"الدفاع عن النفس" هو العذر الشائع لمعظم الحروب، إذ يرى البعض أنه لا بأس من خوض الحروب من باب البقاء والدفاع عن النفس، خاصةً في حال كانوا تابعين لحزب أو زعيم معيّن ومؤمنين بخطّه السياسي، كما قال هيرمان جورينج: "يخضع الناس لأوامر الزعماء، فقط أخبرهم أنهم يتعرضون للهجوم"، وتالياً يتم تسويق كل حرب على أنها معركة عادلة.
ولكن لماذا بعض الأفراد، وعلى مدار التاريخ، كانوا على استعداد للتضحية بأنفسهم وحتى بأطفالهم في حروب هم غير مقتنعين بها ضمنياً؟ ولماذا لا يكون كشف أكاذيب الحروب عبر التاريخ بمثابة تحصين ضد الخداع الذي سوف يُستخدم للترويج للحرب التالية؟
الحرب شأن سيكولوجي
في سياق الحديث عن الهوية السيكولوجية التي تُشكّلها الحرب، تقول لجين حاج يوسف، رئيسة التحرير في راديو روزنة، في حوارها مع رصيف22: "أعتقد أن الصراع لا يدمّر فقط الحياة المادية، بل يعيد تشكيل هويتنا الفردية والجماعية. الحرب ليست مجرد معارك وأرقام قتلى، بل هي تجربة تعيد تعريف كل شيء نعرفه".
وتضيف: "شعرت في قلب النزاع بأن المجتمع يكتسب هويةً جديدةً مبنيةً على الخوف، والعداء والبحث المستمر عن الأمان. الحرب تذكّرنا بمدى هشاشة الحياة وكيف يمكن أن تتحول في لحظة إلى جحيم لا يُحتمل وأن العنف يترك آثاراً عميقةً في نفوس الناجين لا تندمل بسهولة".
لماذا بعض الأفراد، وعلى مدار التاريخ، كانوا على استعداد للتضحية بأنفسهم وحتى بأطفالهم في حروب هم غير مقتنعين بها ضمنياً؟ ولماذا لا يكون كشف أكاذيب الحروب عبر التاريخ بمثابة تحصين ضد الخداع الذي سوف يُستخدم للترويج للحرب التالية؟
وترى لجين، أنّ العيش تحت تهديد وضغط نفسيّ دائم يحوّل الأيام العادية إلى رحلة للبقاء، حتى لو كنت بعيداً عنها: "على مدى أكثر من عشر سنوات، كنت أعمل كرئيسة تحرير ومديرة لغرفة أخبار، خلف شاشاتنا كنّا نحاول الاستمرار في العمل، لكن الحرب لم تكن بعيدةً عنّا. عائلاتنا وأحباؤنا كانوا موزّعين في مناطق مختلفة من سوريا، وعلينا أن نعيش يومياً مع القلق الذي يأتي مع الانتظار، والنظر إلى تطبيقات المحادثات لنطمئنّ إلى أنهم ما زالوا على قيد الحياة، لم نكن مشغولين فقط بمصير أسرنا، بل بمصير وطن بأكمله. الوطن الذي نراه يتفكك أمام أعيننا".
وتكشف أن العديد من الصحافيين/ ات الذين/ اللواتي عملت معهم/ نّ لم يستطيعوا/ ن تحمّل هذا العبء النفسيّ، وأصبحوا/ ن غير قادرين/ ات على مواصلة مواجهة العنف اليومي، وتركوا/ ن العمل: "حتى نحن الذين واصلنا العمل، شعرنا في أعماقنا بأننا نتحطم ببطء، قطعةً بعد أخرى، لكنّ الأمل في أن صوت الحقيقة لن يخفت، وأننا برغم كل ما فقدناه، ما زلنا قادرين على السعي نحو غد أفضل حتى لو كان طريقه مليئاً بالتحديات، دفعنا للاستمرار".
اللافت أن الدين يلعب دوراً نفسياً مهماً في الانجذاب إلى الحرب وتبريرها، كما يقول فادي أبو الديب، المتخصص في الفلسفة الدينية: "تاريخياً كانت المؤسسة الدينية مرنةً بخصوص تبرير الفعل الحربي، ويمكن البرهنة على أنّها لم تكن تجد صعوبةً في إيجاد المبررات الأخلاقية للقيام بالحرب هجوماً أو دفاعاً".
ويضيف أبو الديب لرصيف22: "لعلّ الأمر ليس غريباً في حد ذاته، كون هذه المؤسسة ليست منفصلةً عن واقع الحياة والحاجات المرتبطة بهذا الواقع، ولكن الغرابة تكمن في أنّ مرونة المؤسسة الدينية وبعض كبار رجالاتها في تبرير الحروب، الهجومية منها أو الدفاعية، كانت تنخفض بشدة أو تنعدم حين يتعلّق الأمر ببعض نواحي الأخلاق الاجتماعية واليومية، مثل بعض الأمور المرتبطة بالعلاقات العاطفية والجنسية".
ويختم بالقول: "يمكن القول إنّه في عموم الممارسة الدينية لم يكن يُنظَر إلى الحرب وإراقة الدماء والتحريض على الكراهية والشكّ، بالتهويل نفسه الذي يوجَّه إلى الجنس على سبيل المثال، والأمر مستمر حتى أيامنا هذه".
الحرب تلبّي حاجتين نفسيتين
تدفعنا التجلّيات النفسية للحرب لدراسة أسبابها ودوافعها، ولعلّ ويليام جيمس، كان أول عالم نفس يبحث في سيكولوجية الحرب في مقاله عام 1910، حيث ادّعى أنّها كانت منتشرةً سابقاً بسبب آثارها النفسية الإيجابية على الفرد والمجتمع؛ في الحرب يكسر التهديد حاجز الوحدة والعزلة الاجتماعية ليعود الناس إلى الارتباط بمصير واحد.
ويشير جيمس، إلى أنّ الحرب تدفع المجتمع إلى الانضباط والتماسك، وتجعل الناس يشعرون باليقظة وقيمة الحياة، وتعيد الإنسان إلى الحاجات الأساسية بعيداً عن الشكليات والكماليات ورتابة الحياة اليومية.
"الحرب ليست مجرد معارك وأرقام قتلى، بل هي تجربة تعيد تعريف كل شيء نعرفه. الحرب تذكّرنا بمدى هشاشة الحياة وكيف يمكن أن تتحول في لحظة إلى جحيم لا يُحتمل وأن العنف يترك آثاراً عميقةً في نفوس الناجين لا تندمل بسهولة"
وفي سياق متصل، يقول عالم النفس لورانس ليشان، مؤلف كتاب "علم نفس الحرب" (دار هيليوس للنشر، 2002): "إن الحرب ربما تكون ثاني أكثر الأنشطة شعبيةً بين البشر"، كاشفاً أن ممارسة الحب تأتي في المرتبة الأولى.
ويزعم ليشان في كتابه، بأن شعبية الحرب تنبع من قدرتها الفريدة على تلبية حاجتين نفسيتين رئيسيتين: تحقّق شعورنا بالاستقلال من خلال تحديد هدف لها، وتلبّي حاجتنا إلى المجتمع من خلال وضع حدود بين "نحن" و"هم".
ويضيف ليشان: "نحن نقول إننا نحب السلام، ولكن هذا لا يثير حماستنا في الواقع، وحتى دعاة السلام يتحدثون عن أهوال الحرب أكثر من حديثهم عن أمجاد السلام"، مشيراً إلى أنه "بعد أن تنتهي كل هذه الحروب، قد تتمكن من حل مشكلة واحدة، ولكنك لن تتمكن من حلّ جميع المشكلات".
هل يمكن لعاقلٍ أن يحبّ الحرب؟
بالطبع ليست الحرب بهذه الوردية، بحيث تتضح في الحرب هوية المجموعة، وينبثق عنها ما يسمّيه علماء النفس "الاستبعاد الأخلاقي"، وهو تطبيق المعايير الأخلاقية والحقوق الإنسانية على المجموعة التي ننتمي إليها، وحرمان المجموعات الأخرى منها، ليصبح من السهل قمعها وقتلها، تماماً كما يحصل في غزّة منذ أكثر من سنة.
يقول رامي غدير (46 عاماً)، وهو كاتب ومسرحيّ سوري، لرصيف22: "الحرب تجسيد لغريزة البقاء وتحقيق لمجد شخصي".
وعن الأسباب الكامنة وراء انجذاب البعض إليها، يضيف: "لا شك في أنّ من ينجذب إلى الحرب والقتل وسفك الدماء هو إنسان مريض، وعدا عن حب السيطرة والتملك وإثبات الذات، ينجذب الإنسان إلى الحرب بغية ترك الأثر، ما يُذكّرني بطفولتي حين كنا نخرّب النباتات، ونؤذي الحيوانات ونعبث بما نمرّ به، محاولين أن نثبت أننا موجودون ونحبّ أن نترك أثراً يثبت هذا الوجود، وكذلك الحرب؛ هي مرحلةٌ من المراهقة الفكرية والنفسية".
ترى سلاف (39 عاماً)، وهي خرّيجة كلية الصيدلة، أنّ "الحرب تفوح منها رائحة التستوستيرون، ولا أعتقد أنني كأنثى أستطيع فهمه أو تحليله، لكنّ ما أشعر به في وقت الحرب أو وقت اشتداد الحرب على وجه الدقة هي الحاجة العميقة إلى الحب".
تتخذ نور (28 عاماً)، وهي خرّيجة كلية الآداب قسم اللغة العربية، موقفاً أكثر حدةً تجاه الحرب بناءً على تجاربها المريرة، التي تحكيها لرصيف22: "فقدتُ أبي وأخي في الحرب السورية، لا أريد تبرير الحرب، ولا أحبّذ وضع دوافعها ضمن الدوافع الإنسانية، الحرب أغبى اختراعات البشر، لأنّ كل ما نملكه هو هذه الحياة فقط، لا شيء أثمن من حياتنا لنضحّي به لأجلها".
"حتى نحن الذين واصلنا العمل، شعرنا في أعماقنا بأننا نتحطم ببطء، قطعةً بعد أخرى، لكنّ الأمل في أن صوت الحقيقة لن يخفت، وأننا برغم كل ما فقدناه، ما زلنا قادرين على السعي نحو غد أفضل حتى لو كان طريقه مليئاً بالتحديات، دفعنا للاستمرار"
فيما يقول مثنى (33 عاماً)، وهو مهندسٌ يؤدي الخدمة العسكرية، لرصيف22: "لا يمكن لعاقلٍ أن يحبّ الحرب أو ما يتفرع عنها من أعباء وتعقيدات وخراب، لكنّ الحرب في الوقت ذاته أراحتني من واجباتي الاجتماعية والعائلية الرسمية، لأنني في الحرب غير مطالبٍ بشيء، ومعفى من كل واجباتي".
وفي السياق ذاته، يشرح ويليام برويلز وجونيور، وهو جندي سابق في الجيش الأمريكي، بعد تجربته في حرب فيتنام وإقراره بأنّ الحرب أسوأ الخيارات، لماذا يمكن للبعض أن يحبّ الحرب، فيقول: "إن الحرب لعبة وحشية مميتة، ولكنها أفضل لعبة على الإطلاق، والرجال يحبّون الألعاب، فقد تعود من الحرب مكسور العقل أو الجسد، أو لا تعود على الإطلاق. ولكن إذا عدت سليماً فإنك تحمل معك المعرفة بأنك استكشفت مناطق من روحك لن تكتشفها أبداً".
وتُعدّ الحرب في بعض وجوهها هروباً من الحياة اليومية إلى عالم خاص تختفي فيه الروابط التي تربطنا بواجباتنا مثل روابط الأسرة والمجتمع والعمل، وتمحو المناطق الرمادية الصعبة من الحياة، وتضفي عليها وضوحاً مخيفاً وصاخباً.
تجدر الإشارة إلى أنه في الحرب عادةً ما نعرف من هو عدوّنا ومن هو صديقنا، وتتاح لنا الوسائل اللازمة للتعامل مع كليهما.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...