شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أشتغل اللي بحبه ولا اللي يجيب فلوس؟

أشتغل اللي بحبه ولا اللي يجيب فلوس؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 9 سبتمبر 202411:19 ص

أظن أن صديقي محمود لن يُحرج حين أذكر أن نتيجته في الثانوية العامة كانت 37%، وهي نتيجة ينافس بها الآن التيك توكر سوزي الأردنية، وبسبب هذا المجموع ظللنا نضحك عليه كثيراً، ونتنمّر عليه أحياناً، لكن بمرور السنوات، فعل محمود ما يحبّه، فدرس المونتاج وأصبح "مونتير" في كُبرى القنوات المصرية، ليؤكد لنا أن النجاح له ألف طريقة.

تذكّرت هذا، حين سألني أحد أقاربي الذي يستعدّ للالتحاق بالجامعة، أي كلية أفضل له؟ وحين جاوبته: "ماذا تحب؟"، كان حديثه كله عن فرص العمل المُتاحة، والرواتب المتوقعة إذا تخرّج من الكليات الملائمة لمجموعه، وعندما كرّرت سؤالي، ردّ عليّ مباشرة: "أنا هشتغل اللي يجيب فلوس مش اللي بحبه"، ثم أكمل: "ولا أنت إيه رأيك يا أستاذ؟".

لم يكن قريبي وحده من قرّر دراسة مجال مُجدٍ مالياً، بصرف النظر إن كان يُحبّه أو لا، ويمكن القول إن ذلك صار قناعة لدى كثيرين، أولهم رئيس الجمهورية الذي أعلن صراحة إنه لا فائدة من دراسة العلوم الإنسانية، مثل القانون والآداب، ومروراً بوزارة التربية والتعليم التي "طوّرت مناهجها"، فجعلت الفلسفة مادة غير أساسية، ووصولاً إلى "مدرّبي" التنمية البشرية ومن يعطون دورات لتأهيل الشباب لسوق العمل، وهؤلاء يتحفوننا، ليل نهار، بنصائح تؤكد أن واجبنا العمل 16 ساعة يومياً، وتعلّم أكثر من لغة، وتطوير المهارات، حتى نتمكّن من جني ألف دولار على الأقل شهرياً، أي نحو 48.600 جنيه مصري.

لست مثالياً لأقول إن المال ليس مهمّاً، لأنه مهم جداً، وفي عصرنا الحالي يكاد يكون الأهم، فقط مشكلتي أن كل ما يردّده هؤلاء، بداية من رئيس الجمهورية وحتى مدرّبي التنمية البشرية والأهالي أنفسهم، هو حديث خادع ومضلّل وسيدمّر أجيالاً على المدى القريب

ورغم أن التطوير مطلوب، وساعات العمل الطويلة ضرورة أحياناً، لكن هؤلاء يربطون النجاح والراتب الكبير بمهنٍ معينة، مثل "برمجة، صانع محتوى، بلوجرز، مندوب مبيعات خاصة العقارات"، وتكتمل الصورة أكثر بالأهالي أنفسهم، إذ باتوا ينفقون على أولادهم آلاف الجنيهات في الأندية والأكاديميات الرياضية، ليس حباً في الحياة الصحية والتوازن البيئي، ولكن أملاً في أن يصبحوا لاعبين أو لاعبات ويتقاضوا أموالاً ضخمة.

لا ألوم من ينساق وراء تلك القناعات، ولست مثالياً لأقول إن المال ليس مهمّاً، لأنه مهم جداً، وفي عصرنا الحالي يكاد يكون الأهم، فقط مشكلتي أن كل ما يردّده هؤلاء، بداية من رئيس الجمهورية وحتى مدربي التنمية البشرية والأهالي أنفسهم، هو حديث خادع ومضلّل وسيدمّر أجيالاً على المدى القريب.

فمن منطلق عقلاني، لو كان للنجاح طريق بعينه، مضمون النتائج، لهرول إليه الجميع، لكن الواقع يؤكد عكس ذلك. هناك الآلاف ممن دخلوا مجال البرمجة وفشلوا، أو على الأقل يتقاضون الآن رواتب عادية مثل غالبية المصريين، وهناك آلاف تدرّبوا في أندية وهم صِغار ولم يصبحوا لاعبين كِباراً، وهكذا في باقي القطاعات التي تُسوّق كطريق مختصر لجلب الأموال، أما من يصل ويحقق هدفه فهم قِلّة، وغالباً ما يكون ذلك نتيجة موهبتهم وتدريبهم الجيد.

وبما أن احتمالية الفشل تماثل احتمالية النجاح، وهو ما يسكت عنه كثيرون، فسؤالي: ماذا عن لحظة الفشل؟ أي ما شعور من تَرَك ما يحبّ، واستغنى عن شغفه كما باتوا ينصحون، مقابل أن يعمل في مهنة تجلب الأموال، ثم فوجئ في النهاية أن ما اختاره لم يحقق المطلوب؟ وكيف يشعر طفل سُحقت إرادته الإنسانية منذ الصِغر، فلم يُمنح حرية اختيار ما يريد، ثم تحمّل أعباء العمل الشاق أملاً في أن يصبح لاعباً، واكتشف لاحقاً إنه لا يصلح لذلك؟ ألا تكفي تلك اللحظة لتدمير أجيال بالكامل، أجيال لم تطل ما تُحب ولم تصل إلى ما تريد.

وعلى افتراض أن أغلبية من يلتحقون بمهن بعينها، وينفذون المطلوب، ويعملون 16 ساعة في اليوم، سينجحون في النهاية ويتقاضون رواتب تعادل أضعاف باقي العاملين في المهن الأخرى، فهل يُمكن أن نتخيل حياة هؤلاء؟ إنهم بالضبط سيتحولون إلى آلات تعمل لأكثر من ثلثي اليوم لترتاح في الثلث الباقي، ثم تكرّر ذلك في اليوم التالي، وهذا بالتأكيد سيؤثر على حياتهم الطبيعية، فلا ينعمون بما يحصدون، ولا يتمتعون بأزهى سنوات حياتهم، ومهما كان ما ستتقاضاه، فإحساسك طوال الوقت بأنك تفعل شيئاً لا تحبه سينتج عنه عدم رضى، قد يؤثر على صحتك النفسية ويجعلك تعيش صراعاً بين ما تريد وما تحب، وهذا له ثمن.

ثم، طالما احتمالية النجاح والفشل قائمة، وهؤلاء الناجحون يستطيعون العمل لمدد طويلة، وتحمّل الأعباء الشاقة والتطوير المستمر وإتقان اللغات، فلماذا لا يفعلون ذلك في المجالات التي يحبّونها، ووقتها سيتقاضون رواتب مرتفعة أيضاً، فهناك الطبيب المليونير والمدرّس المليونير والمحامي المليونير، هذا إن اعتبرنا أن المليون دليل ثراء في هذا الزمن.

ما شعور من تَرَك ما يحبّ، واستغنى عن شغفه كما باتوا ينصحون، مقابل أن يعمل في مهنة تجلب الأموال، ثم فوجئ في النهاية أن ما اختاره لم يحقق المطلوب؟

القصد إذا كان هؤلاء الناجحون لديهم القدرة على ذلك، فالطريق أمامهم سيكون متاحاً لتحقيق ما يريدون، ووقتها سيكسبون رضاهم النفسي لأنهم يفعلون ما حلموا به، هذا ما قلته لقريبي الذي بمجرد أن سألني "اللي بحبه واللا يجيب فلوس؟"، قلت: "ومن وضع هذا التضاد أصلاً؟ من ربط بين ما نحب والفقر؟"، فالسؤال نفسه خطأ، لكن هذا الخطأ صار صواب لدى كثيرين.

قلت لقريبي أيضاً إنني أعمل في الصحافة منذ 15 عام، وهناك زملاء تركوا المهنة بعد أن ضاقت بهم الأحوال، وانصرفوا إلى قطاعات أخرى، لكن بعد سنوات لم يتغير حالهم كثيراً مقارنة بالذين استمروا في الصحافة، فالوضع المادي متقارب، وحتى لو تحسّنت أحوالهم قليلاً، فهذا صاحبه شعورهم بالحنين الدائم إلى المهنة، كما أخبرته أن الشيء الوحيد الذي اعتزّ به في حياتي، أنني امتهنت المهنة التي أحبها، فلم أضطر إلى فعل شيء لا أريده، وذلك لا يعني أن سنوات عملي كلها جيدة، فمنها سنوات ضيق الرزق، ومنها سنوات اتحصّل فيها ما يكفي احتياجاتي بالكاد. كنت أتمنى قول وهناك "سنوات الثراء" لكني لا أحب الكذب، ثم ختمت حديثي: "لو سبت اللي بتحبه مش هتبقى نجيب ساويرس، يعني كلها محصلة بعضها".

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image