لم يكن يوم الثاني من كانون الأول/ ديسمبر 2023 يوماً اعتيادياً بالنسبة لضابطة الإسعاف والطوارئ مها وافي (42 عاماً).
ففيه، استقبلت اتصالاً من أحد زملائها وعلمت منه بنبأ اعتقال زوجها أنيس الأسطل، ضابط الإسعاف بوزارة الصحة الفلسطينية، من محور "نتساريم" الذي يفصل شمال قطاع غزة عن جنوبها.
اعتقل الزوج خلال محاولته إجلاء مصابين من مستشفى كمال عدوان إلى جنوب القطاع، تمهيدًا لسفرهم إلى الخارج لإكمال علاجهم.
بحسرة شديدة، تصف مها لرصيف22 ذلك اليوم: "إنه اليوم الأقسى على قلبي، فقد فقدت فيه سندي في الحياة. تناوبت علينا النائبات الواحدة تلو الأخرى في حرب قاسية وقفت فيها وحيدةً. ولم أجد من يسعفني في مصاعب الحياة".
نزحت مها مع زوجها وأبنائها الخمسة من مدينة خان يونس أكثر من 12 مرة، بعد أن دمّر الجيش الإسرائيلي منزلها بالكامل.
ورغم ما تتحلى به وافي من شجاعة لازمتها منذ بداية عملها كمسعفة في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني قبل 24 عاماً، إلاّ أن اعتقال زوجها والتزامها عملها وأمومتها في ضوء حرب الإبادة أصبحا أثقالاً من الصعب حملها.
"إن الناجيات من القصف والعمليات البرية الإسرائيلية قد يتشردن ويصبحن أرامل ويواجهن المجاعة، مما يجعل الحرب على غزة حرباً على النساء أيضاً"، هذا ما قالته هيئة الزمم المتحدة للمرأة.
ففي حين بلغ عدد النساء الشهيدات في غزة أكثر من 11 ألف امرأة، تعيش الناجيات ظروفاً لا يمكن وصف قسوتها، التي تتضاعف لدى اللاتي يعيلن عائلتهن ويعملن في الميدان في مهن محفوفة بالمخاطر كالعمل الإغاثي والإنساني.
رحلة إلى الموت
مع كل اتصال يرد مركز الإسعاف والطوارئ التابع للهلال الأحمر الفلسطيني في خان يونس، تنطلق مها مرتدية معطفها، برفقة سائق الإسعاف في طرق المدينة الوعرة. تتتبع مكان الاستهداف بحذر وقلق من أن تكون هي وزميلها عُرضة لأي خطرٍ مُفاجئ. "إذ ليس ثمة احترام لشارة الإسعاف في قاموس الجنود الإسرائيليين"، تقول.
ولا تنسى مها تعرضها للخطر إبان الحرب الحالية، حينما سقط أحد الصواريخ الإسرائيلية على مقُربة من مركبة الاسعاف التي استقلتها خلال إحدى المهمات، فنجت بمعجزة.
غم ما تتحلى به وافي من شجاعة لازمتها منذ بداية عملها كمسعفة في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني قبل 24 عاماً، إلاّ أن اعتقال زوجها والتزامها عملها وأمومتها في ضوء حرب الإبادة أصبحا أثقالاً من الصعب حملها
"ليس لي شأنٌ بتعقيدات السياسة وهمومها، من بدأ الحرب ومن يُغذيها، من يفاوض ومن يناور، ما يهمني هو وقف هذا النزيف من الدماء وإزهاق الأرواح البريئة"، تؤكد.
وتعتبر أن معاناتها متواضعة، رغم قسوتها، بالنظر إلى تضحيات أعظم مر بها ضحايا الحرب من الأطفال والنساء.
تصف مشاعر الحرمان والفقد المؤلم حين رأت طفلاً لا يتجاوز العامين وقد فقد أهله وذويه، وبُتِرت ساقه ويده في إحدى الاستهدافات الإسرائيلية خلال هذه الحرب الضارية.
ثم تروي قصة شابة فقدت زوجها وأطفالها، ثم ما لبثت أن رافقت عجوزاً مُقعدة لا تعرفها، لم يُبقِ لها صاروخ إسرائيلي أحداً من عائلتها، فقررت أن تكون بجانبها وترعاها.
وفي بلدة خزاعة الحدودية شرق مدينة خان يونس جنوب القطاع، تعمل ضابطة الإسعاف صفاء بركة (45 عاماً).
تضطر صفاء لقطع مسافة طويلة مشياً كي تلحق بالحافلة التي تُقلها إلى مركز الإسعاف حيث بيتها الثاني.
"أكثر ما آلمني خلال هذه الحرب هو مشاهد المصابين التي تتكدّس في عربة إسعاف واحدة، جراء عدم قدرتنا على توزيع الحالات على عدة مركبات؛ فالكثير منها بات متهالكاً أو خرج عن الخدمة بفعل القصف والاستهداف الإسرائيلي"، تقول صفاء لرصيف22.
وتضيف أنها صادفت نقل أعز صديقاتها شهيدة مع عائلتها، وأنها تخشى تكرار هذا المشهد مع أهلها وأقربائها.
كيف يعشن أمومتهن؟
يتساءل أطفال مها عن فقدانهم لابتسامة والدتهم التي لم تكن تغيب عن وجهها، فتجيبهم أن ما تشاهده في الميدان لا يُمكن لقلب بشري أن يتحمله. فتقول: "كيف لي أن أضحك ولا تكاد تفارقني رائحة الدماء، ومشاهد الجثث والأشلاء؟"
وعن المسؤولية التي تركها زوجها بغيابه في رعاية أبنائها، تضيف: "أتجرع يومياً معاناة توفير المياه العذبة ومياه الاستخدامات المنزلية وشراء الحطب وتوفير الغاز إن وجد. حتى توفير مواد التنظيف بات قمة المعاناة".
أكثر ما آلمني خلال هذه الحرب هو مشاهد المصابين التي تتكدّس في عربة إسعاف واحدة، جراء عدم قدرتنا على توزيع الحالات على عدة مركبات؛ فالكثير منها بات متهالكاً أو خرج عن الخدمة بفعل القصف والاستهداف الإسرائيلي
كذلك هي حال صفاء، التي تؤكد أن ظروف الحرب قلّصت بصورة كبيرة الوقت المخصص لتربية أبنائها. "كنت أقضي مع أبنائي وقتاً أطول في التعليم وحل الواجبات المدرسية. أما الآن فلا مدارس ولا تعليم في غزة. أخشى من ضياع العام الدراسي الحالي كما ضاع سابقه"، تقول متحسّرةً على ضياع امتحانات الثانوية العامة لابنتها التي كانت تأمل أن تُكمل مشوار تعليمها لتصبح طبيبة.
وإلى جانب ساعات العمل الطويلة، وجدت صفاء أن استحداث مهمات أخرى فرضها واقع الحرب كغسيل الملابس يدوياً والطهو على الحطب وإعداد الخبز، عائقاً آخر حرمها من متابعة شؤون أبنائها في دروس اللغة الإنجليزية والرياضيات.
فتحاول جاهدةً لإلحاق أبنائها في مبادرات التعليم المجتمعية، آملةً تعويض الفاقد التعليمي لعامل كامل.
ناشطات في العمل المجتمعي
أما الناشطة المجتمعية والإغاثية جولييت أبو شنب (54 عاماً) من مدينة دير البلح وسط القطاع، فلها قصة أخرى مع الحرب، تتمثل في نزوحها والحمولات التي ألقيت على عاتقها في توفير مكان آمن لعائلتها، أضيفت إلى مسؤوليات العمل والحياة الأخرى.
"فاقم النزوح المتكرر من معاناتنا كطواقم إغاثية تعمل على مدار الساعة، وبالكاد نلبي رغبات الناس التي لا تنتهي في ظل واقع مرير وقاسي"، تقول جولييت لرصيف22.
متطوّعةً، تتنقل جولييت بين الناس وتسمع قصصهم وتحاول أن تلبي بعض احتياجاتهم. لكنها ترى أن تكدّس النازحين في مدينتها شكل عائقاً للوصول إلى جميع الفئات الأكثر تضرراً من الحرب، داعية مختلف الجهات الإغاثية لتنسيق جهودها بغية إيصال المساعدات لمستحقيها.
أبو شنب وجدت في نفسها صديقة النازحات من مختلف مناطق قطاع غزة، تشاركهن همومهن وآلامهن. "بات وجهي مألوفًا لدى أغلب النازحات في مراكز الإيواء ومخيمات النزوح، هذا فخر وشرف لي أن أقف معهن في أحلك الظروف"، تقول جولييت.
أما المنسقة في منتدى شارك الشبابي إسلام بدوان (33 عاماً)، فترى أن العمل في ظل هذه الإبادة الجماعية أقرب إلى الموت المحقق.
تذكر إسلام أن أخطر ما واجهته خلال عملها القصف المفاجئ الذي يطال الجميع، فتقول لرصيف22: "تعرض الفريق العامل معنا لإصابات جراء قصف قريب خلال تنفيذنا إحدى في مدرسة في رفح ونجونا بأعجوبة".
وبحسب إسلام، فإن الخطر الذي يواجه العاملات بالمجال الإنساني لا يقتصر على ميدان عملهن فحسب، فالقصف قد يلاحقهن في مكان إقامتهن بمراكز الإيواء أو الخيام المؤقتة.
إلى جانب ساعات العمل الطويلة، وجدت صفاء أن استحداث مهمات أخرى فرضها واقع الحرب كغسيل الملابس يدوياً والطهو على الحطب وإعداد الخبز، عائقاً آخر حرمها من متابعة شؤون دراسة أبنائها
خلال عملها واجهت، بدوان ظروفاً استثنائية من انقطاع التيار الكهربائي وضعف شبكة الإنترنت وانقطاع الاتصال لفترة طويلة، ما أثر سلباً على تنفيذ أنشطتها وفعالياتها.
وتروي إسلام تعرض طواقم العاملات معها في بعض الأحيان للعنف اللفظي أو الجسدي من بعض الأطفال نتيجة الضغط النفسي والاجتماعي الواقع عليهم في مراكز الإيواء.
لكن رغم ما يحيط عملها من تحديات، إلا أنها تعتبره نافذة الأمل التي يمكن أن تنجد الغزيين من واقعهم المتهالك.
في مرمى الاستهداف
تواجه الجمعيات الإغاثية والإنسانية في قطاع غزة استهدافات مباشرة لطواقمها ومقراتها، وقد يتمثل الاستهداف المباشر بحصار الجمعيات وإطلاق النار عليها، كما حصل مع جمعية الهلال الأحمر في مدينة خان يونس على سبيل المثال لا الحصر.
كما يواجه العاملون في المجال الإغاثي والإنساني في قطاع غزة مخاطر مُحدقة قد تصل إلى الاعتقال أو الإخفاء القسري أيضاً.
وكانت منظمة "هيومن رايتس ووتش" قد قالت في تقرير نشرته في 26 آب/ أغسطس 2024 "إن الجيش الإسرائيلي احتجز تعسّفياً فلسطينيين يعملون في مجال الرعاية الصحية في غزّة (في فترة ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر)، ورحّلهم إلى منشآت الاحتجاز في إسرائيل، وقام بتعذيبهم وإساءة معاملتهم".
وشملت الانتهاكات، بحسب وصف أطباء وممرضين ومسعفين مُفرج عنهم، الإذلال، والضرب، والوضعيات المجهدة القسرية، والتقييد وعصب العيون لفترات طويلة، والحرمان من الرعاية الطبية، بالإضافة إلى تعرّضهم للتعذيب، بما في ذلك الاغتصاب والاعتداء الجنسي من قبل القوات الإسرائيلية، والحرمان من الرعاية الطبية، وظروف الاحتجاز السيئة لعموم المحتجزين.
ورغم اعتماد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، في أيار/ مايو الماضي، مشروع قرار ينص على حماية العاملين في المجال الإنساني بمناطق النزاعات، تبقى الرهانات هشة بشأن مدى التزام إسرائيل في تطبيق بنوده.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 10 ساعاتربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ يومينبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي