هل فقدت منازل السوريين استقرارها لدرجة أن أبناءها لم يعودوا يحبون العودة إليها؟ فكل أبناء جيلي، ولدى الافتراق عائدين من العمل أو المشوار أو السفر، يقولون جملة واحدة: "مو جاي عبالي إرجع عالبيت".
الطاقة السلبية والأجواء المشحونة أصبحت السمات الغالبة على المنازل السورية، وكأن الحرب سحبت روح العائلة، لتتحول إلى حلبة صراع مستمرة بين ضغوط اقتصادية واجتماعية، ولتغير في شكل الأفراد وسلوكهم، وتفرز علاقات عاطفية غير مستقرة. وكل هذا بالإضافة إلى ضغوط العمل اليومية.
يضاف إلى ما سبق وسائل التواصل الاجتماعي، وهي وحدها كفيلة بأن تفرق عالماً بأسره. فإذا دخلنا أحد المنازل حيث تتجمع العائلة، خاصة في ساعات المساء، فسنجد كل فرد من أفراد الأسرة منهمكًا في النظر إلى هاتفه المحمول، والصمت يعم المكان. وفي المقابل يحدث العكس إذا طُرح أي موضوع للنقاش.
اللعنة الأولى... الهواتف المحمولة
لقد صارت غرفة الجلوس السورية أشبه ببرنامج "الاتجاه المعاكس" في حال قررت العائلة ترك الهواتف جانباً والتحدث، حينها سيعلو صوت واحد: "صوت الخلاف"، أو ربما صوت التذمر من غلاء المعيشة وضيق سبل العيش، الفواتير، اختلافات الرأي. ولا أعلم إن كانت الشخصيات قد تغيرت وأصبحنا نميل إلى الصمت أكثر، أم أن هناك مشكلة حقيقية في أدوات حوارنا. أو ربما خضنا الواقع المحيط بنا بالكثير من الضغوط حتى أصبحنا لا نجد سوى الجدال والصراخ، أو حتى الاغتراب.
الحرب، والصعوبات الاقتصادية، وكذلك الاجتماعية، وغلاء المعيشة وظهور الهواتف المحمولة كلّها أثرت على النمط الاجتماعي المسالم للعائلة السورية، فتغيّر كل شيء.
يبدو أن الحياة أغرقتنا بمشاكلها الكبيرة حتى أصبحنا لا نعرف كيف يدار الحوار الهادئ. وفي المقابل، لا يمكن إنكار أن بعض جلسات المساء بعد أيام طويلة من التعب في نهاية الأسبوع قد تحقق نتيجة مغايرة، حين يكون الجميع على موعد مع راحة مؤقتة، وقد يكون اللجوء إلى الأخوة في مساء يوم متعب أمرًا لا بد منه.
لكن ماذا عن ألعاب العائلة السعيدة التي استبدلت "بلوح محمول"؟ فمنذ سنوات ليست بعيدة، كنا صغاراً وكان حلم العائلة السعيدة الصغيرة يرافقنا يومياً. بيت هادئ، أم وأب، وأخوة كثر نلعب معاً ألعاباً بسيطة مثل "الغميضة"، "الجري"، أو "دقة عيش" كما نسميها في أحياء دمشق. حالنا حال كل الصغار في المحافظات الأخرى، حيث كان الأخوة يقضون ساعات طويلة دون الإحساس بالملل.
أما اليوم، فقد تبدل كل ذلك بلوح واحد فقط يلتقطه الأطفال فور استيقاظهم، ولا يتركونه حتى ساعات الليل الأخيرة. هنا تبدأ مهمة الأهل الصعبة في البحث عن نشاطات لملء هذا الوقت والاستعاضة عن الهاتف المحمول بأي نشاط آخر.
اللعنة الثانية... الإنستغرام السوري
البيوت أصبحت مرآة للإنستغرام إذا أمعننا النظر، سنجد أن مظهرها قد تغير، ألوانها متأثرة بالكثير من الفخامة التي تروج لها منشورات الإنستغرام. فإن كنت من الطبقة المخملية أو من "الإنستغرامية البلوغرية"، فسيكون أثاث منزلك محدداً بالكثير من الشاشات والإكسسوارات واللوحات، وكأن البيوت تحولت لتكون مرآة للإنستغرام.
لقد صارت غرفة الجلوس السورية أشبه ببرنامج "الاتجاه المعاكس" في حال قررت العائلة ترك الهواتف جانباً والتحدث، حينها سيعلو صوت واحد: "صوت الخلاف"
وفي المقابل، هناك من يتصفح هذا الموقع لساعات طويلة، مما يسبب له كآبة من الواقع الذي يعيش فيه، وكأن المنازل لم تعد تحقق الغاية التي خُلقت من أجلها وهي الأمان فقط.
حمى الفيديوهات والصوت المرتفع تصيب الأهالي الذين تغيروا بشكل جذري، فإن دخلت اليوم لأحد المنازل ستجد الأم أو الأب يمسك بهاتفه المحمول، وصوت الفيديوهات عالياً ولا يتوقف، وكأنه يقول: "استسلمت للأمر الواقع، ولم تعد لي رغبة في التحدث مع أحد أو محاولة إصلاح أحد". فتحولت المنازل كلها إلى "حارة كل مين إيدو إلو" التي تحدث عنها دريد لحام في مسلسل "صح النوم".
لكن، لا بد أن في داخل كل منهم شخصية رافضة لهذا الواقع، والدليل على ذلك أن سؤالاً واحداً كفيل بفتح أحاديث لا متناهية. لذا، أعتقد أن الظروف، والحياة، والتطور ظلمت هذه المؤسسة التي تُسمى "العائلة".
اللعنة الثالثة... الحرب
البحث عن لحظات صفاء في ظل الصراعات ورغم وعصر السرعة والذكاء الاصطناعي والضغوطات النفسية حوّلت معظم سكان البيوت السورية إلى "نادبين" من الأم والأب وصولاً إلى أصغر فرد في العائلة، ما زال هناك من يبحث عن لحظات صفاء حقيقية مع العائلة. وهناك فرد واحد على الأقل ما زال يرغب في جمع العائلة على فيلم، أو في عطلة نهاية الأسبوع، أو على سفرة الطعام.
المنازل والحياة في سوريا لم تعد تشبه مسلسل "الفصول الأربعة" في حكايتها، بل هي فصل طويل واحد لم نعرف غيره منذ سنوات، والنتيجة واحدة: صراع مستمر.
نجده، إن صمت الجميع، يدعوهم لفتح حديث، وإن اختلفوا، يبادر لحل المشكلة، يمكن القول إن جميع من حولي يبحثون عن مسلسل "الفصول الأربعة"، عائلاته، تفاصيله، ألوانه، يبحثون عن دفء انحسر واختفى وربما تلاشى مع الأيام، عن أحاديث مطولة تجمع العائلة يوم الخميس في بيت واحد. ولكن المعضلة الأكبر هي أن لا أحد يرغب في ممارسة سلوك واحد يشابه سلوك عائلات تلك الفترة.
وإن قاربنا المشهد بالزمن ذاك، سنجد أن المعادلة غير ناجحة بالمطلق؛ فالمنازل والحياة لم تعد تشبه مسلسل "الفصول الأربعة" في حكايتها، بل هي فصل طويل واحد لم نعرف غيره منذ سنوات. قد تختلف شدته وتقل، ولكن النتيجة واحدة: صراع مستمر من أجل البقاء في ظل كل الصعوبات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.