مع ظهور شمس الصباح الأولى، كانت تجلس النازحة ميسون طعمة (38 عاماً) فوق حفرة رمال عميقة في مخيم النازحين في منطقة مواصي خان يونس. تبكي دون توقّف، بعد أن قضت ليلة كاملة تحفر الرمل بيديها وتسأل هنا وهناك علّها تجد جثامين أسرتها. لكن دون فائدة.
ابتلعت الرمال جثة شقيقة ميسون وأسرتها بالكامل، بعد أن دُفن مخيم للنازحين تحت الرمال جرّاء المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل بعد منتصف ليل الاثنين 10 آب/ أغسطس 2024 في المنطقة التي أعلنت قبل أشهر "منطقة إنسانية" غرب مدينة خان يونس، والتي تؤوي نحو 80 ألف نازح.
وبحسب المرصد الأورومتوسّطي لحقوق الإنسان، فإن القصف الإسرائيلي على المخيم تم بقنابل "إم كيه- 84" الأمريكية الصنع. وقد خلّف ثلاث حفر عميقة وصلت إلى 10 أمتار، دفنت معها مخيماً كاملاً احتوى على نحو 40 خيمة، وفقاً للدفاع المدني الفلسطيني.
تمزّقت أجساد النازحين، منهم من خرجوا قطعاً ومنهم من تبخّرت أجسادهم ولم يُعرف لهم أثر. وكان المكتب الإعلامي الحكومي في غزّة قد أكد في بيان أن 22 شهيداً لم يصلوا المستشفيات بعد أن ذابت جثامينهم. فيما أعلن الدفاع المدني عن انتشاله 40 شهيداً و60 جريحاً من منطقة القصف.
مخيّم كامل اختفى في لحظة
"قبل حدوث المجزرة بنصف ساعة، كنت أجلس مع شقيقتي وئام في خيمتها. قضينا وقتاً جميلاً. كانت تحكي لي عن تعبها وإرهاقها من النزوح وحلمها بالعودة إلى منزلها الذي نزحت منه قبل 8 شهور في مخيم الشاطئ غرب غزة"، تقول ميسون لرصيف22.
شعرت الأختان بالنعاس، فعادت ميسون إلى خيمتها لتنام. وعند منتصف الليل "شعرنا كأن زلزالاً ضرب المنطقة. غارة تلو أخرى. الرمال غطّت المخيم كأنها أمطار. ورائحة البارود في كل مكان"، تضيف.
علمت ميسون أن خيمة شقيقتها وأسرتها كانت ضمن الخيام التي استُهدفت، فهرعت مسرعة إلى المكان. تقول شارحة: "كنت أركض في الظلام وأتعثّر بجثث النازحين وأشلائهم الملقاة على الأرض. تعثرت بجثة كانت ممزقة من نصفها. لكن الشخص كان يصرخ لإنقاذه. ولم يره أحد".
وصلت ميسون مرتجفة، لا تسعفها قدماها على الحركة من شدة الخوف على شقيقتها وئام. فوجدت ثلاث حفر عميقة ولم تجد أثراً لخيمة أختها.
شرعت تحفر مع زوجها بأدوات بدائية، دون جدوى، ودون أثر للخيمة أو لجسد الشقيقة. لم يعد لديها شكّ بأن العائلة دُفنت بالكامل تحت التراب، أو ربما تبخّرت أو تناثرت أشلاءً.
كنت أركض في الظلام وأتعثّر بجثث النازحين وأشلائهم الملقاة على الأرض. تعثرت بجثة كانت ممزقة من نصفها. لكن الشخص كان يصرخ لإنقاذه. ولم يره أحد
"لا أريد شيئاً. أريد فقط أن أدفن جثمان شقيقتي في قبر مع أسرتها. الألم يأكل قلبي على أختي. كانت طيبة القلب ولم ترد شيئاً من الحياة سوى أن تعيش مع أبنائها الثلاثة وزوجها بأمان"، تقول ميسون.
ويقدر محمد بصل، المتحدث باسم الدفاع المدني، في بيان أن الصواريخ الارتجاجية الثقيلة المستخدمة فوق خيام مهترئة من القماش البالي والبلاستيك، أدت إلى إبادة مخيم بأكمله وإلى حفر الأرض بهذا العمق".
ذابت أجسادهم أو تفحّمت
يؤكد إسماعيل ثوابته، مدير عام مكتب الإعلام الحكومي في غزة، لرصيف22، أن "المجزرة خلفت عشرات شهداء. تم تسجيل 19 شهيداً منهم فقط في سجلات وزارة الصحة. أما بقية الشهداء فلم يصلوا إلينا. بالإضافة إلى 60 مصاباً وعشرات المفقودين".
ويشير ثوابتة إلى وجود 22 نازحاً بلّغ عنهم ذووهم ولم يتم العثور على جثامينهم، بعد يوم كامل من البحث المستمر من قبل أجهزة الدفاع المدني والإسعاف.
وفي زاوية أخرى من حفرة المجزرة، كان يجهش النازح علي إسماعيل (40 عاماً) بالبكاء، بوجه مغطى بالبارود والرماد.
"حرقوا أولادي وهم نائمون. النيران اشتعلت في الخيام التي كانوا نياماً فيها. قالوا لنا توجهوا إلى مواصي خان يونس حتى يقتلونا ويحرقونا ويدفنونا أحياءً"، يقول علي مشيراً إلى توجيهات الجيش الإسرائيلي التي أجبرت النازحين على التوجه من رفح إلى مواصي خان يونس.
فقد إسماعيل ابنه رامي (5 أعوام). وجده جثة محروقة بعد أن استدلّ عليه من إصبعه المبتورة بفعل إصابة تعرض لها في بداية الحرب. أما ابنه الآخر محمد فقد تعرض لحروق في جسده.
"لم أسمع أي صوت للصواريخ. كنت غارقاً بالنوم في الخيمة مع أبنائي. وفجأة استيقظت على صوت صراخ النازحين حولي وعلى الحريق الذي نشب في الخيام. ولم أجد أولادي. فصرت أركض بحثاً عنهم"، يقول إسماعيل لرصيف22.
ويردف: "توجه رجال الإسعاف إلى الحفرة للبحث عن الخيام المدفونة تحت الرمال. وتعاون معي النازحون لإطفاء الخيمة باستخدام أواني المطبخ والطناجر وملئها بالمياه".
فقد إسماعيل ابنه رامي (5 أعوام). وجده جثة محروقة بعد أن استدلّ عليه من إصبعه المبتورة بفعل إصابة تعرض لها في بداية الحرب. أما ابنه الآخر محمد فقد تعرض لحروق في جسده
"عثرت على ابني محمد يصرخ محروقاً. ثم عند الرابعة فجراً وجدت جثة ابني رامي بصعوبة"، يقول الأب بحرقة.
نزح إسماعيل إلى مخيم المواصي بعد أمر من الجيش الإسرائيلي. "هربنا من الموت إلى الموت. يدعي الجيش وجود أماكن آمنة لكنه يبيدنا. نجوت المرة الماضية من مجزرة المواصي لكني هذه المرة فقدت ابني البكر".
ويتابع متسائلاً: "ما ذنب أطفالنا وما ذنبنا؟ أطفالي كانوا نائمين بهدوء. نزحت بهم عشر مرات خلال سبعة شهور من مخيم جباليا إلى الجنوب حتى أحميهم".
أما عبد السلام ماضي، النازح من رفح، والذي يقيم داخل خيمة قريبة من أرض المجزرة، فنجا بأعجوبة. "ما حدث يشبه الأهوال يوم القيامة"، يقول لرصيف22.
ويضيف: "النازحون كانوا يركضون في المخيم في كل مكان. الأرض كانت تهتز تحتنا. لحظة الاستهداف طرنا من الخيمة ووجدنا أنفسنا في الخارج من شدة الانفجار. شظايا الصواريخ أصابت يد والدتي وأدت إلى بترها فوراً وهي نائمة".
"نجونا من الموت عدة مرات، وكل مرة كان يسقط أمامنا عشرات الشهداء في مخيمات النازحين. إلى أين أن نذهب؟ لا يوجد أمان بالمطلق. والجيش يكذب في قصة المناطق الآمنة في الجنوب"، يؤكد عبد السلام.
وأوضحت طواقم الإنقاذ لرصيف22 أنها لا تزال تعمل منذ ساعات المجزرة الأولى في البحث عن الشهداء وانتشالهم، بمعدات متواضعة جداً. وأنها في المقابل، تحتاج إلي تلبية إسعاف وإنقاذ مصابين آخرين في مناطق أخرى في جنوب القطاع تستهدفها إسرائيل.
مجزرة أخرى تبررها إسرائيل
فور حدوث المجزرة، برر الجيش الإسرائيلي في بيان له استهداف الخيام قائلاً "لقد اتخذنا خطوات لتقليل احتمالات إلحاق الأذى بالمدنيين"، وإن "الضربة جاءت بعد جمع معلومات استخباراتية من قبل قيادة المنطقة الجنوبية والشاباك، واستهدفت مجمعاً مخفياً تابعاً لحركة حماس".
وقال بيان الجيش إنه استهدف "قادة مركزيين في حماس من بينهم سامر إسماعيل خضر أبو دقة قائد المنظومة الجوية في كتائب القسام، وأسامة طبش رئيس دائرة المراقبة والأهداف في مقر المخابرات العسكرية التابعة للكتائب وأيمن مبحوح (وهو قيادي بارز فيها)"، مكذْباً "وقوع قتلى فلسطينيين".
لحظة الاستهداف طرنا من الخيمة ووجدنا أنفسنا في الخارج من شدة الانفجار. شظايا الصواريخ أصابت يد والدتي وأدت إلى بترها فوراً وهي نائمة
بينما قالت الحركة إن "ادّعاءات الجيش الإسرائيلي وجود عناصر من المقاومة في مكان الاستهداف هو كذب مفضوح، يسعى من خلالها لتبرير هذه الجرائم البشعة".
وأضاف البيان: "لقد أكدت المقاومة مراراً نفيها وجود أي من عناصرها بين التجمعات المدنية أو استخدام هذه الأماكن لأغراض عسكرية".
يُذكر أن هذه المجزرة هي الثانية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في منطقة مواصي خان يونس، التي أُعلنت منذ أشهر "منطقةً إنسانيةً". فقتل في المجزرة الأولى، صبيحة الثالث عشر من تموز/ يوليو الماضي، نحو 90 فلسطينياً، وأصاب نحو 300 آخرين.
وأكدت وسائل إعلام عبرية في حينه خبر تصفية محمد ضيف القائد العام لكتائب عز الدين القسام. بينما سارعت الحركة إلى التأكيد أن ضيف على قيد الحياة ومستمر في عمله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع