شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
كرسيّ الولادة وآلهة حامية... هكذا كانت تجري عمليات الولادة في مصر القديمة

كرسيّ الولادة وآلهة حامية... هكذا كانت تجري عمليات الولادة في مصر القديمة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الأحد 22 سبتمبر 202401:00 م

عُرف عن القدماء المصريين تميّزهم في كل شيء، إذ لم يتوقف الأمر عند ما شيّدوه من مبانٍ تمثّلت في الأهرامات و"أبو الهول"، وبعض الآثار العديدة في المتاحف المصرية، إنما طال أيضاً كل ما يخصّ الإنسان في حياته الشخصية، ومنها بالطبع أدوات ولادة الأطفال، وأبرزها ما يُسمّى بـ"كرسيّ الولادة".

كيف كانت تتم عملية الولادة؟

في كتابه "الأسرة أيام الفراعنة"، يقول الدكتور زاهي حواس، إن المسؤولة عن توليد المرأة كانت سيدةً تُعرف باسم القابلة، موضحاً: "أما عن عملية الولادة نفسها، فقد عرفنا كيفية إتمامها من خلال المناظر المرسومة على جدران المعابد التي ترجع إلى العصر البطلمي، وهي تصوّر الأم جالسةً على هيئة القرفصاء، وتحيط بها من الجانبين إلهتان متعلقتان بالولادة".

ويشير المؤلف إلى أن أشهر منظر يمثّل عملية الولادة، هو ذلك الموجود في المتحف المصري، والمنقول من معبد دندرة في قنا في صعيد مصر، ونرى فيه امرأةً جالسةً القرفصاء، يخرج من تحتها رأس المولود وذراعاه.

وكان المصري القديم يربط ولادة الطفل ومصيره بعدد من الآلهة المختلفة؛ إذ كانت الربة "مسخنت"، السبب في تحديد مصائر المواليد، فهي التي تحمي كرسيّ الولادة.

كانت توجد مقاعد للوالدات (كراسٍ) من ثلاثة أجزاء حجرية، يوضع فوقها بعض الأثاث لراحة الوالدة، وتكون الأمّ من بدء المخاض في جلوسها على هذه الكراسي منحنيةً إلى الأمام

وهنا يقول يوليوس جيار ولويس ريتر، مؤلفا كتاب "الطب والتحنيط في عهد الفراعنة"، إن ورقة برديّ وُجدت في متحف برلين، تُعرف بورقة "وستكار (Westcar)"، يرجع عهدها إلى الأسرة الثانية عشرة (سنة 2000 ق.م)، وفيها ما يجب الاحتفاظ به لسلامة الوالدات ووقاية الأطفال وقت الولادة وغسل المولود، وقطع سُرّته، وتطييب ملابسه بما يستطاع.

ما هو كرسيّ الولادة؟

وكانت توجد عندهم مقاعد للوالدات (كراسٍ) من ثلاثة أجزاء حجرية، يوضع فوقها بعض الأثاث لراحة الوالدة، وتكون الأمّ من بدء المخاض في جلوسها على هذه الكراسيّ منحنيةً إلى الأمام، وبين قدميها فضاء يساعد على انزلاق الجنين حين وضعه، فتتلقاه القابلة بالتحفظات الواجبة لصيانته وراحة أمه.

ويرجع العهد في استحداث هذه المقاعد إلى زمن الأسرة السادسة (أي سنة 2500 ق. م)، ولا تزال عادة الجلوس على هذه الكراسيّ متّبعةً إلى الآن، مع طرائق في التحسين، تتفاوت بقدر طبقات العائلات في الأقاليم، وما تؤدي إليه رفاهية السعة والاستطاعة بين الناس.

الطب والتحنيط

ويقول مؤلفا كتاب "الطب والتحنيط في عهد الفراعنة": يدلّ على تداول هذه الكراسي، وجود رسمَين؛ أحدهما في معبد الدير البحري في الأقصر (صعيد مصر)، الذي شيّدته الملكة الشهيرة حتشبسوت حوالى 1500 سنة ق.م، والآخر في معبد الأقصر الذي أقامه الملك أمنوفيس الثالث، 1400 سنة ق.م.

ويوضح أحمد أمين، في مؤلفه "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية" أن كرسيّ الوالدة هو كرسيّ يحضر لبيت الوالدة قبيل وضعها، تحضره لها "الداية"، وهي امرأة من أعمالها التوليد، كما أن من أعمالها أيضاً ختان البنات، مشيراً إلى أن "كرسيّ مخروق من الوسط تجلس عليه المرأة عند الولادة، لتتلقى منه الداية الطفل عند نزوله، وتستعين المرأة به عند الطلق فتمسكه من جناحيه".

مميزات كرسيّ الولادة... الأسهل على المرأة

يصف محمد عبد الرازق غنيم، في مؤلفه "العادات والتقاليد في دلتا مصر"، هذا الكرسيَّ بقوله إنه ذو أرجل قصيرة جداً، وتجلس عليه الأم المشرفة على الوضع، وتجلس الداية أمامها على الأرض. وتجلس الأم على هذا الكرسيّ لأنه يمتاز بأنه يسهّل على الداية أن ترى رأس الطفل داخل بطن الأم، ويساعد في خروج الطفل بسهولة.

ويوضح غنيم، أن الكرسيّ قد يوضع داخل إناء مستدير واسع (طشت)، وتجلس المرأة على الكرسي داخل هذا الإناء، حيث تُجمع فضلات الولادة، وقد لا يحضر أحد أقارب الواضعة عملية الولادة. وحدها الداية تحضر لدورها في عملية الوضع.

يعدّ المصري القديم بعض الآلهة مسؤولةً عن الولادة، هي إيزيس ونفتيس ومسخنت وخنوم.

ويروي المؤلف محمد فياض في كتابه "فن الولادة في مصر القديمة"، أن كرسيّ الولادة استخدمه المصريون القدماء في الأسرات من 20 إلى 30، ولعله كان يُستخدم في توليد الملكات والأميرات في القصر الفرعوني، والعديد من المستشفيات الأمريكية بدأت تطبقه في نهاية القرن العشرين.

وبرغم ذلك، لم يكن كرسيّ الولادة هو الوسيلة الوحيدة المتّبعة، خاصةً أنه في بعض الأحيان لم يكن موجوداً. وهنا يقول الدكتور بول غليونجي، في مؤلفه "طب وسحر"، إن عبارات وردت تشير إلى جلوس الأم في أثناء الولادة على القرميد (الطوب الأحمر)، كما أن محل الولادة في كتابتهم صُوّر بعلامة الولادة، وبحجرين للتخصيص.

على أي حال، كانت طقوس الوضع تبدأ بجلوس المرأة الحامل على كرسي الولادة هذا، أو بالنوم على الأرض، مع ثني الركبتين، وتضع الداية يدها في ماء ساخن لتطهيرها، ثم تضعها داخل السيدة المقبلة على الوضع، وذلك لسهولة خروج الطفل.

ويشدد الدكتور فائق الجوهري، في كتابه "أخطاء الأطباء"، على أن المصريين أول من استخدم كرسيّ الولادة والقابلات في التوليد.

المرأة تلد وهي راكعة

وجاء في التوراة أن فرعون أصدر في صدد قتل أولاد اليهود الأمر الآتي: "وانظروا إلى الحجرين، فإذا كان الطفل ذكراً فاقتلوه". كل هذا يشير إلى أن المرأة المصرية كانت تلد وهي راكعة على حجَرين بينهما فراغ، وهو تركيب يشبه كرسيّ الولادة الحالي، وفقاً لغيلونجي.

ويؤكد الدكتور زاهي حواس، أن المقبلة على الولادة تجلس القرفصاء سواء كانت تلد على كرسيّ أو على قوالب طوب، وهو الوضع الذي ينصح به الأطباء لتيسير الولادة. وعندما رأى المصري القديم الآلام التي تعانيها الحامل في أثناء الولادة، حاول أن يجد لها بعض الحلول التي تخفف من آلامها.

ويوضح مؤلف كتاب "فن الولادة في مصر القديمة"، أن المرأة كانت تلد وهي جالسة القرفصاء، وتثني ركبتيها كأنها تتبول، وتبيّن من الدراسات الحديثة أن هذا الوضع أفضل أوضاع الولادة، وأن إحساس الوالدة بالألم لا يكاد يُذكر ولا يُقارن بالمتاعب والآلام التي تعانيها من تلد في الوضع الأفقي.

الطب والتحنيط

وتتفق الطروحات السابقة مع ما ذكره هشام البسطويسي، في مؤلفه المعنون بـ"100 سؤال في العقم والولادة"، حيث يقول إنه توجد على جدران معابد الأقصر صور عدة للكرسي الفرعوني الخاص بالولادة، كما توجد صور تمثل عملية الولادة نفسها، مؤكداً: "يعتبر الكرسي الفرعوني من أفضل الطرق للولادة الطبيعية، بدليل إعادة تصنيعه واستخدامه في العديد من المستشفيات بالدول الغربية، وبدأت بعض المستشفيات الكبرى في مصر إعادة استخدامه مع الولادة الطبيعية".

ويتابع المؤلف حديثه: "وتتميز هذه الطريقة بما يلي: سهولة عملية الولادة، خاصةً في المرحلة الأخيرة، والأمان التام للأم والجنين، كما أن الوضع جلوساً يسهّل اندفاع الجنين في ممرّ الولادة، وخروجه للخارج بسهولة".

ويدلّ ذلك على أن الأجيال توارثت كراسي الولادة، كوسيلة مساعدة على إتمام الولادة، وظل الكرسيّ محتفظاً بشكله البسيط منذ عصر قدماء المصريين، وهو ذو الفتحة في المقعد على هيئة حدوة الفرس، وكل ما كان يحدث عليه من اختلاف هو تفاوت ارتفاعاته وحجمه.

يرجع العهد في استحداث هذه المقاعد إلى زمن الأسرة السادسة (أي سنة 2500 ق. م)، ولا تزال عادة الجلوس على هذه الكراسيّ متّبعةً إلى الآن، مع طرائق في التحسين، تتفاوت بقدر طبقات العائلات في الأقاليم

ويوجد في متحف جابر أندرسون في القاهرة، العديدُ من النماذج لكراسي الولادة، منها الشكل البسيط، وهو عبارة عن كرسي من الخشب قاعدته مستطيلة، تتوسطها فتحة على هيئة حدوة الفرس، ويستند إلى رجلين. وهناك كرسي آخر مصنوع من الخشب له ظهر ومسندان، و4 أرجل، وتتوسط مقعده فتحة على شكل حدوة الفرس.

الآلهة المسؤولة عن الولادة

عدّ المصري القديم بعض الآلهة مسؤولةً عن الولادة، هي إيزيس ونفتيس ومسخنت وخنوم، وتذكر بردية "وستكار" من الدولة الوسطى، بحسب "حواس"، أنه كان لإيزيس دور مهم في الولادة، فهي صاحبة التعاويذ والصلوات التي ترفعها من أجل إتمام الولادة.

كرسي الولادة في متحف جابر أندرسون

ومثل ما يحدث على مرّ الزمان، وربما بكثرة في الوقت الحالي، كان يوجد الكثير من الحوامل اللواتي قابلن ولادةً متعسرةً كانت نتيجتها في بعض الأحيان وفاة الأم والجنين، ولعل أشهر هذه الأمثلة مومياء زوجة الملك "حور محب"، الملكة "موت نجمت"، التي اتضح بعد فحص عظامها أنها تعرضت لأكثر من ولادة متعسرة، وربما توفّيت في أثناء إحدى تلك الولادات المتعسرة، ولهذا لم تنجب طفلاً من "حور محب".

وأيضاً كشفت الحفائر في جبانة العمّال في الهرم عن هيكل عظمي لقزمة في المقبرة رقم 1912، أوضح أنها قابلت أيضاً ولادةً متعسرةً نتيجةً لوجود طفل طبيعي داخل جسمها القزمي الصغير، ما أدى إلى موتها في أثناء الولادة.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه في 26 أيار/مايو عام 2002، أعلن المجلس الأعلى للآثار المصرية، أن بعثةً من جامعة بنسلفانيا عثرت على كرسيّ سحريّ خاص بالولادة، يعود إلى زوجة حاكم أبيدوس قرب مدينة قنا التي تقع جنوب مصر، إبان حكم الفرعون سنوسرت الثالث من الأسرة الـ13.

وأوضح الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار آنذاك، زاهي حواس، أن رئيس البعثة الأمريكية التي عثرت على الكرسيّ، استطاع معرفة مستخدمة الكرسي من خلال الأختام والنصوص الهيروغليفية، وهي من النبيلات وتدعى "رنسنت"، وقد عُثر عليه في جناح السيدات في بيت حاكم أبيدوس الفخم.

ووجد حينها أن الكرسيّ مصنوع من طوب يُسمّى "الآجر"، ومزخرف بالألوان، ونُقشت عليه مشاهد تصوّر إحدى الأمهات وهي تحمل وليدها، بالإضافة إلى صور الآلهة حتحور، الوثيقة الصلة بالولادة والأمومة وحماية المولود ومساعدة الأم والطفل في أثناء الولادة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image