخل حلقة التكرار، حيث تصبح الكلمات أسيرة الوجع ذاته، والقصص تتشابه حدَّ التفاهة، إذ يغدو الموت شيئًا مألوفًا في صور تتكرر يوميًا. هذا التكرار يفرض نوعًا من الإعياء الداخلي، حيث تذوي طاقة الكلمات أمام هول ما يحدث، وتتحول إلى ما يشبه الهذيان المستمر. هنا، يصبح الصمت قرارًا حتميًا للخروج من هذا العبث، ليقف الكاتب أمام القبح بلا تزييف، عاريًا من قدرته على التفسير أو الشرح، مكتفيًا بالصمت. ربما يدرك في لحظةٍ ما أن الصمت ذاته هو الصرخة الحقيقية، أنه يواجه العالم بصمتٍ صادم يعبّر عن العجز الكامل.
الصمت كفقدان للأمل
الكاتب الذي يقضي عامًا يكتب عن يوميات الإبادة قد يصل إلى لحظة يفقد فيها الأمل؛ يصبح وعيه مليئاً بأوجاع لم يملك أمامها شيئاً سوى التوثيق، دون أدنى أثرٍ للتغيير. هنا، يصبح الصمت تعبيرًا عن اليأس، نوعًا من الانطفاء الداخلي الذي يفترض أن الكلمات لن تغيّر شيئًا، ولن تحمي أحدًا من الخراب. هذا اليأس يجعل الكاتب يعود إلى ذاته، لاجئًا إلى الصمت كجدارٍ أخير، كملاذٍ من هذا العالم الذي تتهاوى فيه المعاني. إنه فقدان الأمل الذي لا يريد حتى الاعتراف به، لكنه يكتسي حلة الصمت التي تخفي وراءها مرارة الكلمة.
الصمت كرفضٍ للغة العنف
يأتي الصمت، في نهاية المطاف، كنوع من رفض اللغة التي أصبحت ملوثةً بعنف الواقع، لغة تسقط يوميًا ضحية الدمار الذي يتكرر. الصمت هو لغة أخرى، لغة تقول: "سأظل هنا، ولكني لن أقول شيئاً؛ لن أشارك في صخب هذا الخراب". إنه موقف يرفض استخدام الكلمات للتغطية على عنف العالم، على جرائمه، على عجزها أمامه. إنه امتناعٌ عن تدوير العنف في لغة قد لا تصف سوى ظاهره. يتجاوز الصمت هنا الحدود اللغوية إلى حدود أعمق، ليصبح نوعًا من الامتناع عن المشاركة في عالمٍ يتفنن في الوجع.
الصمت كبحث عن اللغة المفقودة
عندما يصمت الكاتب، فإنه يبحث عن لغة جديدة، لغة تكون كافية لتفسير ما عجزت اللغة السابقة عن احتوائه. في هذا الصمت، تكمن محاولة للعثور على الكلمات التي تُعبّر عن ما هو أبعد من الوصف، كلمات تمنح القبح جمالاً لا يُزيف الحقائق، بل يكشفها في أعمق تجلياتها. الصمت ليس نهاية الكتابة، بل قد يكون بدايةً للبحث عن لغة تتجاوز الكلمات المألوفة، لغة تتشكل من ألم حقيقي ومواجهة صامتة لا تهرب من الحقيقة، بل تندمج فيها.
الكاتب الذي يقضي عامًا يكتب عن يوميات الإبادة قد يصل إلى لحظة يفقد فيها الأمل؛ يصبح وعيه مليئاً بأوجاع لم يملك أمامها شيئاً سوى التوثيق، دون أدنى أثرٍ للتغيير. هنا، يصبح الصمت تعبيرًا عن اليأس
الصمت كفرصة للتجديد
قد يكون الصمت فرصةً للعودة إلى نقطة البداية، لإعادة بناء طاقة الكتابة من جديد. إذ يسترجع الكاتب في هذا الصمت قوته، فيأخذ وقتًا كافيًا لتحديد دوره، وتحديد معنى الكتابة التي قد أفرغتها الأحداث من جدواها. يعود الصمت هنا كمحطةٍ للراحة والتفكر، ليتيح للكاتب الفرصة للعودة، لكن هذه المرة بلغة جديدة، ونفس متجددة تستطيع أن تواجه المأساة. في هذا الصمت يكمن الوعد بأن الكلمات لن تُسقط نفسها في العبث مرةً أخرى، بل ستأتي محملةً بروح متجددة تستطيع أن تقف شامخة أمام الألم.
الصمت كخاتمة وبداية
في النهاية، يصبح الصمت خلاصًا من الكتابة التي كانت تهدد بابتلاع الروح. لكنه ليس نهاية المطاف؛ إنما قد يكون بداية أخرى، لغة صامتة تحوي في داخلها ما تعجز عنه الكلمات. الصمت يصبح حالةً من النقاء، من التصالح مع الذات، في مواجهة عبث العالم. بهذا المعنى، الصمت ليس استسلامًا، بل هو بحث مستمر عن فهم أعمق، عن لغةٍ تعبر عن جوهر الحقيقة، حيث يكون الصمت ليس الغياب، بل الحضور الصامت الذي يعيد للكتابة قيمتها، ويؤسس لحضورٍ جديد، أقوى وأعمق من مجرد كلمات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
حوّا -
منذ يومينشي يشيب الراس وين وصل بينا الحال حسبي الله ونعم الوكيل
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل هذه العنجهية فقط لأن هنالك ٦٠ مليون إنسان يطالب بحقه الطبيعي أن يكون سيدا على أرضه كما باقي...
Ahmed Mohammed -
منذ 3 أياماي هبد من نسوية مافيش منطق رغم انه يبان تحليل منطقي الا ان الكاتبة منحازة لجنسها ولا يمكن تعترف...
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياموحدث ما كنا نتوقعه ونتأمل به .. وما كنا نخشاه أيضاً
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامصادم وبكل وقاحة ووحشية. ورسالة الانتحار مشبوهة جدا جدا. عقاب بلا ذنب وذنب بلا فعل ولا ملاحقة الا...
mahmoud fahmy -
منذ أسبوعكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم