"رجل الخشب" فيلم روائي طويل بمثابة مغامرة؛ أن يمضي مخرج "رجل الخشب"، المخرج العراقي قتيبة الجنابي، إلى تضمين فيلمه رجلاً مصنوعاً من الخشب بقامة إنسان عادي، ليكون محور الحكاية كلها إلى جانب مالكة البيت (هانا هيفنر) -أي بيت في هذا العالم الفسيح (صُوّر الفيلم بكامله قرب الحدود الصربية-المجرية)- والجار الحارس المنوطة به حماية البيت (ميهالي بالكو)، بعد أن تقرر مالكته إثر مكالمات غامضة أن تعرضه للبيع، فتسلّمه المفتاح، وتمضي إلى أي مكان غير واضح، أو محدد الملامح لنا كمشاهدين على الأقل.
إذاً، يفترض الجنابي، للوهلة الأولى، أن فيلمه (72 دقيقةً)، يمكن أن يكون في أي مكان على هذه الأرض، وفي المتسع أن يقول أشياء كثيرةً، في الحقيقة قالها كلها لنا، نحن الذين نضرب في أرض الله الواسعة، لاجئين، ومنا من فقدوا طريقهم، ومن فقدوا حياتهم في الطريق، وآخرون استولوا على عرش اللجوء ليكملوا حياته قسراً أو استنساخاً لحياة من يعيشون بينهم.
في الحكاية، على غموضها، ثمة وضوح يسلّم خيوطه بالتدريج. لا يمكن أن يقال إن المغامرة الفيلمية لصاحب "الرحيل عن بغداد"، تعاند المشاهد، لكنها تخلق له طقساً مختلفاً للمشاهدة، فهاهنا تندمج عناصر الفيلم (صوتاً وصورةً ومونتاجاً خلّاقاً ومؤثرات صوتيةً؛ المونتاج للإنكليزي هيوغ ويليامز، وتصميم الصوت للّبنانية رنا عيد، والأزياء لعائشة الجنابي، والموسيقى لنديم مشلاوي)، كلها في جسم واحد، لكائن خشبي يُراد له أن يحيا بيننا، وأن يمتلك مشاعر مثلنا، وفي وسعه أن يئنّ مثل البشر، ويتقدَّم بخطوات وئيدة إلى الأمام، ويمكنه أن يختبئ عن أعين الناس، ويتوارى في العتمة، منذ أن غادر موطنه (الغابة) لاجئاً وسط أكوام الثلوج التي تميّز عادةً بلدان اللجوء.
أول صورة يخزّنها اللاجئ في ذاكرته، هي صورة الثلج، ذلك البياض المعاند، والمخالف لكل شيء يرنو إليه اللاجئ في رحلته (الأوذيسية) من دفء واستقرار وحرارة في المشاعر الإنسانية، قلما يحصل عليها في اغترابه عن أرضه الأولى. يقول الفيلم: لا أحد يولد ويرغب في أن يكون لاجئاً، لذلك فإن "رجل الخشب"، وزيادة "أل" التعريف تبدو ضروريةً هنا، بما أن ثيمة الفيلم تقصد بشراً لطالما اكتووا بنار اللجوء، حتى أننا بشيء من "التحريف"، يمكن أن ننشد مع الشاعر الجاهلي تميم بن مقبل:
ليت الفتى "خشبٌ"/تنبو عنه الحوادث وهو ملموم.
يفترض الجنابي أن فيلمه يمكن أن يكون في أي مكان على هذه الأرض، وفي المتسع أن يقول أشياء كثيرةً، في الحقيقة قالها كلها لنا، نحن الذين نضرب في أرض الله الواسعة، لاجئين، ومنا من فقدوا طريقهم، ومن فقدوا حياتهم في الطريق، وآخرون استولوا على عرش اللجوء
في الأصل "ليت الفتى حجرٌ"، لكن "رجل الخشب" الذي يستولي على مشاعرنا، يدفع بعضنا للقول: كم أنه ضروري في هذا الخلاء الموحش، القاسي، حيث تدور فصول الحكاية، أن يتحوَّل أي كائن منّا إلى جماد لا يُعوَّل عليه بشيء، ولا يتأثر بما يدور حوله في محيطه، فليس لهذه القسوة أن تزيد أو تخفف من قوة وسطوة المشاعر الإنسانية التي قد يحلم بها البعض عبثاً، بما فيها تلك الأصوات المفزعة لسيارات شرطة الحدود التي تقع ضمن اختصاصها مطاردة اللاجئين غير الشرعيين، وترويع السكان عمداً، بخلق عدو غير مرئي أمامهم، ومن وراء ظهورهم، من خلال توزيع المناشير على السكان، في حال لمحوا أي شيء مريب يمكن أن يتسلل إلى قريتهم، وتحذّرهم في الوقت نفسه من إيواء أي شخص غريب في بيوتهم بعقوبة السجن ودفع مبالغ كبيرة.
بل إن في وسع "المراقب" الذي يقوم بدور الأخ الأكبر هنا، دون رؤية خلقته بالطبع، أن يتصل على الهاتف الشخصي لكل امرئ في هذه البقعة الجغرافية المُتخَيَّلة ليؤكد له عزم الدولة على مكافحة سنن اللجوء غير الشرعي. متخيّلة؟ بالطبع هي كذلك، بل إنها فانتازية ومغرقة في سورياليتها، وقد لعبت الإضاءة التي اشتغل عليها الجنابي نفسه بحذق مدير تصوير متمرس دوراً كبيراً، كذلك التخطيط للإيقاع التشويقي اللاهث ساهم بدرجة كبيرة في بسط هيمنته على أجواء الفيلم، وساعد ذلك في محو الفارق بين ما هو واقعي، وما هو مُتخَيَّل في "جذور" الحكاية نفسها (الجنابي درس التصوير في هنغاريا وله باعٌ طويلٌ ومثمرٌ في التصوير الفوتوغرافي، وبسبب من عناده في ملاحقة مشاريعه السينمائية التي تمتلك خصوصيات، نادراً ما نعثر عليها عند سينمائي عربي، ظلَّ يعاني على الدوام في مسألة تمويل أفلامه، لكن هذا العناد "السينماتوغرافي" ساعده على أن يحتفظ برؤية مختلفة عما كل هو سائد، لجهة حكاية كل قصة من قصص أفلامه).
أين يمكن أن يكون موطن "رجل الخشب"؟ بالطبع في الغابة. قد يكون صنع نفسه بنفسه، من شجرة أو شجرتين، وربما أعاد تجميع سلاميات أصابعه التي سنشاهدها مرتين من أنواع أشجار مختلفة. المرة الأولى عندما تكتشف مالكة البيت الريفي وجوده متخفياً في زاوية من زوايا البيت، فتحرك هذه السلاميات، كما لو أنها تريد أن تنقل له مشاعرها هي بالذات، أو هي رسالة تضامن خفية معه، بأنها تحمل في أعماقها ربما مشاعر لاجئة من زمن ما غير معروف.
الأمر نفسه ينطبق على الحارس عندما يشعر بوجود شيء مريب في البيت الذي كُلّف بحراسته في غياب مالكته، فيكتشف وجوده وراء نافذة مزججة، فيقوم بالاقتراب منه ويطابق أصابع يده اليسرى على سلاميات رجل الخشب اليمنى، كما لو أنه يريد أن ينقل له الرسالة نفسها بنوع من التعاطف الذي صار مفقوداً بين البشر أنفسهم.
"رجل الخشب" الذي يستولي على مشاعرنا، يدفع بعضنا للقول: كم أنه ضروري في هذا الخلاء الموحش، القاسي، حيث تدور فصول الحكاية، أن يتحوَّل أي كائن منّا إلى جماد لا يُعوَّل عليه بشيء، ولا يتأثر بما يدور حوله في محيطه
هناك رسائل مختلفة يمكن لأي لاجئ أن ينقلها معه، لكن رجل الخشب الذي يتنقل في زوايا البيت التي يمكن أن تخفيه عن الأعين، لا يكفّ هو نفسه عن التلصص على مالكة البيت، قبل أن تضيق ذرعاً بأصوات سيارات البوليس، والطائرات المروحية، وتقرر النزوح من بيتها، بعد أن تكتشف عقم محاولاتها الصمت واستجداء الحنين إلى حياتها الأولى من خلال ألبوم الصور القديمة، وكأن وظيفة كل هذه الأصوات من حولها أن تطارد نفسياً كل لاجئ غير شرعي، أو يقع ضمن هذا المُسمَّى الفظّ، وتخلّف في الوقت عينه في السكان الأصليين جروحاً عميقةً قد لا تمحى مع مرور الوقت.
من هو حارس البيت في الفيلم؟ إنه رجل يؤدي أعمالاً بسيطةً، كأن يسنّ سكيناً على حجر الرحى، وربما يرهبه الشرر المتطاير منه، فيعود إلى صور الذكريات، ثم يتظاهر بالنوم على دكة سريره البارد. هو أيضاً يكاد يختنق عندما لا يجد حوله من سيقاسمه هذه الذكريات، لهذا يجد نفسه متورطاً في مشاعر سامية، ومتعاطفاً مع الرجل الخشبي، ويرغب فعلياً في مساعدته، وإعادته إلى موطنه الأول: الغابة الفسيحة التي قد تقع في أي مكان في هذا العالم، فليس هناك دولة بهذا الاسم، لكن الشريط الملوّن بالبرتقالي، واللون الأزرق الشاحب، وذلك البياض السديمي المفترس لا يضع نهايةً لتلك الرحلة: العودة الشرسة العكسية للّاجئين إلى أوطانهم، قد بدأت للتو، ولن تتوقف، فمن يرغب بالفعل في أن يكون لاجئاً من الآن فصاعداً؟! حتى رجل الخشب الذي نُحمّله آثامنا ببرود، يقرر العودة بصحبة حارس البيت، وها هو ممدد على المقعد الخلفي لسيارته، لكنه سيتلقَّى رصاصةً في رأسه من مصدر غامض، وينزف دماً وهو ملقى على العشب، فيما تكمل كاميرا قتيبة الجنابي التوغّل عميقاً في ذلك البياض غير المتناهي الذي وسم الفيلم بالكامل.
ها قد أتى بطلنا بفعل آدمي في النهاية، كأن لم يكن ممكناً تصوّر ذلك!
فيلم "رجل الخشب" ما زال يدور على المهرجانات، ويحصد الجوائز المختلفة، وبعضها من اليابان وإسبانيا على سبيل المثال، وقد عُرض على منصة "شاهد" في آذار/مارس الماضي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 9 ساعاتعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...