شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
يعبّر العربي عن غضبه إذا خسر في لعبة الورق أكثر مما يعبّر عنه أمام مجزرة

يعبّر العربي عن غضبه إذا خسر في لعبة الورق أكثر مما يعبّر عنه أمام مجزرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 24 يوليو 202410:45 ص
في بداية هذا القرن، أي قبل عشرين عاماً أو أكثر، سافرت مع أولادي، وكانوا أطفالاً آنذاك، من رام الله إلى الأردن. في عمّان استأجرت سيارة سياحية، وانطلقنا إلى مدينة البتراء الأثرية في الجنوب، ومنها إلى مدينة العقبة على البحر الأحمر. ولأن الطريق طويلة وصعبة، وهم أطفال لم يمتحنوا صعوبات الحياة بعد، ولم يواجهوها بالصبر والحكمة، بدأوا بإصدار الأوامر وصياغة الطلبات من المقعد الخلفي للسيارة. يقول الولد: "بابا أريد أن أستفرغ"، فترد البنت: "أريد عصيراً"، فينسى الولد رغبته بالاستفراغ ويبدأ بطلب الشيبس أو العصير تقليداً لأخته.
ليس هذا مهماً على أية حال، وهو يحدث دوماً مع الأطفال وقليلي الخبرة في الحياة. المهم أنني توقفت أمام دكان صغير في إحدى قرى الجنوب لأشتري لهم شيئاً. بعد أن أخذت حاجتي ودفعت، ناولني صاحب الدكان منشوراً على شكل ورقة ملونة ومطوية، وعليها صورة رجل مبتسم من خلف لحية طويلة، ثم قال لي: "هذا مرشحنا، ادعموه".
لقد صادف أن تلك الأيام كانت أياماً للدعاية الانتخابية لمرشحي المجالس القروية والبلديات في الأردن، وصادف أنني مررت من قرية صغيرة ونائية فيها مرشح شاب مبتسم، في مواجهة مرشحين لا أعرفهم، ولأن لهجة صاحب الدكان كانت جادة وحاسمة، فقد قرّرت أن أقرأ المنشور وأقوم بواجبي الذي لا أعرف ما هو على وجه التحديد.
وصلت إلى الفندق في العقبة، وأول شيء قمت به هو قراءة المنشور الانتخابي، ويا لدهشتي واستغرابي غير المبرّرين: لقد وضع المرشح في برنامجه خطة متكاملة ومحكمة لتحرير القدس من براثن الصهيونية العالمية، ووضع خطة للقضاء على الاستعمار بكل أشكاله؛ ليس فقط في فلسطين، بل أيضاً في العراق وأفغانستان، وفي الدول العربية التي تعتقد أنها مستقلة وهي غير ذلك.
في عراق تسعينيات القرن الماضي، كان هناك جيش يسمّى "جيش القدس"، مكون من مليون بندقية، مهمتها تحرير فلسطين، بينما كان الشعب العراقي يعاني من قلة الدواء وقلة الطعام وانعدام الأمن
لقد ذكر في برنامجه اسم أمريكا وبريطانيا في أكثر من فقرة، لكنه لم يذكر اسم قريته بتاتاً. لم يذكر شيئاً عن الحُفر والمطبّات في الشارع الرئيسي، ولا عن مدرسة القرية التي يكتظ فيها التلاميذ دون مروحة تخفّف عنهم حرّ الصيف وعرقه. لم يتطرّق للتعديات على شبكة المياه، ولا للفواتير المبالغ فيها من شركة الكهرباء، ولم يذكر شيئاً عن خلوّ القرية من عيادة مؤهلة لتوليد امرأة جاءها المخاض ليلاً دون مقدمات.
لماذا فعل هذا المرشح ذلك، ولم يقدم لسكان قريته وعوداً ببناء مدرسة أو مستوصف؟ لقد فعل ذلك لأنه يتوقع أن تتم محاسبته فيما لو لم يفِ بوعوده الواقعية والمحدّدة والقابلة للقياس. لذلك فهو يهرب إلى لغة شاعرية وثورية، هدفها وضع الناس أمام محكٍّ أخلاقي وليس اقتصادياً أو اجتماعياً. وهل أكثر من قضية فلسطين يمكنها أن تشكل محكّاً أخلاقياً لا خلاف عليه؟ ناهيك أن المرشح يريد أن يتميّز، بل ويتفوّق حتى على الذين يستخدمون فلسطين في برامجهم.
إنهم يعتقدون أن الحزن على أهل غزة عمل سياسي، وشتيمة إسرائيل عمل سياسي، والغضب أمام شاشة التلفاز عمل سياسي.
هذه اللغة ليست مقتصرة على هذا المرشّح المسكين بالطبع، فلقد رأيناها في عراق صدام حسين، في تسعينيات القرن الماضي، حيث كان هناك جيش يسمى "جيش القدس"، مكون من مليون بندقية مهمتها تحرير فلسطين، بينما كان الشعب العراقي يعاني من قلة الدواء وقلة الطعام وانعدام الأمن، ولا أريد التطرّق لأوضاع الفلسطينيين أنفسهم القاطنين في حي البلديات في بغداد أيامها.
هذه اللغة وهذا المنطق ليسا حكراً على السياسيين أو النشطاء وحسب، بل إن النخب المثقفة والمعوّل عليها التعامل مع الواقع من خلال اختصاصاتها، تهرب هي أيضاً إلى هذه المساحة من المزايدات التي لا يُحاسب عليها أحد، فبإمكان أي متابع أن يلقي نظرة سريعة على برامج المتنافسين في نقابة الأطباء الجزائريين، أو رابطة الكتّاب الأردنيين، أو اتحاد مزارعي حلب، وسيجد دون أدنى جهد أن القضية الفلسطينية هي المعيار الأول بين المتنافسين.
هل هذا الشعور القومي تجاه فلسطين وقضيتها عيب؟ بالتأكيد لا، بل على العكس تماماً، فهو ربما من فضائل الأشقاء العرب، وحرصهم الدائم على التأكيد أن هذه القضية قضيتهم. أين تكمن المشكلة إذن؟ إنها في عدم قدرة أصحاب هذه الشعارات الصادقة على تحويلها إلى عمل سياسي ذي قيمة. إنهم يعتقدون أن الحزن على أهل غزة عمل سياسي، وشتيمة إسرائيل عمل سياسي، والغضب أمام شاشة التلفاز عمل سياسي.
لكن حتى هذا الغضب مشوّه بدوره، أو على الأقل غير متوازن وغير مضبوط، بمعنى أن الفرد العربي يستطيع أن يعبّر عن غضبه بطريقة واضحة وفعّالة لو خسر في لعبة الورق، وذلك أكثر من قدرته على التعبير عن غضبه في مواجهة إبادة جماعية، طالت حتى الآن أكثر من خمسين ألف ضحية في قطاع غزة.
الفرد العربي يريد من فلسطين أن تكون مختبر عمليات لخلق دولة الرفاه العربية الأسطورية، فهو يشتم حاكمه ويؤلّف حوله النكات البذيئة، لكنه لا ينقلب عليه، بينما يريد كلّ شيء ملائكياً ومثالياً في فلسطين

وبصرف النظر عن أسباب هذه المعادلة غير السوية، وهي أسباب كثيرة ومفهومة على أية حال، لا يتسع هذا المقال للخوض فيها، إلا أننا نستطيع رؤية تمظهرات هذه المعادلة، يومياً، في الصمت الذي استمرّ ويستمرّ منذ ما يقارب السنة على شنّ هذه الحرب. هذا الصمت الذي يلفّ العواصم والمدن العربية، إلا ما ندر بالطبع. وهذه الـ "ما ندر" لم تكن أكثر من تظاهرات تنحاز إلى فئة فلسطينية، يتقاسم المتظاهرون معها الرؤية الأيديولوجية ذاتها والأهداف ذاتها، ولم تكن مظاهرات أو فعاليات للضغط من أجل وقف هذا الإجرام اليومي وغير المسبوق بحق أهالي غزة من المدنيين الفلسطينيين.

عطفاً على ما تقدم، يمكننا القول إن خيبة أمل الفلسطينيين الأخيرة من أخوتهم في العروبة، ليس مردّها عدم وقوف العرب معهم في القتال، بل عدم قدرة العرب على منع موتهم بهذه الطريقة وهذا الكمّ، أما المساهمة في منع الموت فتكون بالخروج تحت يافطة واحدة تطالب بوقف الحرب، وليس بالخروج من أجل المطالبة بامتدادها وتوسعها.
علينا أن نؤكد أن الفرد العربي لا يستطيع ذلك، لسبب بسيط، لكن جذوره ممتدة في الثقافة والسياسة والتاريخ، وهو أنه يريد من فلسطين أن تكون مختبر عمليات لخلق دولة الرفاه العربية الأسطورية، فهو يشتم حاكمهُ ويؤلّف حوله النكات البذيئة، لكنه لا ينقلب عليه، بينما يريد كل شيء ملائكياً ومثالياً في فلسطين. وحين يكون الفلسطيني غير لائق بهذه المهمة، أو حين يطالب باستراحة ما بين الشوطين، يتم وصفه بأسوأ وأقذع الأوصاف، والتاريخ القريب والبعيد خير شاهد على ذلك، لكننا نرفض أن نفكّر فيه أو أن نضعه على مسطرة النقد والتحليل، فالشعارات أسهل، وهي غير قابلة للقياس ولا يحاسب عليها أحد.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image