تُقام الانتخابات الرئاسية الأميركية بعد أيام قليلة، ولا زلتُ أتخبّط في اتخاذ القرار تجاه المرشحين كشرّين لا مفرّ من أحدهما.
قد يأتي اليوم الذي حلمت به نسويتي منذ صغري بتولّي امرأة رئاسة الجمهورية في البلد الذي أسكن فيه، لكن الانتصار النسويّ يبقى ثانويًا وهشًّا في مقابل الحقوق المدنية والأساسية لشعبي فلسطين ولبنان.
حيرة الناخب العربي
أتساءل كيف يمكن أن يصوّت الناخب العربي مثلي لهاريس وهو يعلم سياستها تجاه الإبادة في غزة والحرب في لبنان. إذا كانت غزة قد كشفت عمق الارتباط الأميركي الصهيوني، وفضحت مطامع إسرائيل غير المنتهية في الانتقام بعد أكثر من عام من سيل الدماء والتسلّط، وبالوكالة السعي الأميركي لتغيير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط، كيف لا نقيس قرار الانتخاب بغزة، والآن بلبنان كذلك؟
يعتمد تصويت الناخب العربي في الانتخابات الأميركية على عوامل عدة، منها السياسات الخارجية ومواقف المرشحين تجاه قضايا العرب والشرق الأوسط، مثل الإبادة في غزة والحرب الإسرائيلية على لبنان والتواطؤ الأميركي فيهما، والحرب في سوريا، والعلاقات مع اللاعبين الأساسيين في الشرق الأوسط.
قد يأتي اليوم الذي حلمت به نسويتي منذ صغري بتولّي امرأة رئاسة الجمهورية في البلد الذي أسكن فيه، لكن الانتصار النسويّ يبقى ثانويًا وهشًّا في مقابل الحقوق المدنية والأساسية لشعبي فلسطين ولبنان
ثم تأتي بتراتبية تفضيلية تختلف باختلاف الناخب، القضايا المحلية، ومنها القضايا المتعلقة بالحقوق المدنية، والتمييز، والعدالة الاجتماعية، التي تلعب دورًا هامًّا في رسم حياة الناخبين، خاصة بالنسبة للمجتمعات العربية في الولايات المتحدة.
يؤثر تاريخ المرشحين وسمعتهم وأعمالهم السابقة والحالية وخططهم المستقبلية للحوكمة، خاصةً موقفهم من حقوق الإنسان والقضايا التي تهم الجاليات العربية، في اختيارات الناخبين. كما تلعب الاعتبارات الشخصية والثقافية وتجارب الناخبين الفردية والمجتمعية كمهاجرين أو لاجئين أو مغتربين أو طلاب دورًا كبيرًا، فقد عانى الكثير منهم أشكال التعنيف والتقييد من المرشح الرئاسي والرئيس السابق دونالد ترامب.
ترامب... وتاريخ من العنصرية
لهذه المسائل تأثيرات على اختياراتهم، فلا يمكن أن ينسى الناخب العربي سياسات ترامب الخارجية، وتأييده الأعمى لإسرائيل، الذي تمثّل في قرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس في العام 2017، حين أعلن في قراره "آن الأوان للاعتراف رسميًّا بالقدس عاصمة لإسرائيل"، مما أثار استياءً عارمًا عند العرب في حينها.
هذا في الأفعال؛ أما في الأقوال فخطاب ترامب التمييزي والتحريضي والاستفزازي ضد العرب والأجانب والمغتربين واللاجئين والنساء وجميع المستضعفين يضعه في مأزق كبير، خصوصًا بعد كمية السفاهة والازدراء التي يكيلها لشعوب بأكملها.
هذه الكراهية واعتبار الآخر -غير الأبيض- عدوًّا موصوفًا، رسمت سياسات ترامب المتعلقة بالهجرة حين حظر دخول مواطني بعض الدول ذات الأغلبية المسلمة إلى الولايات المتحدة بعد توليه الرئاسة بفترة قصيرة.
خطاب ترامب التمييزي ضد العرب والمغتربين واللاجئين والنساء وجميع المستضعفين يضعه في مأزق كبير، خصوصًا بعد كمية السفاهة والازدراء التي يكيلها لشعوب بأكملها.
تجاهل ترامب للأزمات الإنسانية في منطقتنا والعالم، واستمراره في سياسة التمييز في الحقوق المدنية والإنسانية، حيث حاولت إدارته تقليص ميزانيات الوكالات المعنية بحقوق الإنسان، مثل وزارة العدل، كل ذلك أثّر سلبًا على قدرة هذه الوكالات على التصدي للتمييز، وساهم في حركة ثقافية موصومة باضطهاد الآخر وكراهيته، حتى وصل الأمر إلى تسجيل عدد من جرائم الكراهية في الولايات ضدّ أبرياء من أصول عربية.
كذلك قام ترامب بمواجهة الحركات الاجتماعية الداعمة للعدالة العرقية، مثل حركة "حياة السود مهمّة". بالإضافة إلى تراجعه عن حماية حقوق الأقليات، مثل القوانين المتعلقة بالتمييز في العمل أو التعليم، وتغاضيه السافر عن انتهاكات حقوق الإنسان.
هاريس... وجه آخر لدعم إسرائيل
أما كامالا هاريس، فتبدو رائعة على الورق فقط، في استعارة من العامية الأميركية. فهي أول امرأة تشغل منصب نائبة رئيس الولايات المتحدة حاليًّا، وأول امرأة من أصول هندية وأفريقية أميركية في منصب بهذا المستوى في الولايات المتحدة. وشغلت سابقًا منصب عضو مجلس الشيوخ عن ولاية كاليفورنيا.
أما في الواقع، فسياسات هاريس لا تختلف كثيرًا عن سياسات بايدن الديمقراطية، فهي وجه آخر مجمّل لبعض سياسات ترامب المفصّلة أعلاه. فهي وإن كانت تساند الشعوب الفلسطينية واللبنانية من جهة، لم تحد أنملة عن الدعم المستمر من دون ضوابط لإسرائيل، في الوقت الذي تنادي فيه بضرورة تقديم المساعدات الإنسانية.
وهنا تكمن الملهاة المأساوية، حيث تلملم الولايات المتحدة جراح الفلسطيني المحترق بوضع لاصقة طبية ضئيلة، فتقدّم شربة الماء لمن دفنت إسرائيل أحبابه وقصفت بيته ودُمّرت كرامته وسلبت إنسانيته.
تاريخ هاريس قد لا يكون مظلمًا كتاريخ ترامب، فقد عبّرت عن تأكيدها على المساواة في الحقوق، حيث ترى أن الوصول إلى خدمات الإجهاض هو جزء من تحقيق المساواة للنساء، ويجب أن يكون متاحًا لجميع النساء بغض النظر عن خلفياتهن الاقتصادية أو الاجتماعية، كما أشارت إلى ضرورة تعزيز الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية، وساندت تشريعات تضمن هذا الحق منتقدةً القيود المفروضة على الإجهاض التي أقرتها بعض الولايات.
على الجانب الآخر، يبدو أن حقوق عشرات آلاف الأطفال والنساء الشهيدات، ضحايا الإبادة، لم تصل إلى مسامع هاريس، التي لم تسمح بمشاركة بعض المتحدثين من أصول عربية حين آتتها الفرصة، وقيّدتهم وكمّمتهم. فهي تختبئ وراء الدبلوماسية كمعالجة للقضايا الصعبة والمعقّدة والحساسة، ومنها حرب إسرائيل على غزة ولبنان.
في الواقع، سياسات هاريس لا تختلف كثيرًا عن سياسات بايدن الديمقراطية، فهي وإن كانت تساند الشعوب الفلسطينية واللبنانية من جهة، لم تحد أنملة عن الدعم المستمر من دون ضوابط لإسرائيل، في الوقت الذي تنادي فيه بضرورة تقديم المساعدات الإنسانية
وكانت قد عبّرت عن دعمها للسيادة اللبنانية ومساعدة الشعب اللبناني، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية والسياسية التي يواجهها. الكلام نفسه نسمعه تكرارًا دون أن تلوي الولايات المتحدة يد إسرائيل عن منطقتنا. وهنا نعود إلى السؤال المفصلي: لمن يذهب صوت الناخب العربي؟
ساعة الصفر
بسبب تركيبة نظام "المجمع الانتخابي" في الولايات المتحدة، لا يتم انتخاب الرئيس مباشرة من قبل الناخبين، حيث لكل ولاية عدد من المندوبين يتناسب مع عدد سكانها، وعادة ما يُمنح الفائز بالأغلبية في الولاية كل أصوات المندوبين.
الإشكالية الأخرى هي انتفاء حظوظ المرشحين خارج الحزب الديمقراطي والجمهوري بسبب هيمنة الحزبين على المشهد السياسي، مما يجعل من الصعب على مرشحي الأحزاب الصغيرة أو المستقلين المنافسة بفعالية. هذا بالإضافة إلى التغطيات الإعلامية المنحازة والتمويل والدعم المالي الهائل، حيث تم صرف 10.5 مليار دولار على إعلانات الحملة في الدورة الانتخابية لعام 2024، وفقًا للبيانات التي جمعتها شركة تتبع الإعلانات "AdImpact".
في هذه الأيام القليلة التي تسبق الموعد الأخير للانتخابات، يحاول الطرفان استمالة الناخب المتأرجح، لذا أضحى صوت الناخب العربي ثمينًا اليوم. يدرك الناخب أن التصويت لأي مرشّح خارج الثنائية هو صوت غير مباشر لترامب، فما يفعل؟ هل يدلي بورقة بيضاء ويسطّر بالخط العريض غزة ولبنان؟ هل يصوّت للشرّ القاتم أم للشرّ الرمادي؟ الجواب بعهدة الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...