شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
إيران تحت

إيران تحت "قيادة" بزشكيان... مسكنات "خامنئية" مؤقتة أم إصلاحات حقيقية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 28 أغسطس 202402:32 م

في الخامس من تموز/ يوليو الماضي، انتُخب مسعود بزشكيان، جرّاح القلب والبرلماني المخضرم، رئيساً للجمهورية الإسلامية الإيرانية، واستطاع السياسي الإصلاحي غير المعروف، هزيمة منافسه الأصولي المتشدد والسياسي المقرّب من هياكل السلطة في طهران؛ سعيد جليلي، في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية المفاجئة التي تم إجراؤها في 28 حزيران/ يونيو الماضي، بعد الوفاة الغامضة للرئيس السابق إبراهيم رئيسي، إثر تحطّم مروحيته في أيار/ مايو 2024.

جاءت الموافقة على ترشيح مسعود پزشكيان، في هذه الانتخابات، من قبل مجلس صيانة الدستور، الهيئة المكلّفة بفحص أوراق جميع المرشحين للانتخابات في إيران، وهي مؤسسة يسيطر عليها المتشددون الموالون للسلطة، بمثابة مفاجأة تحمل الكثير من التكهنات، فبعد أن بذلت السلطة المحافظة في إيران كل جهدها لإقصاء الإصلاحيين على مدار السنوات الماضية، وزادت من قبضتها في الانتخابات البرلمانية لعامي 2020 و2024، وأيضاً في الانتخابات الرئاسية لعام 2021 التي فاز فيها إبراهيم رئيسي، ليسيطر المتشددون على السلطات الثلاث (التنفيذية، التشريعية، القضائية)، فاز سياسي إصلاحي بالسلطة التنفيذية في وقت صعب وغامض بالنسبة إلى إيران.

لماذا سمح خامنئي لبزشكيان بالفوز؟

عندما وافق مجلس صيانة الدستور على قبول أوراق ترشيح مسعود بزشكيان، اعتقد البعض أنها مجرد موافقة رمزية لشخصية إصلاحية من الدرجة الثانية، وليس لدى المعسكر الأصولي أي قلق من المرشح الجديد، لأنه وفقاً للإستراتيجية التي اتّبعتها السلطة في طهران في السنوات الماضية، لتمكين وتعزيز قبضة المتشددين، ليست لدى بزشكيان أي فرصة للفوز.

واعتقد آخرون أن موافقة مجلس صيانة الدستور عليه، جاءت لتحقيق هدف معيّن: إضفاء طابع التنافسية على الانتخابات الرئاسية، وضمان مشاركة الإصلاحيين الذين اشترطوا الموافقة على ثلاثة مرشحين من معسكرهم (كان من بينهم بزشكيان)، لتشجيع الناخبين اللامبالين على الذهاب إلى صناديق الاقتراع، فلطالما برهن النظام على شرعيته من خلال نسب الإقبال المرتفعة في الانتخابات الوطنية.

لكن بينما لم يتم تحقيق أيّ من هذه التكهنات، تمكّن بزشكيان من الفوز وهزيمة منافسيه المحافظين، وأيضاً لم يتحقق هدف المشاركة العالية في الانتخابات، فهذه الانتخابات شهدت أدنى نسبة تصويت في تاريخ الانتخابات الرئاسية في إيران منذ ثورة 1979، 39.9%، برغم أن هذا الرقم ارتفع في الجولة الثانية من الانتخابات، بمقدار 10% فقط. 

عندما وافق مجلس صيانة الدستور على ترشيح مسعود بزشكيان، اعتقد البعض أنها مجرد موافقة رمزية لشخصية إصلاحية من الدرجة الثانية، وليس لدى المعسكر الأصولي أي قلق من المرشح الجديد، لأنه ليست لديه أي فرصة للفوز

بعد إعلان فوزه، وقف بزشكيان على ضريح مؤسس الجمهورية الإسلامية روح الله الخميني، ليقول: "لولا دعم خامنئي لما خرج اسمي من صناديق الاقتراع"... إذاً وقبل تناول التحديات والفرص المتاحة أمام بزشكيان، يظهر سؤال مهم وهو: لماذا سمح القائد الأعلى في إيران علي خامنئي لبزشكيان بالفوز وتولّي منصب الرئيس؟ 

خلال حملته الانتخابية، أكد بزكشيان مراراً على ولائه للقائد الأعلى والتزامه بسياسات ومبادئ الجمهورية الإسلامية، وتلقّى دعماً من وسائل الإعلام التابعة لعلي خامنئي، فقد أجرى الموقع الرسمي للأخير مقابلةً مطولةً مع بزشكيان، ومسؤولين بارزين في مكتب خامنئي، المؤسسة التي يقال عنها إنها مركز حكومة الظل لأي حكومة منتخبة جاءت في إيران، حيث زاره محمدي كلبايكاني رئيس مكتب خامنئي، ونائبه علي أصغر حجازي.

وبينما يظل السبب الذي دفع خامنئي لدعم بزشكيان غامضاً، يمكن التكهن بأن المرشد رأى في الأخير فرصةً للجمهورية الإسلامية، لتحقيق الإصلاحات التي تضمن استمرار النظام لأطول فترة ممكنة، وليس العكس كما اعتقدت مؤسسات السلطة، بأن تعزيز قبضة الموالين للنظام على مقاليد الحكم هو الضامن الوحيد لبقاء الجمهورية الإسلامية.

في الماضي، حاول خامنئي تشكيل حكومة من أنصاره ومؤيدي الجمهورية الإسلامية ومبادئها، من خلال حكومات محمود أحمدي نجاد، وإبراهيم رئيسي، ولكن كلا الرجلين فشلا في تحقيق الهدف غير المعلن لخامنئي، بل اتجهت الأمور من سيئ إلى أسوأ، فعانت إيران في عهد أحمدي نجاد من سياسات اقتصادية شعبوية ساهمت في تدمير ما تبقّى من الاقتصاد الإيراني المتدهور بفعل العقوبات الدولية التي زادت في عهد أحمدي نجاد. وفي عهد إبراهيم رئيسي، شهدت البلاد أكبر موجة احتجاجية متمثلة في حركة "المرأة، الحياة، الحرية"، التي أعقبت وفاة الشابة مهسا أميني، بعد اعتقالها على يد دورية إرشاد، واحتجازها في مركز الشرطة. ولم يتمكن رئيسي من إحياء الاتفاق النووي لعام 2015، لإنهاء عزلتها الدولية.

يمكن للمرء أن يتكهن بأن خامنئي الذي يبلغ من العمر 85 عاماً، أراد تغيير المسار هذه المرة، وجاءت الفرصة الذهبية بوفاة رئيسي، فمن ناحية هو يريد تحقيق استقرار داخلي حتى وإن كان نسبياً، من خلال رئيس إصلاحي وإن كان إصلاحياً محافظاً كما وصف بزشكيان نفسه ذات مرة، والعمل على تقليل العزلة الدولية عن إيران والتوصل إلى صفقة نووية مع الولايات المتحدة والغرب لوقف تدهور الاقتصاد الإيراني، ورفع مستوى توقعات الإيرانيين وسط حالة خيبة الأمل المستمرة منذ سنوات.

لكن لا يعني هذا، التفاؤل أو توقّع الكثير من الرئيس الجديد، فليس من المتوقع أن تكون لدى خامنئي أي نية في إحداث إصلاحات جذرية شاملة، وإنما اللجوء إلى المسكّنات من خلال إجراء إصلاحات شكلية وتهدئة الأوضاع الداخلية والخارجية، ولا يمكن توقّع أن يكون بزشكيان هو المقاتل الإصلاحي الشرس الذي سيأتي لخوض كل المعارك من أجل تحقيق إصلاحات جذرية والخروج عن مبادئ الحكم في إيران.

ما الذي ننتظره من مسعود بزشكيان، إذاً؟

التحديات والعقبات

يتولى الرئيس الإيراني الجديد منصبه بعد أن تعهّد بأمرين، الأول: أنه لن يطلق وعوداً لا يستطيع الوفاء بها، والثاني أنه سيسعى إلى التغيير وتحقيق التماسك السياسي، وحل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وفقاً للصلاحيات الممنوحة له.

خلال السنوات الأربع الماضية، وفي عهد رئيسي، نجح المتشددون في تعزيز قبضتهم واستبعاد أي صوت معارض سواء كان إصلاحياً أو معتدلاً، لكن هذا النهج كشف عن عيوب قاتلة في النظام، فقد زاد السخط الشعبي الذي وصل إلى قمته في احتجاجات أيلول/ سبتمبر 2022، والتي قامت الحكومة الإيرانية بقمعها باستخدام القوة، وتناقص أي أمل في حدوث تحسن اقتصادي قريب، وتدهورت العملة وارتفعت معدلات التضخم، ناهيك عن زيادة حدّة الصراعات الداخلية في دوائر السلطة، حيث تنافس كل طرف من الأصوليين والمتشددين على المزيد من النفوذ. 

أراد خامنئي تغيير المسار، فمن ناحية هو يريد تحقيق استقرار داخلي، ومن ناحية أخرى تقليل العزلة الدولية والتوصل إلى صفقة نووية، وجاء موت رئيسي فرصة مواتية. 

وجاء بزشكيان ليتولى إدارة الجمهورية الإسلامية في وقت عصيب، وسيطرة هائلة للمتشددين أيديولوجياً، وعلى الرغم من أن خبرته الإدارية منخفضة جداً، إلا أنه أدرك بذكاء أنه لن يتمكن من الوقوف أمام طبقات من المؤسسات غير المنتخبة التي يسيطر عليها المتشددون، وأنه لن يستطيع إجراء تغيير جذري حتى في ظل الصلاحيات الممنوحة للرئيس، لذلك حاول قدر الإمكان خلال حملته الانتخابية إدارة التوقعات بشأن ما يمكنه تحقيقه، فقد قلل في خطاباته من إمكانية إحداث تغييرات كبيرة في السياستين الخارجية والداخلية، وأقرّ بحدود سلطته.

لكن في الوقت نفسه، فإن الدعم المُقدّم له من قبل أعلى سلطة في البلاد علي خامنئي، يمنحه فرصةً أفضل لتخفيف حدّة السخط وإرضاء قطاعات كبيرة نسبياً من الشعب الإيراني.

أول قضية ستكون أمام بزشكيان في ما يخص السياسة الداخلية، والتي زادت حدّتها في عهد سلفه، هي قضية التطبيق العنيف لقانون الحجاب الإلزامي. خلال حملته الانتخابية، قال بزشكيان إن حكومته ستقف ضد التعامل العنيف لدوريات الإرشاد التي تتولى إنفاذ قانون اللباس الإسلامي في الشوارع. 

لكن النجاح في هذه المهمة ليس سهلاً كما قال بزشكيان، لأنه بحسب العديد من المسؤولين، فإن قضية فرض اللباس الإسلامي قضية مهمة بالنسبة لخامنئي شخصياً، وأي رئيس إيراني لا يستطيع إلغاء عمل دوريات الإرشاد أو إلغاء قانون الحجاب الإلزامي من أساسه، وبالرغم من أن بزشكيان قال إنه ضد إكراه الناس على التعاليم الدينية إلا أنه أيّد الحجاب الإسلامي.

لكن من الممكن لبزشكيان أن يحصل على الضوء الأخضر من خامنئي، لتخفيف عمل دوريات الإرشاد وتقليل تواجدها في الشوارع، وترك النساء المخالفات لقانون الحجاب الإلزامي دون ملاحقة أمنية واسعة النطاق كما حدث في عهد إبراهيم رئيسي.

هذا التخفيف شهدناه في عهد الرئيس المعتدل حسن روحاني (2013-2021)، فلم نسمع إلا في مرات قليلة عن تعامل عنيف مع النساء في الشوارع من قبل دوريات الإرشاد، واستطاع روحاني آنذاك تقليل حدّة تطبيق قانون الحجاب الإلزامي وتالياً تقليل المواجهات بين النساء ودوريات الإرشاد.

القضية الثانية العاجلة أمام مزشكيان وحكومته، هي إنهاء القيود المفروضة على الإنترنت في إيران، إذ عمل المتشددون منذ سنوات على خطة محكمة لفرض العديد من القيود على الوصول إلى الإنترنت، فضلاً عن حجب تطبيقات التواصل الاجتماعي الأجنبية، وصرفت الحكومات المحافظة المتعاقبة ملايين الدولارات على خلق منصات تواصل اجتماعي محلية مراقبة بالكامل، بالإضافة إلى الاستمرار في إنشاء شبكة إنترنت محلية، على خطى الحكومة الصينية.

وبحسب وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في عهد إبراهيم رئيسي، فإن مسألة تقييد الإنترنت يتولاها مجلس مكوّن من 13 عضواً، 6 منهم فقط من الحكومة وبقية الأعضاء يتم تعيينهم من المؤسسات غير المنتخبة في إيران ويتمتعون بسلطة أكبر من سلطة ممثلي الحكومة.

وقال عيسى زارع بور وزير في مقابلة تلفزيونية: "إن إزالة تقييد الإنترنت وحجب منصات التواصل الاجتماعي ليسا في يد أي حكومة. هناك مسؤولون في لجنة تقييد الإنترنت يتخذون القرارات وهم من يتحكمون في أي خدمة يمكن إتاحتها وأي واحدة يتم حجبها".

وليس من الواضح كيف يمكن لبزشكيان أن يقف في وجه لجنة تقييد الإنترنت التي يبدو أنها تتمتع بسلطات أكبر من سلطات الحكومة، لكن في الوقت نفسه، يمكن الإشارة على سبيل المثال إلى قيام وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في حكومة حسن روحاني، جهرمي آذري، الشاب المعتدل الذي يكرهه المتشددون، بالوقوف في وجه اللجنة لمنع حجب تطبيق الإنستغرام، بالرغم من أنه واجه معارضةً شرسةً. 

وأشار بزشكيان في أثناء حملته الانتخابية إلى إستراتيجيته العامة للحكم المتمثلة في بناء الإجماع والجدارة والخبرة التكنوقراطية. ولم يعلن عن خطة واضحة لتحقيق التماسك والوحدة بين مختلف الفصائل السياسية، ومن غير المرجح أن ينجح بزشكيان في عكس العداء التاريخي بين الأصوليين والإصلاحيين، وإيجاد أرضية مشتركة لتقريب وجهات النظر، في ظل الانقسامات داخل المعسكر الأصولي ومعارضتهم الشرسة لأي فصيل مختلف عنهم أيديولوجياً، فقد بدأوا بمهاجمة بزشكيان بعد فوزه في الانتخابات.

أما بالنسبة إلى قضية تحسين الاقتصاد الإيراني، وهي قضية مرتبطة بالسياسة الخارجية لطهران، فيرث بزشكيان إرثاً ثقيلاً من رئيسي، فالعقوبات المفروضة على إيران قد تضاعفت، وتصدير النفط الإيراني إلى الصين بأسعار مخفضة للغاية فتح الباب أمام إهدار المال العام وصعود مكثّف لعصابات التهريب، وقد وجه بزشكيان خلال المناظرات الرئاسية المتلفزة انتقادات حادةً إلى الوضع الاقتصادي، وقال إن جزءاً كبيراً من تدهور الاقتصاد سببه الاعتماد على أشخاص غير مؤهلين، ودافع عن ضرورة رفع العقوبات لتحسين الاقتصاد الإيراني.

ويُمثّل اعتراف بزشكيان بالوضع الاقتصادي المزري، تحولاً عن سياسة إبراهيم رئيسي الذي رأى أن تنفيذ سياسات اقتصاد المقاومة الإستراتيجية التي أطلقها خامنئي منذ سنوات طويلة، من الممكن أن تنهض بالاقتصاد الإيراني برغم العقوبات الاقتصادية، وهو ما يُسلّط الضوء على أهمية العلاقة بين الضرورات الداخلية والسياسة الخارجية لإيران.

ومن هنا تأتي أهمية نظرة بزشكيان إلى تهدئة السياسة الخارجية الإيرانية، فعلى الرغم من أنه يدرك تمام الإدراك أن القرار الأخير في الشؤون الخارجية لإيران في يد خامنئي والحرس الثوري المسؤول عن السياسات الاقليمية بشكل خاص، إلا أنه يأمل في الحصول على بعض من "المرونة البطولية" التي تحلّى بها خامنئي من قبل، في عهد الرئيس السابق حسن روحاني، والتي على أثرها وقّعت الحكومة الإيرانية الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة والغرب في عام 2015.

لكن حتى لو حصل بزشكيان على دعم خامنئي والضوء الأخضر لاستئناف المفاوضات النووية مع الغرب للتوصل إلى صفقة مناسبة يكون من شأنها تخفيف حدة العقوبات الاقتصادية المفروضة على ايران، فإنه سيواجه الكثير من العقبات أهمها: حرب غزّة وما تلاها من خروج حرب الظل بين إسرائيل وإيران إلى العلن، فالعالم ينتظر الرد الإيراني على اغتيال إسرائيل لإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الفلسطينية، في طهران، وبالطبع فإن هذه الأمور تؤثر على إمكانية عودة طهران وواشنطن إلى طاولة المفاوضات، بالإضافة إلى إمكانية فوز دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وهو الذي سحب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران في أيار/ مايو 2018. 

ورث بزشكيان إرثاً ثقيلاً من رئيسي كون العقوبات المفروضة على إيران قد تضاعفت، لذا مثّل اعترافه بالوضع الاقتصادي المزري، تحولاً عن سياسة رئيسي الذي رأى أن تنفيذ سياسات اقتصاد المقاومة التي أطلقها خامنئي منذ سنوات طويلة، من الممكن أن تنهض بالاقتصاد الإيراني  

كما أنه من المتوقع أن يلقى بزشكيان مواجهةً عنيفةً مم العناصر المتشددة في البرلمان الإيراني الذين سيحاولون كبح جماحه بشتى الطرق، ومواجهةً أخرى مع "حكومة الظل" التي أسسها المتشددون لتخريب أي محاولة إصلاح لأي رئيس منتخب، ومثال على ذلك ما فعلته حكومة الظل بقيادة المتشدد سعيد جليلي، في عهد روحاني، وسعيها لإفشال توقيع الاتفاق النووي عام 2013، وهو ما تكرر في حكومة حليفهم إبراهيم رئيسي الذي كانت حكومته على وشك التوقيع على صفقة مع واشنطن والقوى العالمية لإحياء الاتفاق النووي في نهاية عام 2022، لكن حكومة الظل سعت بشتى الطرق إلى إفشال هذه الصفقة من منطلق معارضتها لأي اتفاق مع الغرب من شأنه أن يقوّض البرنامج النووي الإيراني.

لكن ما زال بزشكيان يمتلك القدرة على توجيه السياسة الخارجية نحو البراغماتية والابتعاد عن العدوانية، ففي أحد خطاباته خلال حملته الانتخابية قال: "لم تزدهر أي حكومة في التاريخ وهي في قفص"، في إشارة إلى العقوبات الاقتصادية وعزلة إيران الدولية.

كما يمكن لحكومة بزشكيان التمتع بالأدوات المتاحة لها في السياسة الخارجية، خاصةً أنها تحظى بدعم خامنئي، مع إشارة إلى أن فريق السياسة الخارجية لبزشكيان يترأسه عباس عراقجي الدبلوماسي الذي كان مهندس الاتفاق النووي عام 2015.

خيبة أمل مبكرة؟

"لا تدفعوني إلى فتح فمي، والقول إن جميع وزراء حكومتي تمت الموافقة عليهم من قبل الزعيم الأعلى والمؤسسات الاستخباراتية والأمنية. صوّتوا ودعونا نذهب"؛ ألقى بزشكيان هذه الكلمات أمام البرلمان في أثناء التصويت على وزراء حكومته الذين قدّمهم إلى البرلمان في 11 آب/ أغسطس الجاري، ومنح البرلمان ثقته لجميع الوزراء في 22 منه.

لكن اختيار أعضاء حكومته كان بمثابة خيبة أمل مبكرة لأنصاره ولأغلب الإيرانيين حتى الذين لم يتوقعوا منه شيئاً. فور تنصيبه عيّن بزشكيان وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف نائباً إستراتيجياً له، ورئيساً للّجنة الانتقالية الإستراتيجية وهي لجنة لفحص المرشحين الوزاريين وترشيحهم للرئيس للاختيار بينهم. وكان بزشكيان قد أكد في حملته الانتخابية، وكذلك فعل جواد ظريف، أن الحكومة المستقبلية ستكون أكثر شباباً وشمولاً، وستضم النساء والأقليات الدينية والعرقية.

لكن عندما ذهب بزشكيان إلى البرلمان لعرض وزرائه المرشحين، أعلن جواد ظريف استقالته من أي منصب حكومي، وأنه سيعود للتدريس في جامعة طهران، وقالت العديد من المصادر الإيرانية إن استقالة ظريف سببها خيبة أمله من قرار بزشكيان بتجاهل توصيات فريق الانتقال الإستراتيجي إلى حد كبير. وفسر البعض استقالة ظريف بأنها جاءت بسبب الضغوط التي تعرّض لها بزشكيان لاختيار وزراء آخرين للضغط على ظريف ودفعه للاستقالة.

اتسمت بداية الحملة الانتخابية لمسعود بزشكيان، بالبطء والجمود، وعدم القدرة على التواصل مع جيل الشباب، لكن فور انضمام جواد ظريف إليها تغيّرت الأمور، واتّسع نطاق الحملة الانتخابية، وظريف واحد من السياسيين الإيرانيين القلائل الذين ما زالوا يتمتعون بقاعدة جماهيرية، إلى درجة أن البعض في إيران يقول إن الناس انتخبوا ظريف وليس بزشكيان. لذلك فإن استقالة ظريف في بداية الطريق كانت خيبة أمل واسعة النطاق إزاء اختيارات الرئيس الجديد لحكومته.

وجرت العادة في إيران، أنّ أي رئيس جديد لا بد أن يناقش حكومته المقترحة مع القائد الأعلى، بالإضافة إلى اختيار الأخير عدداً من الوزراء للوزارات المهمة مثل الداخلية والاستخبارات والثقافة والإرشاد الإسلامي.

في الماضي، كانت الخلافات بين الرئيس الجديد والقائد الأعلى والمؤسسات غير المنتخبة تبدأ من لحظة تشكيل الحكومة، لكن على النقيض من ذلك كانت حكومة بزشكيان الذي أعلن بنفسه أن جميع وزرائه حصلوا على موافقة خامنئي والجهات الاستخباراتية والأمنية.

ومن الممكن تفسير خطوته هذه بأنها محاولة لتمرير حكومته في البرلمان المتشدد بسهولة، أو للحدّ من التوتر بين مؤسسات الدولة المنتخبة ومؤسساتها غير المنتخبة، لكنها في الوقت نفسه خطوة تتعارض مع وعوده بتشكيل حكومة شابة وشاملة وتكنوقراطية.

على سبيل المثال، اختار بزشكيان وزير الاستخبارات إسماعيل خطيب، وهو الوزير الذي عمل في حكومة إبراهيم رئيسي، والذي قال قبل أيام قليلة من اغتيال إسماعيل هنية في طهران، إن وزارته نجحت في تفكيك أكبر خلية تسلل في البلاد تعمل لصالح اسرائيل، و"تسلل" مفردة تُستخدم في أدبيات السياسة الإيرانية للإشارة إلى الاختراق الأمني والاستخباراتي.

كما اختار بزشكيان، إسكندر مؤمني وزيراً للداخلية وهو قائد سابق في الحرس الثوري، ورجل متشدد وكان نائباً لرئيس الشرطة الوطنية خلال احتجاجات تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، التي قمعتها الشرطة بعنف ودموية، وصرّح قائلاً بعد قمع الاحتجاجات حينها: "لقد أضافت الشرطة ميداليةً ذهبيةً أخرى إلى تاريخ شرفها خلال أعمال الشغب الأخيرة". 

عندما عرض بزشكيان على البرلمان وزرائه المرشحين، أعلن جواد ظريف استقالته، وقالت مصادر إيرانية إن سبب استقالته خيبة أمله من قرار بزشكيان بتجاهل توصيات فريق الانتقال الإستراتيجي. 

كما اختار بزشكيان، علي رضا كاظمي وزيراً للتربية والتعليم، وهو رجل تلقّى تعليماً دينياً وأكمل تعليمه الجامعي وشارك في الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات، وتولّى مناصب عديدةً داخل وزارة التربية والتعليم، وله تصريح عندما كان مدير عام الثقافة في الوزارة في عهد إبراهيم رئيسي، قال فيه: "لقد أمضيت عشرات الساعات في تجميع محتوى الحجاب في الكتب المدرسية، وإدراج هذا الموضوع ضمن 11 كتاباً مدرسياً"، وعلي رضا كاظمي هو شقيق محمد كاظمي رئيس منظمة استخبارات الحرس الثوري.

حكومة بزشكيان ليست حكومةً شابةً ولا شاملةً للأقليات الدينية والعرقية، كما وعد في السابق، وأغلب وزرائها ينتمون إلى المعسكر الأصولي، وحتى الوزراء الإصلاحيون ليسوا من سياسيي الصف الأول في المعسكر الإصلاحي، فعلى سبيل المثال، اختار عبد الناصر همتي وزيراً للمالية وهو من التيار المعتدل الوسطي في المعسكر الإصلاحي مثل بزشكيان.

وصف البعض حكومة بزشكيان بأن لديها نقاط ضعف عديدة، وفي هذا الصدد يقول الصحافي الإيراني علي أفشاري، في مقال له: "حكومة غير سياسية مثل بزشكيان ليس لديها سجل سياسي كبير، كما أن وزراء الداخلية والاستخبارات والعدل لديهم تاريخ سيئ في قمع الحركات الاحتجاجية. هي حكومة مُسنّة لا يمكنها التواصل مع جيل الشباب، فمتوسط أعمار أعضائها 60 عاماً، بالإضافة إلى أنها حكومة غير متّسقة وهذا الأمر يمكن أن يمنع وجود أي اتجاه موحد ورؤية مشتركة للحكومة".

ما القادم؟

صحيح أن بزشكيان لم يقدّم وعوداً كبيرةً، ولا يُتوقع منه إحداث تغيير جذري داخل إيران أو خارجها، ولكن يمكن لهذين الأمرين أن يمنحا الرئيس مساحةً للمناورة، وإذا حاول تحقيق نجاح ملموس في بعض الملفات سابقة الذكر، فسوف يتعين على القائد الأعلى للجمهورية الإسلامية منحه القليل من الحرية وكبح جماح أنصاره من المتشددين. وإذا نجحت حكومة بزشكيان في تأمين بعض المكاسب على الأقل في قضايا مثل تخفيف القيود الاجتماعية والقيود المفروضة على الإنترنت، فقد تتمكن من كسب مساحة أكبر للتنفس من أجل المضي قدماً في إجراء الإصلاحات الاقتصادية التي طال انتظارها.

ستكون الأشهر القليلة المقبلة بمثابة اختبار صعب وحاسم لنهج بزشكيان الذي يسير على حبل مشدود منذ اليوم الأول له في منصبه، وسيكون من الخطأ توقّع فشله في تغيير كل شيء أو نجاحه في تغيير جذري.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard