شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
هل سأواصل الحياةَ محصّنةً بتميمة

هل سأواصل الحياةَ محصّنةً بتميمة "بيروت خيمتنا"؟… يوميات امرأة لبنانية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

في 17 أيلول/سبتمبر 2024، انفجرت الـpagers (أجهزة النّداء) بحامليها. شعرت بألمٍ يتمارى إلى حدّ ما مع آلام حياة ذاك الرّجل الّذي قيل عنه إنّه "اخترع كل شيء"، نيكولا تسلا، ثم قضى بغموض. وفي حين لا أحب استخدام كلمة "أكره" حتّى في حواراتي الداخليّة، وجدت نفسي بحالة ملّحة للتّعبير عن كرهي لكل أشكال العنف والأذى، وبحاجة للصّلاة -على طريقتي- من أجل شفاء جميع الجرحى وسلامة كل النّاس.

في الواقع، نعيش نحن اللبنانيّين كل بضع سنوات صدمةً جماعيّة قد لا تمرّ على أيّ شعب آخر أكثر من مرّة واحدة في حياته كاملة. لقد بات في جعبتنا تراكم هائل من صدمات حادة تشكّل محطات تاريخية، منذ جيل أهالينا، مروراً بجيلنا، ووصولاً إلى جيل أولادنا.

ومن هنا، فسقوط 4000 جريح بلحظةٍ واحدةٍ وفي مواقع مختلفة من هذا البلد المنمنم، هو افتتاح لبانوراما ملحميّة تُضاف إلى أرشيف ذاكرتنا المثقلة أصلاً بالرّعب. إننا، هذه المرّة، لم نعد نميز أين ينتهي الواقع وأين يبدأ الخيال العلميّ بأبشع صوره، لا محالة. إذ عشرات الدقائق فقط كانت كافيةً لتمتلئ مستشفيات بيروت بالمتبرعين بالدّم إلى من انبترت أصابعهم، انفقعت عيونهم، واحترقت خواصرهم.

حصل هذا كما لو أنّ العدو لم ينوِ فقط تعطيل هؤلاء هنا والآن، بل شاء أيضاً تحميلهم أثراً موحداً على مدى البعيد، كيّ يبقوا دلالةً حيّةً على تحولات مرحلة فاصلة. طور ما عاد فيه رفع الاصبعين "V" شارةً للنّصر بالضّرورة، بل قد يعني أحياناً، للرّائي المتلقي عن مسافة: "ضربتين، لا ضربة واحدة"، أي "ما سمعته كان جدار صوت، وليس صاروخاً".

كلمة "فلسطين" على جدار في الشارع

في اليوم التّالي، يشقّ الفجرُ نوره بالقوّة في وسط السّواد العظيم. ويجعل الواقعُ كثراً يتمنون أنه عساه خير على لبنان، الوطن الّذي لم يصبح ولا مرّة، منذ تأسيسه، نهائياً لجميع أبنائه، كما يروي كتاب التّاريخ. وهو بالمناسبة المحتوى التّربوي الوحيد الّذي لم يُمسّ ضمن المنهج المستحدث، بعد الحرب التي تبيّنَ أنها لم تجرجر وراءها كافةَ أذيالها، مع إعلان انتهاء القتال على تخوم سنة 1989. وربما فكّر المواطنون، بالسّياق عينه، إذا ما سوف تعيدنا الشِدّة القائمة إلى الفطرة الإنسانيّة الأولى، وقوامها التّعاطف، كما تنص دروس التربيّة المدنيّة الّتي عادةً ما تذهب أفقيّاً في تغطية أكبر كمّ من المعلومات، بدون ظهور نموذج ملموس للحاكم الرّشيد، بين شخصيّات السّلطة المسؤولة.

نعيش نحن اللبنانيّين كل بضعة سنوات صدمة جماعيّة قد لا تمرّ على أيّ شعب آخر أكثر من مرّة واحدة في حياته كاملة. لقد بات في جعبتنا تراكم هائل من صدمات حادة تشكّل محطات تاريخيّة، منذ جيل أهالينا، مروراً بجيلنا، ووصولاً إلى جيل أولادنا

هكذا، لم تتأخّر المدارس في إعلان إغلاق أبوابها قبل أن تفتحها أصلاً. فالبلاد لم تشهد عاماً دراسياً واحداً خالياً من الخضّات الأمنية منذ تجدد سلسلة الاغتيالات؛ مع اغتيال رئيس الوزراء السّابق رفيق الحريري، الذي حدث عام 2005، وكانت سنة تخرّجي من كليّة التربيّة، أُم الكليّات في الجّامعة الوطنيّة. ولهذا يُرجح المراقبون أننا كنّا آخر جيل حَظيَ فعلياً بتعليم رسميّ جيد، وفي ظلّ التّعافي من حرب اشتعلت بأسلحة كانت، بلا أدنى شكّ، أقلّ ذكاء من الحاليّة.

ومنذ ذلك الحين، بدا واضحاً أنّه يتحضّر لمجتمعنا هرم تتألف قاعدته من كبار السّن، إثر هجرة الشّباب الباحثين عن العلم والعمل، ومن مصابي الحروب الذين يحتاجون إلى رعاية صحية ودعم ماديّ كبيرَين ومستدامَين كي يتمكنوا من عيشٍ شبه طبيعيّ، ومنّا نحن، النّاجين بالأجساد، بالصّدفة. وكلّنا متواجدون على خطّ أُخرج عُنوة عن الزّمن، حيث نسمع سيّارات الإسعاف تروح وتجيء بلا انقطاع، ونرى-بأنواع متناقضة من الحب- صور وفيديوهات لأكبر وأعلى علم لبنانيّ، يرفرف فوق "مار مخايل" منذ ثماني سنوات، وهي مدّة يفصلنا نصفها عن انفجار المرفأ القريب، والّذي دمّر حوالى ثلث العاصمة فوق سكانها وعابريها.

من واجهة غاليري جاك عويس في الأشرفية

قضيت سنتين على الأقل، أشعر بقلبي يرتجف كلّما رأيت ستارة تطير مع النّسيم، فتجعل الهواجس توسوس في صدري: "خلص، طرنا معها!"، وربما لُمتُ نفسي لمّا تعافت، فسألتها: لماذا استمرّ خوفي كلَّ تلك المدّة الطّويلة؟ أما كان جديراً بي أنّ أستخدم عقلي أكثر، كي أتخلّصَ أسرع من نوبات الهلع؟. ولكن، ها أنا أكتسب فجأة ومؤخراً "عقدة الهدير". ولقد أمسيت، مهما هو نوعه أو مصدره، لا أتخيّله سوى منبعثاً من السّماء، لا أتصورّه سوى مثل كتلة حديديّة ساخنة وثقيلة، تخترق الغيوم، فتبعثرها في شظايا تهتك قلوب العصافير.

سيارات الإسعاف في الشوارع

يتحول فعل النّوم إلى عمل شاق بالنسبة لملايين من الأشخاص، جلّهم لا ناقة لهم ولا جمل في الحرب الدّائرة في "قطعة سما"هُم. بل إنّها فُرضت عليهم بقوة التّخوين، وتحت شِعار "وحدة السّاحات"، ولو على حساب إفراغ الدّولة من خزينتها ووظيفتها، وكسر مفهوم المواطنة، وقمع المشروع المدنيّ. وهي فئة ما زالت تبصر أنّ النّساء والأطفال القاطنين في بنايات الأحياء، في الأحزمة المكتظّة، لم يذهبوا في الأمس القريب بأرجلهم إلى الجبهات المُحتدمة، بل جيء بالمخططين لها إلى الملاجئ في أسفل بيوتهم.

يا له من جبروت! كيف تُعطي ثقافةُ صناعة المجدِ الحقَّ لنفسها بالتفوّق أخلاقياً على من يشاؤون، ببساطة، "مدّ طاولة السُّفرة"، أو أن يلهو أولادهم لساعات بالألعاب بأمان؟ وإن كان في تشريح القبضة المرفوعة بعض من التّجريد لرسم الدّماغ، فكيف يتدبّر رافعوها مصيرَ من لا يملكون ثمن الهروب من الموت؟

القمامة في شوارع المدينة

أشعر أكثر من أيّ وقت مضى أنّني بحاجةٍ إلى جمهوريّة ورئيس يكون "أباً للكل". إذ لا يجوز البتّة تعميم المعتقد القائل بأنّ "المجتمع الأبويّ قاتل"، وهذا انطلاقاً من آليات المنطق ذاتها التي تقارع بالحجّة التّمييز على أساس الجّنس وتدحض التّنميط العنصريّ. هذا لأنّ الأبّ الحقيقيّ لا يمكن إلّا أن يكون راعياً لأسرته ولعائلته، رؤوفاً بهم، صاحب حكمة عميقة وذا نظرة مستقبليّة. أتصرّف خلال النّهارات بمقولة سمير قصير الشّهيرة: "عودوا إلى [الدّولة]، تعودون إلى الوضوح"، وأستعيد عبارة "لماذا لم يدقّوا على جدران الخزّان؟" من رواية "رجال في الشّمس" لغسّان كنفاني.

مدفن الرئيس الشهيد

أقلّب في هاتفي كي أنسى. يقع نظري على صورة من طفولتي المبكرة، يعود تاريخها إلى حقبة الاجتياح الإسرائيليّ للعاصمة. تليها أخرى قد التقطتها البارحة، في منطقة السوديكو الواقعة على خطوط التّماس بين شطرَي المدينة المتخاصمَين حينها. أحاول بالمناسبة أنّ أحصيَ عدد المعارك الّتي شهدتُها مع اقترابي من منتصف العمر. أفكر كيف سأقاوم بعد الآن سرعةَ أخبار القصف؟ حجمه؟ ما ينبشه من صور ومشاعر الماضي، وعلى هامش الضجيج والازدحام المتزايدين؟ كيف سأغلق طاقتي عن حفل النّفاق الصّاخب فوق جثث الضّحايا وأجساد المهجّرين؟ وأتحدّى الخوف الحاضر، والقلق بشأن المستقبل، بينما تعلق شربة الماء في حلقي.

تُمعن طائرة الـM.K في الوقاحة. تتسلل الملقبة بـ"أم كامل" بيني وبين روحي. تشوّشني، فأحتار إن كان عليّ التّوقف عن القيام بأعمالي الّتي من المفترض أنّها عاديّة والاستسلام للموت، أم أظل أثابر على المتابعة، محصنّة بتمائم "بيروت خيمتنا" و"ما تتخلّى عنّا".

الحرب الّتي تزحف نحونا منذ عام، ها هي قد وصلت إلى عقر دارنا! أخرج لأشرب قهوة الصّباح على الشّرفة. أراقب كيف باتت الحمائم تحلّق بجنون غير مسبوق. مسكينة الحمائم! لا أحد يفكر في ملاذ لها كما يفعلون مع الكلاب والقطط 

بحسب الوكالة الوطنيّة للإعلام، تقصف إسرائيل "هدفاً" في "الباشورة" مستخدمةً الفوسفور الأبيض المحرّم دوليّاّ. أظن، وبعض الظّن إثم، أنّ "الهوبرجيّة" وحدهم ما زالوا نياماً، لا يستفيقون. وأنا الّتي لطالما حزنت فاخترعت التّفاؤل اختراعاً، أجدني في هذا الظرف حزينةً حدّ الموت. الحرب الّتي تزحف نحونا منذ عام، ها هي قد وصلت إلى عقر دارنا! أخرج لأشرب قهوة الصّباح على الشّرفة. أراقب كيف باتت الحمائم تحلّق بجنون غير مسبوق. مسكينة هذه الحمائم! لا أحد يفكر في ملاذ لها كما يفعلون مع الكلاب والقطط الّتي تزداد هزالاً منذ بداية انهيار اللّيرة (2019). والموتوسيكلات تربط النّهار باللّيل، والأسفلت الشّحمي بالفضاء المستباح على شتى صنوف القتل. أغلق عينيّ، أتنفّس بعمق، وأشكّ في جدوى فعلي هذا، طالما أن الهواء مسموم!

شارع في بيروت

لكن الصّدق مع الذّات شجاعة. والوقت الفاصل بين تكوين الفكرة وولادتها بالكتابة يمنح فرصةً للمراجعة الذّاتية. أذكر تماماً ما كان عليه مسرح المدينة القديم في شارع كليمنصو، وقد حلّ مكانه الآن "غاليري صالح بركات" الفسيح والأنيق. وكان قد وُضع على بابه سور معدنيّ للغرافيتي كُتبت عليه عبارة: "يقطع الحب شو بذّل"، فأُلحقت بالرّد المدويّ: "إيه، بسّ حب البلد بيرفع الراس". ذلك كان في منتصف التّسعينيات. وبينما يُقال عنّا، نحن اللبنانيّين، إننا "فهلويّون، نفهمها على الطّاير"، هل سوف نتلقف الرّسالة التّي تحطّ كالمصيبة فوق رؤوسنا؟ أم سوف نظلّ نكرر أخطاءنا المميتة، معتقدين بأننا سوف نبقى للأبد قادرين على إعادة ترميم قلوبنا، عبر قدرات خارقة لطاقات البشر؟

شباب في الشارع

تبدأ الغارات باكراً. يتطاير رصاص الابتهاج بردّ الآخرين على الآخرين، دون اكتراثِ مطلقيه بالأفراد الأكثر فقراً بيننا، الذين يفترشون الأرصفة ويلتحفون الجسور، أو يهيمون على وجوههم في الأزقّة، كأنّهم مغيبون عن الوجود.

أنزح من مدينتي بعد ساعات، ليس بخيار الأبطال، فقد تخلّيت منذ زمن عن الكليشيهات، ورميتها في بحرها الحنون على السّباحين الحفاة في الصّيف، كما في الشتاء. "عناق يا حلوة! اعلمي أنك تسكنينني ولا أسكنك. وبوسة على خدّك!".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image