يوحنا الراهب حاكم بلاد الهند الثلاثة يسيطر على مساحات شاسعة من البلاد تمتد من أراضي الرافدين إلى الهند، تفيض أرضه لبناً وعسلاً، وأنهاراً من الذهب، وتتمتع بلاده بالثروات الطبيعية وكنور من الجواهر والمعادن النفيسة، ولديه مقتنيات سحرية هائلة، وتعجّ بلاده بأعراق وأجناس بشرية عجيبة.
بتلك القصة الأسطورية اتجه نظر الغرب إلى الشرق، وَسَعَت الحملات الصليبية إلى السيطرة على هذه الأماكن الساحرة، وهي تعرف أن هناك جيوشاً من الأعوان والأتباع الذين سيقابلونها بالودّ والترحاب، ويسهّلون مهمتها في السيطرة على الشرق، إلى درجة أن بابا روما، ألكسندر الثالث، نفسه، اقتنع بهذه القصة الخيالية التي يرددها الحجاج والرحالة، وأرسل من يبحث عن يوحنا الراهب، ولكنه لم يعثر عليه قط.
الأمر نفسه تقريباً ينطبق على تصوّر الغرب ورؤيته لأقباط مصر، حيث حاول استقطابهم والتوحد معهم في مواجهة الزحف العثماني الرهيب إلى قلب أوروبا منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، وكذلك مواجهة الانتشار البروتستانتي الذي احتل مساحات كبيرة من نفوذ الكنيسة الكاثوليكية، فأرسل العديد من البعثات والإرساليات لهذا الغرض، وعقد مجمعاً لرأب الصدع وإزالة الخلافات المذهبية المتعلقة بطبيعة المسيح والمطهر والأعياد، إلا أن الأوروبيين وجدوا ديانةً أخرى وتفاصيل مختلفةً تربط الأقباط بعقيدتهم.
في كتابه "القبط والغرب... الأوروبيون واكتشاف الكنيسة القبطية بين عامي 1439 و1822"، يشرح المؤرخ الإنكليزي أليستر هاميلتون، أسبابَ فشل الأوروبيين في "كثلكة المجتمع القبطي" على مستوى القيادات الكنسية، وفي المقابل تسرّب الكاثوليكية إلى نطاق محدود نسبياً في المجتمع المصري على مستوى الأفراد والعائلات.
وقع خلاف جوهري حول طبيعة المسيح في أحد المجامع المسكونية، وأدى إلى عزلة الأقباط عن الغرب منذ القرن الرابع تقريباً، وانغلاق الكنيسة القبطية على نفسها، واستدعاء اللغة القبطية بجذورها المصرية واليونانية، التي عدّها الغرب لغةً سحريةً
الكتاب الذي ترجمه إلى العربية أستاذ الوثائق في جامعة كفر الشيخ المصرية، والمستشار العلمي للمعهد الفرنسي للآثار الشرقية، الدكتور مجدي جرجس، ونُشر في المركز القومي للترجمة في مصر قبل أشهر، ينطلق من النقاط الخلافية الأولى حول الطبيعة المزدوجة للمسيح بصفته إلهاً وبشراً، وفق التصور الكاثوليكي، والطبيعة الواحدة له بصفته إلهاً فقط، وفق التصور الأرثوذكسي الذي تبنّته الكنيسة القبطية ودافعت عنه باستماتة لدرجة سقوط قتلى كُثر في معارك وفترات اضطهاد مذهبية.
لا ينكر مؤلف الكتاب الحقيقةَ التاريخية التي تؤكد الدورَ الذي لعبته الكنيسةُ المصرية في وضع أسُس وقواعد الإيمان المسيحي على مستوى العالم، بالإضافة إلى تأسيس الرهبنة بدايةً من أحد الأديرة الرئيسية في الصحراء الشرقية بالقرب من البحر الأحمر، وأيضاً القيمة الكبرى لمصر عند مسيحيي الغرب لوجود مزارات مسار العائلة المقدسة فيها.
ولكنه يوضح في البداية الخلافَ الجوهري الذي وقع حول طبيعة المسيح في أحد المجامع المسكونية، وأدى إلى عزلة الأقباط عن الغرب منذ القرن الرابع تقريباً، وانغلاق الكنيسة القبطية على نفسها واستدعاء اللغة القبطية التي تحمل جذور اللغة المصرية القديمة واليونانية التي عدّها الغرب لغةً سحريةً.
بحسب الكتاب، "يتفاخر الأقباط بأنهم المصريون الأصليون، وقد وردت في نصوصهم السّحرية عناصر من المعتقدات الفرعونية، وأحياناً الغنوصية، وهو الأمر الذي صدم المبشّرين".
يحكي الدكتور مجدي جرجس، في حديثه إلى رصيف22، كيف قام الأقباط بتحويل عيد فرعوني إلى عيد قبطي: "في القرن الخامس الميلادي كان المصريون يحتفلون بالإله زحل، بالذبائح والولائم والأفراح في الإسكندرية، وهو عيد قديم للمعبود حورس، وحين جاءت المسيحية ووجدت أن هذا العيد أكبر احتفال في المدينة، حاولوا توعية الناس بأنه عيد لمعبود قديم، وحين فشلوا في إقناعهم بالأمر، حوّلت الكنيسة هذا العيد إلى عيد مسيحي، وبعد تفكير طويل اختاروا كائناً سماوياً للاحتفال به، وأسموه عيد الملاك ميخائيل. نحن مميزون بهذا الطقس في العالم كله، كلّ مدينة كان لها إله وعيد".
ويلفت الكتاب إلى العديد من المظاهر الأخرى التي اتخذها الأقباط من المصريين القدماء (الفراعنة)، من بينها الطقوس الجنائزية وعادة وضع المتعلقات الشخصية للمتوفى في كفنه، أو تقديم الأضاحي بعد الوفاة، أو إحضار قرابين إلى المدافن، وكذلك الاعتقاد بأن الروح تظل سابحةً في سياحة من يوم الوفاة إلى يوم القيامة، بخلاف العقيدة الكاثوليكية التي تشير إلى المطهر، وهي فترة عذاب برزخي للتطهر قبل دخول الملكوت.
ويوضح المترجم أن "في مرحلة ما بعد القطيعة مع الكنيسة الغربية، رجعت الكنيسة المصرية لتأخذ مظاهر كثيرةً من الطقس المصري القديم، فمثلاً هناك يوم اسمه الجمعة العظيمة، يُعزف فيه لحن الجلجثة، وهو لحن مصري قديم نصفه 'حزايني' ونصفه 'فرايحي'، ليعبّروا به عن الحزن لصلبِ المسيح والفرح لقيامته، وأصل اللحن كان يُستخدم للتعبير عن الحزن على الملك الراحل والفرح بالملك الجديد".
ويلفت جرجس في هذا الإطار إلى محاولات شتى لرصد "تنصير الديانة المصرية القديمة"، موضحاً أنه ترجم من قبل مقالةً للروائي والكاتب المصري الراحل جمال الغيطاني، اسمها "الهرم الخفيّ"، يتحدث فيها عن معبد فرعوني تحوّل إلى كنيسة قبطية، وهو الآن مسجد أبي الحجاج الأقصري، لافتاً إلى أن "الغيطاني كتب هذه المقالة بطريقة شاعرية ليقول من خلالها إن هذه هي مصر، فهي روح واحدة تلبس كلّ فترة ثوباً جديداً، منوهاً بالطبقات المختلفة والمتتالية التي تتكون منها الحضارة المصرية".
كما أشار الكتاب إلى المشاركة في بعض العادات بين الأقباط والمسلمين بعد أكثر من ألف عام من التعايش، ومنها خلع الأحذية قبل دخول الأماكن المقدسة وتغطية النساء والختان. وبرغم تعرّض الأقباط لموجات من التمييز بعد دخول الإسلام مصر عام 639 م، وخصوصاً في العصر الأموي، وبعض فترات العصر العباسي، وفي زمن الحاكم بأمر الله وصلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس، إلا أن هذا لم يمنع أراخنة الأقباط في بعض الأحيان من اللجوء إلى المحاكم الشرعية (الإسلامية) للشكوى من البابا أو رئيس الكنيسة القبطية، وهو ما حدث حينما حاول أحد الباباوات تغيير التقويم اليولياني إلى التقويم الغريغوري في نهاية القرن السادس عشر، ونتج عنه اختلاف الأعياد بين الغرب الذي يحتفل بعيد الميلاد يوم 25 كانون الأول/ديسمبر، والشرق الذي يحتفل بالعيد نفسه يوم 7 كانون الثاني/يناير. ووقتها استندت المحكمة الشرعية إلى ميقاتيّين (خبراء فلك وتقويم) مسلمين، ورفضت تغيير التقويم اليولياني.
يتحدث الكتاب عن موجات التمييز التي مرّت على الأقباط، مشيراً إلى أن الكثير من حوادث العنف والاضطهاد تعرّض لها الأقباط والمسيحيون على أيدي الرومان، وهو ما لم يحدث على يد المسلمين، وحتى في الهجوم التركي العنيف على جزر اليونان ومناطق أوروبية، لم يشكُ المسيحيون من اضطهاد أو عنف ممنهج ضدهم، في حين انحصرت مظاهر التمييز في العصور الإسلامية على فترات متباعدة في عدم تقلّد الوظائف العليا وارتداء ملابس بألوان معينة وعمامات وزنانير (أحزمة قماشية) بألوان محددة تميز المسيحيين واليهود عن المسلمين، ومنعهم من دقّ أجراس الكناس أو بناء الكنائس، وتعليق أجراس في رقابهم عند دخول الحمامات العمومية، وكان اليهودي يعلّق جرسَين. ولكن يشير المترجم لرصيف22، إلى أن "هذه الإجراءات لم تكن تستمر لفترات طويلة بدليل التأكيد عليها في أكثر من فترة مما يعني أنه لم يكن أحد يلتزم بها".
يشرح كتاب "الغرب والقبط" موجاتِ التمييز التي مرّت على الأقباط، والكثير من حوادث العنف والاضطهاد تعرّض لها الأقباط والمسيحيون على أيدي الرومان، وهو ما لم يحدث على يد المسلمين
ويرصد الجبرتي، بعض أنماط التمييز ضد الأقليات الدينية قائلاً: "نودِيَ على طائفة المخالفين للملّة من الأقباط والأروام بأن يلزموا زيّهم من الأزرق والأسود، وألا يلبسوا العمائم البيض، لأنهم خرجوا عن الحد في كل شيء، وأصبحوا يتعممون بالشيلان الكشميري الملونة والغالية الثمن، ويركبون الرهوانات والبغال والخيول، وأمامهم وخلفهم الخدم بأيديهم العصي يطردون الناس عن طريقهم، ولا يظن الرائي لهم إلا أنهم من أعيان الدولة".
وكانت مظاهر التمييز قد قلّت بعد دخول الحملة الفرنسية إلى مصر 1798. ورصد الجبرتي مظاهر لتجبّر بعض الأقباط الذين خدموا الفرنسيين وأصبحوا يستذلّون المسلمين. إلا أن أسرة محمد علي، ألغت جميع مظاهر التمييز ضد الأقباط، وفي عهد سعيد باشا (1855)، تم إلغاء الجزية على الأقباط، وفي العام التالي تقرر إلحاق الأقباط بالخدمة العسكرية.
وبرغم تباعد حملات التمييز، سواءً التي تعرّض لها المسيحيون في الشرق أو في الغرب على يد المسلمين، إلا أنها "قد تؤدي بأحد البطاركة إلى أن يحلم بوحدة الجيوش المسيحية وزحفها نحو الشرق والقضاء على المسلمين"، بحسب ما ورد في الكتاب.
وأشار الكتاب إلى الخلط الذي وقع فيه الغرب والأوروبيون، حيث اعتقدوا أن الأقباط يعيشون في الهند، وفي فترات أخرى اعتقدوا أن الأحباش هم الأقباط، وهي تصورات مغلوطة جرى تصحيحها في ما بعد، لكن الكتاب الذي يبدأ بتناول التاريخ من عام 1439، وهو تاريخ انعقاد أول مجمع مسكوني يدعى إليه الأقباط بعد ألف عام من القطيعة مع أوروبا، وينتهي عام 1822، وهو العام الذي نجح فيه نابليون في فك رموز حجر رشيد، وكان للّغة القبطية دور كبير في ذلك، أرجع فشل حملات التبشير والكثلكة في التأثير على نطاق واسع إلى عوامل مختلفة أهمها الطبيعة الخاصة للعقيدة الأرثوذكسية القبطية وعلاقتها بالعادات والتقاليد المصرية القديمة المنصهرة معها في تكوين هرمي خفيّ يشكّل السمات الرئيسة للوجدان الشعبي.
وفي النهاية، يؤرّخ الكتاب لبداية الحضور الرسمي للكاثوليك كطائفة مستقلّة في مصر، بعام 1895، حين تم ترشيح جرجس مقار بطريركاً للكاثوليك بعد أن وصل عددهم إلى نحو خمسة آلاف شخص (بعد أربعة قرون من محاولات الكثلكة)، وفي عام 1975، وصل عدد الكاثوليك في مصر إلى أكثر من 107 آلاف نسمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه