شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
رأيت غزالاً واحداً وكثيراً من الدخان… مشاهدات إيراني في بولندا

رأيت غزالاً واحداً وكثيراً من الدخان… مشاهدات إيراني في بولندا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب نحن والتنوّع

الثلاثاء 16 يوليو 202401:28 م

بعد رحلة عمرها ساعتين ونصف، وصلت من باريس إلى وارسو في الثاني عشر من أيار/مايو الماضي. لم يكن لدي الكثير من الوقت لاستكشاف المدينة. كان عليّ أن أصل إلى المحطة حيث يمكنني ركوب الحافلة والذهاب إلى مدينة بياويستوك، وهي مدينة تقع على الحدود الشرقية لبولندا، بالقرب من بيلاروسيا، حيث كان من المقرر أن يُعقد في هذه المدينة "المؤتمر السنوي لدراسات جيل بِيت أوروبا"، من 13 إلى 15 أيار/مايو، وكنت أحد المتحدثين فيه.

المدينة القديمة في وارسو

خلال زيارتي الأولى إلى وارسو، لاحظت بعض الأشياء، منها أن البولنديين يدخنون أكثر من أي شعب آخر رأيته في أوروبا، ولذلك يمكنك شراء السجائر من كل مكان، فهي تباع في المتاجر الصغيرة والكبيرة، والأكشاك والمحال الصغيرة، كما هو الحال في إيران. معظم الرجال البولنديين لديهم تسريحات شعر قصير أو يكونون حليقي الرأس. ومحطة حافلات وارسو تشبه إلى حد كبير محطات المدن الإيرانية.

خلال زيارتي الأولى إلى وارسو، لاحظت بعض الأشياء، منها أن البولنديين يدخنون أكثر من أي شعب آخر رأيته في أوروبا، ولذلك يمكن شراء السجائر من كلّ المتاجر الصغيرة والكبيرة، والأكشاك والمحالّ الصغيرة، كما هو الحال في إيران

اشتريت تذكرة قطار من مطار وارسو، واتجهت من المطار نحو محطة الحافلات، ولم أكن أعلم أنه عليّ تفعيل تذكرتي في الجهاز الخاص الذي كان داخل القطار. وبعد دقائق قليلة، أتاني المسؤول عن مراقبة التذاكر فسلّمته تذكرتي. تفاجأ عند رؤيتها غير مفعّلة، فشرحت له باللغة الإنكليزية أنني لم أكن أعلم أنه يجب عليّ تفعيلها، فتقبّل الأمر ببساطة. لو حدث مثل هذا في باريس، لكانوا غرّموني غرامةً ثقيلةً، لكنني أعلم الآن أنني أتعامل مع شعب موظفو مراقبة التذاكر فيه طيّبو القلب.

بياويستوك... مدينة الغابات والغزلان

بعد ذلك، غادرت وارسو متجهاً إلى بياويستوك، وهي مدينة تقع في شمال شرق بولندا بالقرب من الحدود البيلاروسية، وتبتعد عن وارسو 200 كيلومتر، حيث يغطي هذا الطريق سهلٌ واسع خلّاب. عندما نظرت من نافذة الحافلة، رأيت المنازل الريفية الكبيرة والجميلة، التي بُنيت بعيدةً عن بعضها بعضاً، على عكس المنازل الريفية في إيران، التي غالباً ما تشيَّد قريبةً من بعضها. ما لفت انتباهي هي العلامات العديدة الموجودة على جانبَي الطريق والتي تحذّر السائقين من احتمال مرور الغزلان، وكنت محظوظاً بما فيه الكفاية لرؤيتي غزالاً في ذلك المكان الجميل.

كنيسة في بياويستوك

بياويستوك هي واحدة من أكثر المدن خضرةً رأيتها في حياتي، إذ تبدو كما لو أن الغابات تفصل بين أحيائها المختلفة. مكان انعقاد المؤتمر هو جامعة بياويستوك التي تقع وسط هذه الغابة الكبيرة، وعلى المرء المشيُ لمدة عشرين دقيقةً وسط الغابة، للوصول إلى الجامعة المتوارية كاللؤلؤة في قلب المدينة. ولحسن الحظ، فإن الفندق الذي كنت أقيم فيه لم يكن بعيداً عن الجامعة وكان يمكنني الوصول إليه سيراً على الأقدام سريعاً.

مدينة بياويستوك

تتمتع مدينة بياويستوك بتاريخ غني يعود إلى العصر الحجري، وهي مدينة ذات ثقافة غنية ظهرت نتيجةً لموقعها الإستراتيجي على طرق التجارة بين بحر البلطيق والبحر الأسود. تأسست مدينة بياويستوك رسمياً نحو عام 1437، وكانت في البداية جزءاً من ليتوانيا، ثم في عام 1569 أصبحت من الأراضي البولندية.

شهدت بياويستوك نمواً صناعياً كبيراً في القرن التاسع عشر، وأصبحت مركزاً رئيسياً لصناعات النسيج، إلا أن تاريخها مليء بالاضطرابات، خاصةً خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومن ثم الاحتلال السوفياتي وبعدها الغزو النازي، الذي قُتل خلاله جزء كبير من السكان اليهود في بياويستوك، مثل غيرهم من اليهود البولنديين. لم يتمكن سوى جزء صغير منهم من الفرار، إلى إيران وأماكن أخرى من أوروبا الغربية.

اللقاء مع روبرت لي وجوليا فيودورتشوك

في اليوم الأول للمؤتمر، كان عليّ ان ألقي كلمةً بجوار أحد الأساتذة البارزين للأدب الأمريكي، أ. روبرت لي، الذي قرأت قبل سنوات عدة كتابه "الأدب الأمريكي متعدد الثقافات"، وهو الكتاب الذي فاز بجائزة الكتاب الوطني الأمريكي عام 2004. كان روبرت أستاذاً للأدب الأمريكي في جامعة طوكيو من عام 1997 إلى عام 2011، وهو رجل ذو معرفة واسعة بكل شيء، لا يمكنك التحدث معه عن موضوع ما، إلا وتتفاجأ بمعرفته المذهلة والكمّ الهائل من المعلومات التي يمكلها حول ذلك الموضوع.

كاتب المقال والكاتب روبرت لي

الشخصية الثانية التي التقيتها، هي المتحدثة الرئيسية في اليوم الأول للمؤتمر جوليا فيودورتشوك، الشاعرة والكاتبة والمترجمة وأستاذة الأدب الأمريكي في جامعة وارسو. خلال حفل العشاء، تحدثتُ معها عن الأمل والبوذية والأدب. ذكاؤها ومعرفتها مثيران للإعجاب، إلى درجة أنني سُحرت بكلامها ونظريتها الأدبية، وهذا الأمر حوّلنا على الفور إلى صديقين.

في الصباح التالي، قررنا الذهاب معاً إلى غابة بياوفيجا، لأتعرف عليها وعلى الغابة بشكل أفضل، فهي غابة على حدود بيلاروسيا وبولندا، حيث يذهب العديد من اللاجئين على أمل الوصول إلى أوروبا، ويدخلون إلى هذه الغابة المخيفة ويفقدون حياتهم أحياناً، وذلك إما من البرد أو من الخوف. جوليا هي أيضاً الراوية لقصص هؤلاء اللاجئين، فهي ناشطة بيئية ولديها معرفة واسعة بالأرض والطيور والنباتات، وهي من أخبرتني عن السكّان المسلمين في بياويستوك، والذين معظهم من أصول تتارية.

الكاتب برفقة الشاعرة والكاتبة جوليا فيودورتشوك

للتعرف على أي مدينة، يجب على المرء أن يُحضر معه كاتباً محلياً، وأنا كنت محظوظاً بوجود جوليا. صحيح أنها من وارسو، ولكنها تعرف بياويستوك جيداً، وأخذتني لرؤية تمثال في وسط المدينة. كان تمثالاً لمبتكر لغة الإسبرانتو، لودفيك زامنهوف، الرجل الذي وُلد في هذه المدينة، وأراد خلق لغة مصطنعة وبسيطة حتى يتمكن جميع سكان العالم من تعلّمها، ليرتبطوا بواسطتها بسهولة.

 وارسو... المدينة القديمة الجديدة!

قبل أن أعود إلى وارسو مرةً أخرى، بحثت عن الأماكن السياحية فيها، فاتضح لي أن مدينة وارسو القديمة، هي أشهر الأماكن السياحية في وارسو عاصمة بولندا. لكن الحقيقة أن هذه البلدة القديمة ليست قديمةً على الإطلاق، ولم يبقَ فيها سوى سورٍ صغير مدمّر لمدينة وارسو القديمة، إذ خلال الحرب العالمية الثانية، دُمّرت وارسو بالكامل، وكل ما يوجد الآن في هذه المدينة، تم بناؤه من فترة ليست بعيدةً، ولا يطول عمره أكثر من 80 سنةً، لكن عظمة وارسو تكمن في أنها وُلدت من رمادها، ولهذا أسميتها "مدينة الفينيق"!

 خلال الحرب العالمية الثانية، دُمّرت وارسو بالكامل، وكل ما يوجد الآن في هذه المدينة، تم بناؤه من فترة ليست بعيدةً، ولا يطول عمره أكثر من 80 سنةً، لكن عظمة وارسو تكمن في أنها وُلدت من رمادها، ولهذا سمّيتها "مدينة الفينيق"

من أجمل رموز وارسو، تمثال حورية البحر حامية المدينة. يقع هذا التمثال في وسط البلدة القديمة، ووفقاً للأسطورة، فإن حوريةً تُدعى سيرينا، استقرت على ضفاف نهر فيستولا، وتعهدت بحماية المدينة. لقد كان شعار حورية البحر هذا جزءاً لا يتجزأ من هوية وارسو لقرون عدة، حيث يمكن رؤيته في جميع أنحاء المدينة، وهو موجود على المباني المعروفة كمبنى البلدية والتماثيل وفي أكثر معالم هذه المدينة. هذه الشخصية المميزة، التي ابتكرها النحات البولندي العظيم كونستانتي هيغل، مسلحة أيضاً بسيفٍ ودرع للتأكيد على دورها كحارسة للمدينة.

تمثال حورية البحر في وارسو

لا يمكنني سوى قضاء بضع ساعات في وارسو، وسأعود إلى المطار لركوب الطائرة التي ستُرجعني إلى منزلي في باريس. وفي الطريق، رحت أتذكر هذه الأيام الأربعة التي قضيتها في بولندا، وقلت في نفسي إنني سأحتفظ بحب وصداقة هذا البلد في قلبي إلى الأبد. فوداعاً وارسو، وداعاً بياويستوك، وداعاً بولندا!

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard