شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أصوات القذائف لا تُشبه لعبة

أصوات القذائف لا تُشبه لعبة "بابجي"... كيف تؤثر الحروب على الأطفال؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والطفولة

الثلاثاء 1 أكتوبر 202401:01 م

"بخاف نام وما أوعى الصبح شوف ماما وبابا وإخواتي. بخاف ياخدوا بابا من البيت ونضل وحدنا. بخاف من الموت ياخد الناس اللي بحبهم، وياخدني بلا ما ودّعن لآخر مرة".

بصوته المرتجف، يُخبر الطفل كرم عمارنه (11 عاماً)، رصيف22، عن معاناة نزوحه من جنين، مسقط رأسه، بعدما طالتها آليات الهدم الإسرائيلية لتفتك بأحلام أطفالها وسكينتهم.

في فلسطين وسوريا ولبنان، اختبر "ملائكة الله" الحروب والويلات على أنواعها. من أصوات المدافع والدبابات والقذائف، وصراخ الجيران، وفقدان الأحبّة، وصولاً إلى التجويع والقتل، تحوّلت حياتهم الوردية إلى كابوس أسود أجبرهم على تحمّل مسؤولية تفوق أعمارهم وأجسادهم النحيلة والضعيفة. قد يتعاطف البعض معهم، وينصرهم البعض الآخر أو يشفق عليهم حتى، إلّا أن رواياتهم عن الحروب تدفعنا إلى إعادة النظر في واقعنا وتفكيرنا والأشياء التي تبكينا أو تفرحنا.

تخيّلوا معاناة طفل يُجبَر على ترك منزله، ويفارق أهله، ويعيش في مخيمات اللجوء، حيث تلاحقه ذكريات العنف والرعب. هذه التجارب لا تترك فقط جروحاً جسديةً، بل تترك آثاراً نفسيةً عميقةً قد تؤثر عليه طوال حياته.

"نلعب غمّيضة"

"بضحك على إختي الصغيرة مايا، وبقلها نلعب غميضة حتى تتخبّى وما تسمع أصوات الضرب والقصف. وبقوم عن الطاولة قبل ماما وبابا حتى يشبعوا هنن، هاد إذا قدرنا نجيب أكل... هيك الطفولة عنا بفلسطين".

"بخاف نام وما أوعى الصبح شوف ماما وبابا وإخواتي. بخاف ياخدوا بابا من البيت ونضل وحدنا. بخاف من الموت ياخد الناس اللي بحبهم، وياخدني بلا ما ودّعن لآخر مرة"

بعفويتها، تتحدّث فاطمة السعدي (9 أعوام)، عن طريقتها الخاصة في مساعدة أهلها واحتواء شقيقتها الأصغر سنّاً. فاطمة الطفلة "الذكية والجميلة"، حسب ما يناديها البعض في نابلس، هي البكر في عائلتها الصغيرة المكونة من أربعة أفراد، وكان يُفترض أن تكون منشغلةً بأشياء أخرى بعيداً عن حماية أحبّائها أو تقاسم الطعام معهم، أو مثلاً الموت الذي يشكّل لها الهاجس الأكبر، بحسب كلام والدتها: "بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تغيّرت سلوكيات فاطمة معنا. فهي بطبعها خجولة وكتومة، لا تُشاركنا مشكلاتها ومخاوفها كي لا تحزننا، وتحرص دائماً على إخبارنا بالأشياء المفرحة، إلّا أنّها لم تعد تلك الطفلة المرحة والمتفائلة بعدما رأت ما حلّ بأطفال غزة".

وتضيف الوالدة لرصيف22: "في إحدى الليالي، رأيتها شاردةً تتأملنا، فسألتها ما إذا كانت تريد منّي تحضير الشوكولاتة الساخنة المفضلة لديها، فنظرت إليّ قائلةً: ‘ماما بس موت ما بقدر بقى شوفك إنتِ وبابا؟ لوين يعني بروح أنا فوق بالسما؟ فيكي تحكي الله يتركني معكن هون؟’".

"اتركوا بابا"

في درعا السورية، لا يختلف الوضع تماماً.

كانت الطفلة ريهام المصري (7 أعوام)، تستيقظ وتصرخ في الليالي "اتركوا بابا"، ومن ثم تركض إلى زاوية غرفتها وتلتصق بالحائط صامتةً، قبل أن تُفقدها مشاهد القتل والدمار صوتها نهائياً نتيجة صدمة تعرّضت لها عندما شهدت منزل الجيران يحترق أمامها وهم يستغيثون في داخله.

"شو عملوا؟"؛ كان هذا آخر سؤال وآخر جملة تفوّهت بها ريهام لحظة الحادثة. في البداية، ظنّ الأهل أن ابنتهم لا تريد التحدث عمّا حصل ولم يحمّلوا الموضوع أبعاداً أخرى، ولكن بعد مرور أسبوع، ومن ثمّ شهر، فسنة، فقدت ريهام قدرتها على النطق وباتت منعزلةً في غرفتها المدمرة جزئياً وعالمها الخاص، لا تحبّ الاختلاط بالبشر ولا تشاهد حتى التلفاز، تجلس فقط أمام نافذتها المطلة على منزل الجيران المحترق تقرأ كتابها أو ترسم، ولا تسمح لأحد بالاقتراب منها.

"في إحدى الليالي، رأيتها شاردةً تتأملنا، فسألتها ما إذا كانت تريد منّي تحضير الشوكولاتة الساخنة المفضلة لديها، فنظرت إليّ قائلةً: ‘ماما بس موت ما بقدر بقى شوفك إنتِ وبابا؟ لوين يعني بروح أنا فوق بالسما؟ فيكي تحكي الله يتركني معكن هون؟’"

"أصبحت ابنتي عدوانيةً. مع كلّ يوم يمرّ يزيد غضبها وتتغيّر نظراتها. نحن الكبار لم نعتد مشاهد داعش وغارات النظام السوري ومداهمات الجيش وأنين الناس يُحرقون في منازلهم وبكاء الأطفال، فكيف لقلبها الصغير أن يتحمل كلّ هذا؟"، تسأل والدة ريهام.

الطفولة المسروقة

على الطريق العام المؤدي إلى الجنوب في لبنان، ثمة لافتة كبيرة لطفل يحمل دميته الممزقة، التي تختصر معاناة أطفال القرى والبلدات الجنوبية في هذه الأيام الصعبة. إنها الطفولة المسروقة التي حُرم منها مئات الأطفال في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت.

واللافت أن حصيلة وزارة الصحة اللبنانية، تُشير إلى أن أكثر من 60% من الضحايا هم من الأطفال دون سنّ العاشرة.

مع احتدام الأزمة في لبنان، نزحت بعض العائلات في الجنوب والبقاع نحو العاصمة بيروت خوفاً من التصعيد.

"بابا قلّي إتخيّل حالي عم بلعب ‘بابجي’ وما خاف. بس اللعبة بقدر وطّي الصوت أنا وعم بلعبها وبقدر وقّفها بس بدي، مش متل الحرب عند تيتا وجدّو"، بهذه الكلمات يجيب الطفل علي حمود (8 سنوات)، عند سؤاله عن شعوره خلال تواجده في مسقط رأس والدته، كفر رمان.

"بتعرفي؟ أنا ما بخاف. بابا قلّي ما خاف من شي وأنا بصدقه. بس أنا بخاف من شي واحد بس إنو بابا يصيرله شي لأنه بيضلّ يروح بس يطلع صوت قوي وماما بتصير تبكي وأنا بخاف ما يرجع"؛ هذا ما يقوله علي، لرصيف22.

في خضم العواصف التي تعصف بالعالم، يبرز صوت الأطفال كأكثر الأصوات ضعفاً، ولكنه الأكثر ألماً أيضاً. أجرت المكتبة الوطنية الأمريكية للطب دراسةً تناولت تأثير الحرب والعدوان العسكري على الأطفال، لتظهر حقيقة مؤلمة: تُعدّ هذه الأوضاع انتهاكاً صارخاً لحقوقهم الأساسية.

تؤكد الدراسة أهمية التدخلات النفسية المتعددة المستويات التي تركز على احتياجات الأطفال وتكون واعيةً للصدمات التي تعرّضوا لها. من الضروري تقديم الموارد الأساسية لهم، لتساعدهم على استعادة الأمان الذي سُلب منهم.

وقد أظهرت الأبحاث أن البرامج الجماعية والعلاج النفسي الفردي يمكن أن تكون لهما تأثيرات إيجابية ملحوظة على صحتهم النفسية. في هذا الإطار، لا يمكن أن نغفل دور الآباء، الذين يحتاجون أيضاً إلى الدعم والتمكين في رعاية أطفالهم، كما أن إنشاء بيئات اجتماعية صحية يمكن أن يكون له تأثير كبير على قدرة الأطفال على التعافي أيضاً.

"بابا قلّي إتخيّل حالي عم بلعب ‘بابجي’ وما خاف. بس اللعبة بقدر وطّي الصوت أنا وعم بلعبها وبقدر وقّفها بس بدي، مش متل الحرب عند تيتا وجدّو"

بدورها، ترى الاختصاصية الاجتماعية ليال داغر، في حديثها إلى رصيف22، أن "التواصل مع الطفل في هذه الفترة الحرجة أمر ضروري جداً"، مشددةً على "ضرورة أن يُفكّر الأهل جيداً في كيفية التعامل مع أطفالهم الذين يعانون من الذعر أو الصدمة الناتجة عن الحروب".

وتضيف داغر: "يجب أن نكون واعين تماماً لحالة عقلهم الصغير. هم ليسوا مجهّزين بعد لتلقّي كميات كبيرة من المعلومات حول الوضع العام في البلاد أو حتى حول وضع عائلتهم."

تُبرز ليال أهمية الحفاظ على الحوار المفتوح، قائلةً: "يجب أن نشجع الأطفال على التعبير عن مشاعرهم، دون ضغط أو توجيه. علينا أن نكون مستمعين جيدين، ونساعدهم في فهم ما يجري بطريقة تتناسب مع أعمارهم."

قد لا تتسنّى رفاهية الحصول على دعم نفسي للجميع في زمن الحروب، إلا أنها من الأولويات التي على الأهل التفكير فيها لمصلحة أطفالهم في البلدان التي تواجه عدواناً معيّناً، مثل سوريا وفلسطين والعراق ولبنان.

وعن كيفية دعم هؤلاء الأطفال، تقول الاختصاصية النفسية مريم شدياق، التي لديها خبرة واسعة في التعامل مع الأطفال المتأثرين بالنزاعات: "من الضروري أن ندرك أن الأطفال في هذه الظروف يمرون بتجارب معقدة. مشاعر الخوف والقلق تتملكهم، وعليهم أن يتعاملوا مع واقع لم يكن في حسبانهم"، موضحةً أن "التواصل الفعّال هو المفتاح، إذ يجب على الأهل تقديم المعلومات بشكل يتناسب مع أعمارهم، ويكون موجهاً نحو تعزيز الأمان."

وتتطرّق شدياق، في حديثها إلى رصيف22، إلى أهمية توفير بيئة آمنة للأطفال: "يجب أن يشعر الأطفال بأنهم محميون. يمكن للأهالي خلق مساحات آمنة في المنازل، مثل تخصيص وقت للعب والتفاعل الإيجابي، ما يعزّز شعورهم بالأمان. أمّا في حال تعرّض الطفل إلى تروما معيّنة، يُصبح من الضروري مراجعة الاختصاصيين بما أنّه من الممكن أن يفقد حاسة النطق مثلاً أو يُفكّر في الانتحار وهنا الخطورة الحقيقية."

عن كيفية دعم الأهل في هذه الظروف، تجيب مريم: "الأهل بحاجة إلى أدوات فعّالة للتعامل مع مشاعر أطفالهم. من المهم تعليمهم كيفية التعرّف على إشارات القلق لدى أطفالهم والتفاعل معها بطريقة مناسبة. يجب أن يكونوا موجودين لدعمهم والاستماع إليهم."

تضيف: "كذلك، ينبغي أن تكون لدينا برامج دعم للأهالي، تساعدهم على فهم كيفية التعامل مع ضغوط الحرب، وكيفية التعامل مع مشاعر الخوف التي قد تنتابهم بسبب وضعهم. هذا الدعم ليس ضرورياً للأطفال فحسب، بل للآباء أيضاً."

باختصار، إن الحرب تُلحق الدمار بالجميع لكنها تصيب الطفولة بعمق خاص. الأطفال هم أول الضحايا وآخر من يتعافى من آثارها، إذ يعانون من خسائر نفسية وجسدية تفوق قدرتهم على التحمل. عندما تُسلب البراءة وتُستبدل بصور القصف والرعب واللجوء، فإن آثار الحرب تتجذر في حياتهم لسنوات قادمة، والأجيال التي كبرت وسط النزاعات تجد نفسها محاصرةً بمستقبل ضبابي، حيث التعليم يصبح رفاهيةً، واللعب ترفاً نادراً، والأمان حلماً بعيد المنال.

للأسف، في عالم يعاني من صراعات متواصلة، الأطفال هم الشهود الصامتون الذين يُنسى صوتهم في ضجيج المدافع.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image