شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
من دخل

من دخل "بيونغ يانغ" فهو آمن... أليس كذلك يا بسمة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 25 يوليو 202409:51 ص

عندما تسافرين إلى طهران ضعي وشاحاً أسود على رأسك حتى إذا لم يكن كافياً لتغطية شعرك، وعندما تسافرين إلى القاهرة لا تترددي في استعمال رصيدك من المفردات المصرية التي سمعتِها أول مرة على لسان أبطال الأفلام العربية القديمة وبطلاتها. أما السفر إلى باريس فيعني النظر إلى برج إيفل ومقارنته بتلك الصور التي ارتسمت له في حدقتيك والمجسمات الرخيصة التي كنتِ تحرصين على شرائها رغم أنها تجعله مجرد هيكل معدني بشع.

سان جيليان تعني مداعبة نسيم المتوسط لشعرك على الكورنيش مع الاستمتاع بمشاهدة الوجوه من كل الجنسيات والأعراق وهي تتقاسم معك سحر المكان، حتى إذا رغبتِ في السفر إلى أوغندا لن أعدم النصيحة وسأخبرك فوراً بألا تغادري البلاد قبل أن تزوري إحدى المحميات الطبيعية فيها. لكن يا صديقتي، أنا الآن أقف أمامك وقد انعقد لساني، فعندما تقررين فجأة السفر إلى بيونغ يانغ وتخبرينني بذلك وحقيبتك جاهزة وعلى جواز سفرك ختم لعلم أحمر تتوسطه نجمة حمراء يؤطرها خطان أزرقان. نعم، إنه علم تلك البلاد. لماذا هي دون غيرها وماذا ستفعلين هناك أصلاً؟ وكيف ستسافرين؟ من أي مطار وأي شركة طيران ستقلك؟ 

بسمة، صديقتي الوحيدة، وهي تحب السفر منذ أن كنا في مدرسة القرية. لم تدخر جهداً لتخرج من القرية وتذهب أبعد ما تستطيع كلما سنحت لها الظروف، حتى إذا لم تسمح، فبسمة تقهرها وتجعلها تفعل صاغرة. أذكر مرة أنها تظاهرت بالمرض الشديد بعد أن قرر والدها السفر إلى تونس لإجراء عملية لإحدى عينيه.

بسمة، صديقتي الوحيدة، وهي تحب السفر منذ أن كنا في مدرسة القرية. لم تدخر جهداً لتخرج من القرية وتذهب أبعد ما تستطيع كلما سنحت لها الظروف، أذكر مرة أنها تظاهرت بالمرض الشديد بعد أن قرر والدها السفر إلى تونس

قد تفلح إحدانا في ادعاء المرض عندما يكون مجرد صداع بسيط أو مغص أو حتى التواء في الكاحل يجعلها تعرج. كل هذه مسرحيات صغيرة لا بد أن تكون إحدانا اضطرت لممارستها يوماً بدلال أنثوي، لكن بسمة شطحت برغبتها بعيداً لتفجر قنبلة من الصراخ بعد منتصف الليل وهي تتلوى ألماً ليسرع بها والداها وجارهم عبد القادر إلى المستشفى لأن سيارة الوالد كانت في ورشة صديق له لفحصها وتجهيزها للسفر الطويل.

وكم كانت صدمتي كبيرة عندما روت لي بسمة تفاصيل تلك الليلة وهي تضحك بدموع لا تعجز عن ذرفها بغزارة كلما ضحكت وكلما رغبت في تحقيق حلم مجنون من أحلامها الكثيرة. قالت بأنها وصلت إلى طوارئ المستشفى وهي تزيد من شدة البكاء والتفكير في مصيرها إذا لم تنجح في إقناعهم هذه المرة. فحصها الطبيب بصعوبة بسبب كثرة حركتها وبكائها وبعد تحاليل كثيرة قال إن سبب الألم غير واضح فالتحاليل تقول إن صحتها جيدة وعلى ما يرام.

قالت بسمة إن ذلك جعلها تضاعف جرعة التمثيل وتطيل من عمر مسرحيتها لتجد نفسها أخيراً رفقة والديها في سيارة تنتظر دورها في العبور من بوابة رأس جدير الحدودية. هناك لم تكلف نفسها عناء الاستمرار في إقناعهم بحاجتها لطبيب، فقد اهتمت بوالدها بعد عمليته وضحكت كثيراً مع أمها التي كانت تقول لزوجها: "الموضوع نفسي، بمجرد دخولها المصحة شفيت". لكنها لم تدرك حتى اليوم حقيقة تلك الكذبة البيضاء. 

كأي فتاة من مدينتها القريبة من حدود تونس، كانت هذه الأخيرة وجهة الجميع للعلاج وللتجارة وحتى للسياحة في حالات نادرة. لكن بسمة كانت محظوظة لأنها كبرى شقيقاتها الثلاث أولاً ولأن شخصيتها القوية جعلت أسرتها تعتمد عليها كثيراً، فاشترى لها والدها سيارة بعد تخرجها من الجامعة وساعدها عملها في الصحافة كثيراً لتنال المزيد من الحرية. عملت من بيتها في صحف ومواقع بعيدة عن قريتها وتفوقت في عملها وأُرسِلت لدورات كفاءة استحقتها. هكذا كانت حياة بسمة، مغامرات وسفر وحياة صاخبة. نعم، حياة بسمة كانت صاخبة إذا ما أبعدنا هذه المفردة عن فوضى القلب، فقد كان هذا الأخير هادئاً قوياً لم يخفق لرجل قط، وهذا ربما سر سعادة بسمة التي لم تعجز يوماً عن خلقها. 

يا بسمة... أنا الآن أقف أمامك وقد انعقد لساني، فعندما تقررين فجأة السفر إلى بيونغ يانغ وتخبرينني بذلك وحقيبتك جاهزة وعلى جواز سفرك ختم لعلم أحمر تتوسطه نجمة حمراء يؤطرها خطان أزرقان. علي أن أتساءل لماذا هي دون غيرها وماذا ستفعلين هناك أصلاً؟ 

أحتاج بحراً من بياض الورق لأكتب عنها، لذلك سأتجاوز رحلاتها الكثيرة إلى تونس ومصر وتركيا وحتى تايلاند التي سافرت إليها فقط لترى فتيات الليل في شوارع بانكوك. سأقف هنا والآن في هذه الخطوة التي ستأخذها إلى المجهول. لماذا بيونغ يانغ يا بسمة؟

ابتسمت وقالت بعذوبة مستفزة: "لأنني بسمة. وسأرتسم هناك على تلة مانسو". أحب كوريا، أحب ريوغيونغ، مدينة الصفصاف، أحب تلك العيون الواسعة التي يشدها الزمن للوراء فلا تكف عن النظر للأمام. وعندما أسمع عن دانكون أتخيله بوجه جدي. تبتسم وتضيف: "أنا حتى كرهت المكرونة المبكبكة وأريد أن أجرب مكرونة الحنطة السوداء، أريد أن أشرب من ماء دايدونغ وأسبح فيه، لكنني لن أستطيع فنحن في ديسمبر والطقس هناك سيكون شديد البرودة". تقول عبارتها الأخيرة وتطلق ضحكة لم أستطع إلا التماهي معها والابتسام.

أنت مجنونة، قلت لها.

قطعت ضحكتها ونظرت إلي قائلة: "ولن أتوقف عن ممارسة هذا الجنون".

أمضينا معاً معظم أوقات الأسبوع الذي سبق سفرها، كانت تشع حماساً وألقاً وهي تخبرني عن كل تفاصيل هذه المدينة العريقة التي لا نعرف عنها إلا حاكمها المستبد. لقد ترجمت لي ذات ليلة بعض العبارات من النشيد الوطني لكوريا الشمالية، وتكلمت بإعجاب عن تجاوزها الأسطوري للغزو الياباني وحروبها الكثيرة مع دول الجوار. لم تحمل صديقتي يوماً هذه القناعات، هذا ما أنا متأكدة منه أو على الأقل لم تخبرني عنها يوماً.

ودعت بسمة ليل الثلاثاء لتغادر صباح الأربعاء إلى ثلاث وجهات مختلفة قبل وصولها إلى بيونغ يانغ السبت ظهراً، وقد وعدتني بالتواصل معي فور وصولها، لكن بسمة لم تفعل حتى في المطارات التي نزلت فيها قبل محطتها الأخيرة.  

ودّعتُ بسمة ليل الثلاثاء لتغادر صباح الأربعاء إلى ثلاث وجهات مختلفة قبل وصولها إلى بيونغ يانغ، وعدتني بالتواصل فور وصولها، لكنها لم تفعل حتى في المطارات التي نزلت فيها قبل محطتها الأخيرة. 

مر أسبوع لم أكف فيه عن التفكير ومسبحة الاحتمالات تنعقد في رأسي فأعجز عن تحريكها والتخمين بمصير بسمة. أين هي الآن ولماذا لم تتواصل معي؟ ذهبت إلى بيتها لأعرف إذا كانت أرسلت شيئاً لشقيقتيها. بيت عمي محمد مثل بيتنا، لم يخل ركن فيه من ذكريات جمعتني مع رفيقة طفولتي وكل أوقاتي بسمة. عندما أدخله لا أشعر أبداً بأنني غريبة، ولازلت حتى الآن كذلك رغم ضعف ركنَي البيت عمي محمد وعمتي سعدة، من كنت أعتبرهما دائماً شرياناً إضافياً يضخ المزيد من القوة والحياة لعلاقتي ببسمة.

دخلت بعد أن ألقيت التحية وسلمت على الجميع. كان المرض قد تمكن من عينيّ عمي محمد وكانت الأم تعاني من أعراض ألزهايمر ما جعلها خارج الزمان والمكان لا تعرف شيئاً حتى عن بناتها القريبات منها في الغرفة نفسها، فكيف سيهمها معرفة ما حل ببسمة؟

جلسنا في غرفة صغيرة يتقابل فيها سريران يجلس على أحدهما عمي محمد تجاوره ابنته الوسطى فيما تنام عمتي سعدة مثل طفل هدَّه اللعب على السرير الآخر. وبعد أن مضغنا الكلام المعتاد مجاملة، سألت بوضوح: كيف حال بسمة؟ وهل تواصلت معكم؟

قال عمي محمد: "علمنا علمك يا بنيتي، من يوم طلعت ماعاد سمعنا عليها شي".

ولا أعرف إذا كانت الدموع التي تسللت من عينيه لتهبط ببطء مع ثنايا وجهه، من أثر المرهم الذي وضعته ابنته قبل قليل أم أنها كانت نبوءة أب ستخبر يوماً عن مصير من كانت لهم اليدان والقدمان.

ودعت عمي محمد وتمنيت أن تكون زيارتي المقبلة تحمل أخباراً من بسمة لي ولهم. وقبل أن أصل الباب الرئيسي، أوقفتني أمل الشقيقة الصغرى لبسمة. وقد لاحظت الآن فقط أنها لم تكن معنا في الغرفة منذ أن دخلت. وكانت نظرة خاطفة لأمل كافية لتفضح ما تريد أن تقوله هذه البنت التي كان الحزن يقطر من عينيها ويرتسم على محياها مثل شبح أخرس. لم تنطق، فقط أعطتني ورقة أخذتها وأنا أفقد السيطرة على ذراعي فلا أستطيع مدهما أكثر وعلى قدمي فأجلس فوراً على حاشية السور الصغير بجوار الباب. احتجت وقتاً لأستوعب ما الذي حدث ويحدث. مبدئياً أعرف جيداً الآن أن هذه الورقة من بسمة، لكن ماذا كتبت فيها ومتى فعلت ذلك؟

فهذا ما يجعلني أرتجف بكل ذرة في جسدي. 

جلسنا في غرفة صغيرة يتقابل فيها سريران يجلس على أحدهما عمي محمد تجاوره ابنته الوسطى. وبعد أن مضغنا الكلام المعتاد مجاملة، سألت بوضوح: كيف حال بسمة؟ وهل تواصلت معكم؟ قال عمي محمد: "علمنا علمك يا بنيتي، من يوم طلعت ماعاد سمعنا عليها شي".

فتحتها دون أن أنظر إليها، باغتتني دمعة تسللت حتى بللت إصبعي الذي يعلو الورقة. قرأتها بعينين جعلتهما الدموع حقلاً يغمره الضباب. طويت الورقة، قبلتها وضممتها لصدري وخرجت دون أن أعرف إذا كانت أمل ما زالت قرب الباب أو أنها دخلت فوراً بعد أن أعطتني الورقة. لم أعرف أيضاً كيف وصلت لغرفتي وارتميت على فراشي وكأن تعب الدنيا يخترق عظامي. أظن أن أمي لحقت بي لكنها لم توجه لي كلمة واحدة. فقد أخذت الورقة من يدي ولا أعرف كم مر من الوقت حتى رأيتها تخرج مسرعة وتقفل الباب وهي تضع يدها على رأسها. أقفلت أمي الباب فأقفلت عيني وحاولت أن أنام فقد يكون كل هذا مجرد حلم يا بسمة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image