على مدى شهرين، ظل تفكير أحمد أبو رزق (34 عاماً) منصباً في نقل جثمان والدته من مكان دفنها المؤقت إلى مقبرة العائلة غرب مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، حتى أعلن الجيش الإسرائيلي انسحابه من المدينة في السابع من نيسان/أبريل 2023.
ومع عودة السكان تدريجياً في الرابع عشر من الشهر نفسه، اتصل أحمد بشقيقيه ووالده لنقل جثمان والدتهم محضية أبو مطرود (66 عاماً)، التي استشهدت في رفح في العاشر من شباط/ فبراير 2024، برفقة أختها وأخيها، نتيجة قصف إسرائيلي استهدف منزل أخيها الذي نزحت إليه.
حينها لم يتسنَ لأبنائهم دفنهم في مقبرة العائلة في خان يونس، بسبب وجود الجيش الإسرائيلي في مركز المدينة وتخومها وأحيائها الشرقية والغربية.
يسترجع أبو رزق شريطاً مؤلماً من الذكريات بعد استشهاد والدته، إذ لم يكن بوسعه إلا أنْ يدفنها في أرضٍ زراعية محاذية لمستشفى غزة الأوروبي الواقع بين مدينتي خان يونس ورفح.
"نقل جثمان والدتي لم يكن بالأمر الهيّن، فآليات الاحتلال وطائراته ترصد كل متحرك وتفتك به"، يقول لرصيف22.
هناك أكثر من 120 مقبرة جماعية عشوائية دُفن فيها 3 أفراد فأكثر، استحدثت منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، منها 30 مقبرة جماعية عشوائية تضم نحو 3 آلاف فلسطيني
كان أحمد متخوفاً من إبقاء جثمان والدته في مكان دفنها المؤقت خشية استهداف الاحتلال له أو اقتحامه، ففضل نقل جثمانها إلى مقبرة العائلة، "لتبقى بجانب أقاربنا وأحبائنا وبين قبر جدي وجدتي" يضيف.
باحثاً عن صورٍ التقطها بهاتفه المحمول لقبر والدته كي تكون شاهداً على جريمة إسرائيل، يقول أحمد: "يتألم الناس حين يدفنون أحباءهم، فما بالك حين تدفن أغلى شخص على قلبك مرتين. لم تكتف إسرائيل بإذلال الأحياء إنما امتهنت كرامة الأموات".
القصف المتواصل واستهداف المدنيين وفضائهم المدني والعدد المهول للشهداء، جعل الغزيين يستحدثون مقابر عشوائية، على نحو أصبح ظاهرة منتشرة.
فقد أكد المرصد الأورومتوسطيّ لحقوق الإنسان أن هناك أكثر من 120 مقبرة جماعية عشوائية دُفن فيها 3 أفراد فأكثر، استحدثت منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، منها 30 مقبرة جماعية عشوائية تضم نحو 3 آلاف فلسطيني. فضلاً عن القبور الفرديّة التي أنشئت داخل البيوت أو في مناطق قريبة منها إلى حين نقل الجثمان إلى مقبرة العائلة.
أن تستقبل التعازي مرتين
اختبرت عائلة الكاظمي هي كذلك، هذا "الموت المتكرر"، بعد دفن ثلاثة من أبنائها في مقبرة مؤقتة بمنطقة العطار وفي باحات الكلية الجامعية التطبيقية، ثم نُقلت جثامينهم إلى مقبرة العائلة غرب خان يونس.
دفن إياد الكاظمي (48 عاماً) ابنه وأبناء أخته بعد استشهادهم نتيجة قصف إسرائيلي استهدف منزلهم مطلع كانون الثاني/ يناير 2024. يقول لرصيف22 بصوت مكتوم: "لم يهدأ لي بال حين كان جثمان ابني مدفوناً بمنطقة العطار، وكنت كالحارس أتفقد قبره كل يوم خوفاً من أن يلحق به أذى أو مكروه. كنت أجهل طبيعة المنطقة وأخشى من نبش القبر".
ويتحدث إياد عن معاناته في الحفاظ على شاهد قبر نجله: "طبيعة الرمال الناعمة وشدة الرياح قد تُخفيان معالم القبر، وكنت بصعوبة أحصل على دلو الماء وأصبه على القبر كي تتماسك رماله".
ويردف: "لا يمكن وصف هذه المشاعر،
حين تستخرج جثمان فلذة كبدك، ثم تحمله على كتفك مرة أخرى، في مشهد وداع آخر لا يتحمله قلب، وتستقبل التعازي فيه مرتين. هذا ما ينكأ الجراح ويضاعف ألم المُصاب".
ومنذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بات من الصعب على الأهالي الوصول إلى المقابر الرئيسية، ما اضطرهم إلى دفن الشهداء في قبور قريبة من مكان نزوحهم وبين الأحياء السكنية وباحات المستشفيات والأراضي الزراعية والملاعب وصالات الأفراح والمدارس والجامعات والأرصفة.
إسرائيل تنبش القبور
وإلى جانب قصف المقابر بالقذائف المدفعية والصواريخ، اقتحم الجيش الإسرائيلي مرات عدة مقابر رئيسة ومؤقتة في قطاع غزة ونبش القبور التي بداخلها، مخلفاً وراءه دماراً وخراباً بحجة البحث عن جثث لأسرى إسرائيليين.
وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، فقد دمّر الجيش 19 مقبرة في القطاع وسرق منها 2300 جثمان.
وحين تُرجع إسرائيل جثامين الفلسطينيين المسروقة، قد لا يتعرف الطرف الفلسطيني على هويتها بعد تحللها أو لعدم إرفاق بيانات عنها من الجيش.
ففي الشهر المنصرم، رفضت وزارة الصحة في غزة استلام جثامين 88 شهيداً عبر الصليب الأحمر الدولي، لعدم توفر معلومات عن الضحايا وعن كيفية قتلهم وخطفهم.
وقد يكون الفلسطيني محظوظاً حين يُنبش القبر دون اختطاف الجثة.
هذا ما حصل مع محمود الأغا (36 عاماً) حين ذُهل بعد زيارة قبر والدته، فوجده محطماَ ومنبوشاً بفعل عمليات التجريف التي تضررت منها مقبرة العائلة بشكل كبير.
يقول محمود لرصيف22: "دفنت والدتي في قبر جماعي للنساء في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. وحين ذهبت لزيارة قبرها وجدت آثار الدبابات في المكان وركام القبور متناثراً في كل الأرجاء".
في بداية الأمر، لم يستطع التعرف إى مكان قبر والدته، نظراً لحجم الدمار الذي لحق بالمكان. لكن مع قراءة شواهد القبور التي سلمت، ولو جزئياً، من استطاع تحديد القبر.
"لم يكتف الجيش بمهاجمة الأحياء والتنكيل بهم، بل لاحق الأموات في قبورهم"، يعلق محمود. ويتساءل: "كيف لنا بعد هذه الفاجعة أن نزور قبور أهلنا وأحبائنا؟ هذه ليست مأساتي، إنما مأساة عائلات كثيرة تعيش ذات المشاعر الأليمة".
ومن المقابر العشوائية التي نبشها الاحتلال، مقبرة مجمع ناصر الطبي التي أنشأها المحاصرون بداخله. فقد اقتحمت القوات الإسرائيلية مجمع ناصر الطبي مرتين، الأولى في 15 شباط/ فبراير، والثانية في 24 من آذار/ مارس 2023.
حينها، أعلن جهاز الدفاع المدني الفلسطيني عن انتشال 283 فلسطينياً من مقبرة جماعية اكتشفت في ساحة المستشفى.
ويؤكد الحانوتي بالمقبرة التركية طافش أبو حطب، أنه كان من ضمن المحاصرين في مجمع ناصر الطبي لمدة 33 يوماً، وتكفل بغسل وتكفين ودفن ما يقارب 400 فلسطيني في قبور عشوائية، ما بين شهيد أو متوفى بعد مرض أو بظروف طبيعية.
دفنت والدتي في قبر جماعي للنساء في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. وحين ذهبت لزيارة قبرها وجدت آثار الدبابات في المكان وركام القبور متناثراً في كل الأرجاء
يقول أبو حطب لرصيف22 إن معظم من دفنهم بنفسه داخل باحات المجمع نُقلوا إلى المقبرة التركية ولا تُعرف أسماؤهم، إنما "كانوا معنا داخل المستشفى ونعرف أنهم فلسطينيون".
وذكر بيان للمكتب الإعلامي الحكومي، في 30 أيلول/ سبتمبر 2024، حول تحديثه لآخر إحصائيات الحرب، أنه تم انتشال 520 شهيداً من 7 مقابر جماعية عشوائية داخل مستشفيات قطاع غزة منذ بدء الحرب الإسرائيلية.
انتهاك لحرمة الأموات
وبحسب المرصد الأورومتوسطي، تبقى معظم المقابر العشوائية غير موثقة، فالعديد منها موجود داخل المنازل والأماكن الخاصة، ويجري نقل بعضها إلى مواقع مختلفة بين الحين والآخر.
وبيّن أن أعداد ومواقع تلك المقابر سيظل متغيراً ما استمرت الإبادة الجماعية في غزة. مشيراً إلى أن أكبر المقابر الجماعية التي وثقها المرصد هي "مقبرة البطش" في حي "التفاح" شرق مدينة غزة، حيث تضم المقبرة بين 500 و1000 شهيد دُفنوا فيها منذ إنشائها في 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أي بعد أسبوعين من بدء الهجوم العسكري على غزة.
ووثّقت المقابر الجماعية والعشوائية منذ تدشين أول مقبرة جماعية في مجمع الشفاء الطبي في 15 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، بعد تعذر نقل الشهداء والموتى إلى المقبرة الرسمية في مدينة غزة لوجودها شرقاً، ولاحقًا، توالى إنشاء هذه المقابر حتى زاد عددها على 120 مقبرة جماعية.
ويرى حقوقيون أن إسرائيل تنتهك بشكل ممنهج حرمة الأموات ومقابرهم وتخالف مبادئ القانون الدولي الإنساني وقواعد الحرب بشأن ضرورة حماية المقابر أثناء النزاعات المسلحة.
إذ تنص القاعدة 115 في القانون الدولي الإنساني العرفي على أن "تُعامَل جثث الموتى بطريقة تتسم بالاحترام، وتُحترم قبورهم وتُصان بشكل ملائم". فيما تنص المادة 130 من اتفاقية جنيف لعام 1949 على وجوب أن تحترم المقابر وتصان بشكل مناسب وتميز بطريقة تمكن من الاستدلال عليها دائماً.
ومع تزايد النداءات والمطالبات من السلطات بغزة، والمنظمات الأممية والمؤسسات الحقوقية لإسرائيل بضرورة تحييد المقابر عن أي نزاع مسلح، تظل تلك المطالبات رهن تاريخ طويل من الانتهاكات للقوانين والشرائع الدولية التي تطال الأحياء والأموات على حد سواء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 7 ساعاتtester.whitebeard@gmail.com
Ahmad Tanany -
منذ 12 ساعةتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
Ahmad Tanany -
منذ 12 ساعةتلخيص دسم
Ahmad Tanany -
منذ 12 ساعةتلخيص دسم
Husband let me know -
منذ يومهلا
Husband let me know -
منذ يومهلا