"كانت القديسة جميلة فائقة الجمال، وغنية، وابنة ملك، ويتمنى أن يتزوجها الملوك والأمراء"... بهذه المقدمة الشارحة، يسهب كتاب "سير القديسين والشهداء" الرسمي للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، في وصف إحدى الفتيات التي تمسّكت بعبادتها، سواء كانت راهبة أو شهيدة، وتم الاعتراف بقداستها أو شهادتها بـ السنكسار، وهو توثيق لكل قديسي وشهداء وبطاركة الكنيسة الذين مرّ على وفاتهم 50 عاماً، ليتم ذكرهم في بداية القداس، وفقاً لذكرى رحيلهم والبعض بميلادهم، على رأسهم يسوع المسيح والعذراء مريم والقديس يوحنا المعمدان.
ويرجع الفضل في جمع وكتابة سير الشهداء والشهيدات خلال عصور الاضطهاد الوثني بالقرون الأولى من الميلاد، وأثناء الاحتلال الروماني لمصر، حتى القرن الثالث الميلادي، للقديس يوليوس الأقفهصي ثم للقديس يوحنا، أسقف البرلس في القرن السابع، ثم أكمله القديس ميخائيل أسقف أتريب، ومن بعده القديس بطرس، المُلقب بـ"الجميل"، أسقف مليج.
وحالياً، تتولى لجنة مختصة من المجمع المقدس التي تتكون من رجال فقط، بإضافة القديسين المعاصرين، وتم استثناء البعض من قاعدة الـ 50 عاماً، منهم شهداء ليبيا الـ 11 الذين قتلتهم داعش في2015.
قديسة بمواصفات الخاطبة
احتكر الذكور عملية تأريخ الشخصيات المسيحية، لذلك فالنظرة والوصف تأتيان من وجهة نظر ذكورية بامتياز، تمعن في وصف النساء بمنطق جسدي ومادي، بحثاً من جمال الملامح والجسد، وصولاً لصغر سنها وجمال ورقة صوتها، بل وامتلاكها للمال الوفير وحسب ونسب أبيها، وكأن الوصف يتقمّص شخصية "الخاطبة" قبل ثورة 1919، حين كان الرجال يلجؤون لوصف الخاطبة للحصول على عروس "بنت أصل".
احتكر الذكور عملية تأريخ الشخصيات المسيحية، لذلك فالنظرة والوصف تأتيان من وجهة نظر ذكورية بامتياز، تمعن في وصف النساء بمنطق جسدي ومادي، بحثاً من جمال الملامح والجسد، وصولاً لصغر سنها وجمال ورقة صوتها، بل وامتلاكها للمال الوفير وحسب ونسب أبيها، وكأن الوصف يتقمّص شخصية "الخاطبة"
تم ترسيخ المفهوم الذكوري وترويجه نتيجة لسيطرة الرجال على الكثير من محاور السلطة الدينية بالكنيسة، وفقاً للمنظومة الدينية والأبوية والتي تطال الأسرة والحياة الاجتماعية ووفقاً للعرف، وحيث إن "التاريخ يكتبه المنتصرون""، لا تشارك النساء في وضع أي نظام أو تاريخ للأحداث والشخصيات، خاصة داخل المنظومة الدينية التي عادة ما تتسم بالأصولية.
ولمزيد من التفنّن في الفكر الذكوري كانت القديسة توصف بأنها ترفض الزواج للحفاظ على "عفتها" أو "طهارتها" أو "بتوليتها"، في مزيد من التقليل من شأن الزواج والأسرة، واعتبار العلاقة الجنسية أمراً محتقراً، نظراً لسطوة الفكر الرهباني في المناصب ووضع الأفكار وكتابة المؤلفات الدينية واتخاذ القرارات على مدار عقود، ولعل الأزمة الأخيرة داخل الكنيسة بسبب رفض دعوة باحثين علمانيين اثنين في سيمينار للقاء "المجمع المقدس"، يؤكد سيطرة أصحاب المناصب الرهبانية والنظرة المتعالية نحو غير الرهبان، ويتفق تماماً مع كتاب "بستان الرهبان" الذي جمع أغلب أقوال مؤسّسي الرهبنة بالعصور الأولى، والذي يباع بالكنائس والأديرة لعامة المسيحيين، ويحمل أوصافاً دونية للمرأة، حيث يعتبرها شيطانية ورمز الخطيئة والنجاسة ومصدر الشرور، بل ويمتدح في كل من رفض النظر أو السمع لأي امرأة، حتى وإن كانت أمه أو أخته، ويزيد في مدحه لكل من رفض ممارسة الجنس مع زوجته باعتبار ذلك نوعاً من الانتصار على الشهوة، ومن جهة أخرى يتناول "بستان الرهبان" قصصاً قليلة لقديسات، بالرغم من أن التاريخ زاخر بهن، ولكنه يعتمد على الرجال أكثر، لكنه حتى في ذكرهن، يتناول مدى جمالهن وسلطتهن السياسية ورغبة الملوك في الزواج منهن، والتي وصلت إلى حد المطاردة، مثل القديسة أنا سيمون، التي كان والدها والياً، وبموته أصبحت الملكة، ورغم جمالها تصنّعت "الجنان" ودخلت ديراً دون إعلان هويتها، كما افتعلت قديسة أخرى هي فيبرونيا حيلة حتى لا تتزوج الملك، بأن دهنت رقبتها بالزيت ونادتهم لضربها بقوة مدعية إنها حيلة رهبانية، وبالفعل تم قتلها لتتخلص من الزواج الذي سيفسد عفتها.
حمل "بستان الرهبان" العديد من الأقوال المتضاربة والتناقضات، لذلك حرص الأنبا إبيفانيوس، أسقف ورئيس دير أبومقار، قبل مقتله بعامين، على إعادة تنقيحه في 2016 بوجهة نظر أكثر تقدمية، للتخلص من بعض الخرافات.
مريم ومعايير جمالية تاريخية
في نهاية شهر تموز/يوليو، تحتفل الكنيسة بذكرى استشهاد مارينا، الملقبة بـ "غالبة الشيطان"، وهي قديسة عاشت بالقرن الثالث الميلادي، ويصفها السنكسار بأنها من "بنات أكابر البلد"، وحينما رآها أحد الأمراء أفتتن بجمالها وطاردها للزواج، ولما أخبرته أنها مسيحية ولاتعبد الأصنام، سلّمها للوالي الذي ذاب بدوره في جمالها، وعرض عليها الزواج أيضاً، لينتهي أمرها بالقتل. ولا تختلف باقي قصص الشهيدات عنها، جميعهن بنفس السياق، كلهن صغيرات السن، جميلات، يملكن المال والمنصب والعزوة، ويرفضن كل هذا غراماً بالتديّن.
الأمر يخرج من السياق الرسمي بالسنكسار إلى الفن بأشكاله كافة، فصور القديسات ترسم بوجنتين محمرتين، وعينين ملونتين، وبشرة بيضاء، وجسد ممشوق، وشعر ناعم منسدل، وملامح عذبة وبريئة حتى وإن كانت ضمن حفلات تعذيب دموية، سواء باللوحات أو عند تشخيصها في فيلم، وقد تخصّصت الجميلات فقط في أدوار البطولات.
الأمر يخرج من السياق الرسمي بالسنكسار إلى الفن بأشكاله كافة، فصور القديسات تُرسم بوجنتين محمرتين، وعينين ملونتين، وبشرة بيضاء، وجسد ممشوق، وشعر ناعم منسدل، وملامح عذبة وبريئة حتى وإن كانت ضمن حفلات تعذيب دموية، سواء باللوحات أو عند تشخيصها في فيلم
الأمر ليس جديداً على القديسات، بل سبقتها الكتب واللوحات التي تناولت العذراء مريم، حيث سعى المؤلفون والرسامون للتأكيد على جمالها ودقة ملامحها وعينيها الزرقاوين، وتناسق جسدها وعمرها الصغير، وزادت بعض التحليلات بأنها كانت "مطيعة" لحد الخضوع وقليلة الكلام، وكأنها الصورة المثالية للمرأة من وجهة نظر الذكر، أي كزوجة أكثر منها قديسة.
ورغم إن أول لوحة رسمت للعذراء بريشة التلميذ لوقا، الطبيب الذي كان رساماً، لكن الرسومات التالية حرصت على المزيد من تنميق ملامحها، ومن الجانب الآخر، فإن كافة الشعوب رسمت القديسة وطفلها بملامح كل دولة، وأضفت الجوانب الجمالية وفقاً لعرقهم. وعلى نفس الخطى سار تخيّل القديسات ومن ثم تناول قصصهن وفقاً للكتب الرسمية بالكنيسة، لتحمل مواصفات أكثر أنثوية وجاذبية، وكأن الكاتب يعرضها كتحفة أو لوحة ستعلّق في غرف الاستقبال.
المعذبات والمقهورات هن الأجمل
كنت بعمر 6 أعوام، وظهر اختراع الفيديو ومعه إنتاج ديني مسيحي لبعض الشخصيات. دعتنا الأسرة الأكثر ثراء بقريتنا لمشاهدة فيلم "الشهيدة دميانة"، التي عذبها وقتلها والدها الملك. حمل الفيلم مشاهد تعذيب ودموية وصرخات كانت موجعة لطفلة بعمري، تحب اللهو وأفلام ديزني، ولمزيد من الترويج والمبيعات، ركّز الفيلم على بعض المعجزات بالشفاء من تلك الآلام.
هذه النوعية من الإنتاج التي وجدت لها سوقاً نوعياً واسعاً من المسيحيين داخل مصر والشرق الأوسط والمهجر، دفعت المنتجين لصناعة المزيد من الأفلام عن نساء معذبات وراضيات، كالفيلم المذكور الذي يحكي قصة امرأة متزوجة وأم، ولكنها تقبل تعذيب زوجها وخيانته، فظلت بجواره رغم أنها لم تكن تحمل نفس المواصفات الجمالية ولكنها حظيت بنفس القبول الذكوري، ليوزع الفيلم في أمريكا وأوروبا، ويعرض بالسينمات ويقبل عليه الناطقون بالعربية من المسيحيين، ليلبي توجهاً ذكورياً، ليس لرجال الدين وحدهم، ولكن لصانعي الفن المسيحي، حاملاً نفس الرسائل، ويرسخ حضور امرأة مقهورة، ذليلة وتابعة، لكنها مقبولة دينياً، وتنال الجنة بعد موتها، وتصنع المعجزات الخارقة في حياتها، وتعلم الغيب وتحدّث الطبيعة وتأمرها كمكافئة على الظلم والقهر الذين تخضع لهما، ويقدمها باعتبارها نموذج الزوجة الفاضلة.
لم يكتف "بستان الرهبان" بتشويه العلاقة الجنسية والنظرة الدونية للمرأة، فيورد قصصاً لأهم الرهبان والبطاركة، وكيف أن علاقتهم بالمرأة فيها تعفّف وفوقية وتجاهل
الجنس مصدر الخطيئة
لم يكتف "بستان الرهبان" بتشويه العلاقة الجنسية والنظرة الدونية للمرأة، فيورد قصصاً لأهم الرهبان والبطاركة، وكيف أن علاقتهم بالمرأة فيها تعفّف وفوقية وتجاهل. كان أشهرها الأنبا مكاريوس الكبير (أبومقار)، مؤسّس الرهبنة في برية إسقيط (الصحراء الداخلية). واعترف الكتاب بزواجه عنوة بضغط من والده، لكن القديس رفض معاشرة زوجته حماية لعفته، حتى جاءه الأنبا أنطونيوس، مؤسس الرهبنة، ونصحه بالهروب للصحراء والرهبنة، لكن الأمر لم ينته هنا، ولم تكن تلك المرّة الوحيدة التي يتعرّض فيها لاختبار "المرأة اللعوب"، حيث اتهمته إحداهن بالاعتداء الجنسي وحملها منه، وتشير القصة إلى أن المرأة في النهاية اعترفت بكذب روايتها، وأن شخصاً آخر هو من اعتدى عليها، ليصدق الرجل القديس وتكذّب المرأة الشيطانة.
رغم إن بطاركة الكنيسة لابد أن يكونوا رهباناً لا يتزوجون، لكن أحدهم، بحسب السنكسار، كان متزوجاً، وهو الأنبا ديمتريوس، البابا 12، الذي تمت رسامته وتنيح، وكان لايجيد القراءة والكتابة، ومتزوج منذ 47 عاماً، ولم يعاشر زوجته، ما أهّله لأن يكون بطركاً، وفقاً لحلم البطرك السابق يوليوانوس، الذي أعلن أنه سيكون خلفه فور موته، وتم تنفيذ وصيته، ولكن الشعب المسيحي اعترض بسبب زواجه، ما دفعه لوضع الجمر في ملابسه وملابس زوجته، ولم يحترقا ليؤكدا إنهما أطهار بلا "نجاسة الجنس".
لا تفعل الأديان أكثر من إحكام القبضة على أعناق النسا، والتشجيع على الرهبنة لتحقير الجنس، وحصره بهدف الإنجاب وزيادة "عدد المؤمنين"، والحط من شأن العلاقة مع المرأة، وامتهانها، وقصص "بستان الرهبان" مثال نموذجي لما يجب ألا تكون عليه لا الكتب ولا البساتين ولا الرهبنة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...