شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"فتحت عين شخص ميّت"... تأخّر الإنجاب وعنف الموروثات في العراق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء

الاثنين 15 يوليو 202403:01 م



"فتحت عين شخص ميّت. اغتسلت بصابونة ميّت. نمت بين القبور. فعلت الكثير من الأمور المرعبة… أرتعد من الخوف في كل مرة، وأشعر بأن قلبي يكاد أن يتوقف، لكن اللوم والضغط النفسي بعد مرور عشر سنوات على زواجي لم أستطع فيها أن أنجب طفلاً، أوصلاني إلى حالة يأس استسلمت فيها لرغبات وأوامر والدتي"؛ هذا ما ترويه ريما حسن (37 عاماً)، من العراق، عن رحلتها مع "الطب الشعبي" لعلاج "تأخّرها في الإنجاب".

برغم أن لا اتفاقاً عاماً على الفترة التي يُمكن القول بعدها إن الحمل قد تأخّر، إلا أن غالبية المجتمع العراقي تعرّف تأخر الإنجاب على أنه تأخر الحمل أكثر من عام واحد بعد الزواج. وبغضّ النظر عن رغبة الطرفين في إنجاب أطفال، تضع العائلة، أو وربما العشيرة بأكملها، الزوجين تحت ضغوط نفسية متعدّدة تحثّهما على الإنجاب.

غالباً، يقع اللوم على المرأة في مسألة تأخر الحمل، من دون أخذ دور الرجل في عملية الإنجاب وتحديد نوع الجنين مثلاً، في الحسبان، إذ تُعدّ المرأة المسؤولة الوحيدة عن العملية بالكامل. وإذا ما تأخر الحمل فترةً بعد الزواج، تُعدّ المرأة "عاقراً"، أما إذا حملت منذ الليلة الأولى، فيكون الفخر للرجل، لِما للأمر من دلالة على فحولته.

يقوم الموروث الشعبي بدور الفانوس السحري في المجتمع العراقي، خصوصاً في قضية الحمل، إذ يُعتقد أن ممارسة بعض الطقوس قادرة على حل كل المشكلات الصحية والنفسية، وأنّ زيارة الأضرحة والشيوخ والسادة كفيلة بإخصاب المرأة، ولا تتم تلك الممارسات دائماً بموافقة المرأة، إذ تتعرض لعنف نفسي وجسدي لإجبارها على الذهاب في اتجاه الموروثات الدينية/ الشعبية. يندرج هذا تحت عنوان الإكراه/ العنف الإنجابي، الذي يُعدّ شكلاً من أشكال السيطرة القسرية الممارَسة ضد أحد الشريكين أو ضدهما معاً. وهو ينطوي على إزالة استقلالية الفرد لاتخاذ قرارات بشأن صحته الإنجابية من خلال مجموعة من السلوكيات، التي تهدف إلى الضغط على الشريك أو إجباره على بدء الحمل، أو الحفاظ عليه، أو إنهائه، وفقاً لصندوق الأمم المتحدة للإسكان.

الخرافة تصبح واقعاً

في العراق، تُعدّ ظاهرة "الجبسة" أشهر مسببات تأخر الحمل، إذ إن "الجبسة" أو "الكبسة" أو "المرأة المجبوسة"، هي الحالة التي تفقد فيها المرأة قدرتها على الإنجاب لأسبابٍ غامضة. تفسّر المعتقدات الشعبية هذه الحالة تفسيرات عدة، وتعزوها إلى أسباب مختلفة، فمثلاً يُعتقد أن حضور امرأة زفاف عروس بعد حضورها عزاءً قبل فترة قصيرة، سيسبب انتقال حالة الحزن من الزائرة إلى العروس، وتالياً يمنعها من الإنجاب. كما يُعتقد أن تزامن زواج امرأتين في اليوم نفسه، وفي المنزل ذاته، سيُسبب "الغيرة" بينهما، ما يُعيق حمل إحداهما، أو مثلاً يُعتقَد أن زيارة امرأة أنجبت حديثاً عروساً لتهنئتها بزفافها تجلب الحظ السيّئ للعروس و"تكبسها".

يسود اعتقاد في محافظات وسط العراق وجنوبه، ذات الأغلبية الشيعية، بأن اغتسال المرأة بدماء المُطبّرين يفك الجبسة، والتطبير هو أحد مراسيم إحياء ذكرى مقتل الإمام الحسين، حيث يشقّ المطبّرون رؤوسهم بالسيوف حتى تخرج منها الدماء، وتُجْمَع دماء المطبّرين من خلال نقع ملابسهم المدماة في الماء.

يواجهن الموت من أجل الحمل

ريما، التي تقطن في إحدى محافظات الجنوب، عانت من التعنيف اللفظي والجسدي من قبل زوجها ووالدتها ووالدة زوجها لسنوات، لعدم قدرتها على الإنجاب، إذ كانوا يعتقدون أنها "مجبوسة".

تروي ريما لرصيف22، تجربتها الصادمة مع فك "الجبسة"، وتقول: "أتذكر عندما أعطتني والدتي صابونةً لأستحم بها. لم تقُل في البدء إنها صابونة من مغسل الموتى، وعندما بدأت بالاستحمام فتحت باب الحمام، وصاحت 'إنها صابونة ميت'. فقدتُ حينها الوعي، وشعرتُ بدنوّ أجلي".

أُجبرت ريما على الذهاب إلى إحدى المقابر والمبيت ليلةً كاملةً بين قبرين، كما أُجبرت على فتح عين جثة جارهم في الحي، الذي توفي حديثاً.

تتابع ريما: "لم أستطع مسامحة والدتي حتى الآن، برغم مرور سنوات على ما حصل، ففي النهاية انفصلت عن زوجي الذي تبيّن أنه كان عقيماً بعد رضوخه أخيراً لطلبي وزيارته طبيباً مختصّاً. تزوجت برجل آخر، وأنجبت طفلةً جميلةً، لكنني لم أنسَ ما فعلوه بجسدي".

تتعدد طرائق علاج "الجبسة"، لكنّها جميعها ترتكز على عاملين رئيسين هما الألم والخوف. قد تُستخدم بعض الطرائق المؤلمة، اعتقاداً بأنّ الألم يُساعد على علاج الجبسة. كما تُستخدم بعض الطرائق المُخيفة، مثل تعريض المرأة لأصوات مُرعبة أو مشاهد مُقززة، اعتقاداً بأنّ الخوف يُساعد على "فتح رحم المرأة" وتحفيز الحمل، كما في حالة ريما.

كشفت رحلة البحث عن قصص نساء تعرّضن للتعنيف في علاج تأخر الحمل في مختلف محافظات العراق، عن تنوع العادات المستخدمة لعلاج ظاهرة "الجبسة". في أطراف مدينة العمارة، جنوب شرق العراق، تغتسل المرأة "المجبوسة" ببول امرأة كانت قد أنجبت سابقاً، أو يتمّ تخويفها من خلال قيام إحدى النساء بارتداء ملابس رجالية والدخول عليها في الحمام دون علمها، فيما تُجبر أخريات على أكل خصية ديك.

"فتحت عين شخص ميّت. اغتسلت بصابونة ميّت. نمت بين القبور. فعلت الكثير من الأمور المرعبة… أرتعد من الخوف في كل مرة، وأشعر بأن قلبي يكاد أن يتوقف، لكن اللوم والضغط النفسي بعد مرور عشر سنوات على زواجي لم أستطع فيها أن أنجب طفلاً، أوصلاني إلى حالة يأس استسلمت فيها لرغبات وأوامر والدتي

كما يسود اعتقاد في محافظات وسط العراق وجنوبه، ذات الأغلبية الشيعية، بأن اغتسال المرأة بدماء المُطبّرين يفك الجبسة، والتطبير هو أحد مراسيم إحياء ذكرى مقتل الإمام الحسين، حيث يشقّ المطبّرون رؤوسهم بالسيوف حتى تخرج منها الدماء، وتُجْمَع دماء المطبّرين من خلال نقع ملابسهم المدماة في الماء

نساء بلا خصوصية

"قيل لي إني مريضة وتتوجب معالجتي. ذهبت بي عمتي (والدة زوجي) إلى امرأة تضرب النساء على ظهورهنّ بالسيف والمكنسة (المقشّة)، وإلى امرأة ثانية تدوس بقدمها على ظهري، وإلى ثالثة جعلتني أسبح في مياه قذرة. بقيت ستّ سنوات تحت رحمة الروحانيين"؛ هكذا تصف بسمة علي (30 عاماً)، معاناتها مع محاولات أهل زوجها "علاجها من الجبسة".

ضُربت بسمة بالسيف ضربات خفيفةً على ظهرها ويديها كونه "سيفاً مباركاً يعود إلى أحد أئمة آل البيت"، من ثم مُسح على بطنها بالمكنسة للتبريك.

تدخّل أهل زوج بسمة في غالبية تفاصيل حياتها الخاصة، حتى إن جميع أفراد العائلة كانوا مطّلعين على نتائج تحليلات الزوج التي تُظهر نسبة هرمون "الذكورة".

مُنعت بسمة من مخالطة الأطفال في الأسرة خوفاً عليهم من "الحسد"، ما ولّد لديها شعوراً بالنقص، على حد تعبيرها.

"حرموني من حمل الأطفال واللعب معهم، لذا رضخت لجميع طلباتهم بزيارة الروحانيين للعلاج، واقتنعت عندما أخبروني بأنني مريضة و'مجبوسة'"، تضيف.

يُصبح جسد المرأة في ظلّ هذه الظروف مسرحاً لممارسة وصاية قاسية، حيث يُشارك جميع من يشاركونها الفضاء في إبداء آرائهم حول قراراتها الإنجابية، مُتجاهلين حقها في الاختيار.

"كانت والدة زوجي تبحث في نفايات غرفتنا عن فوطي الصحية في كل موعد دورة شهرية لمعرفة ما إذا حدث الحمل أو تأخر"، تقول ليلى (اسم مستعار، 31 عاماً)، وهي امرأة مسيحية من جنوب العراق، وهي تقصّ علينا حكايتها مع الإكراه الإنجابي بعد مرور عام على زواجها.

برغم عدم وجود سبب بيولوجي لتأخر الحمل، أُجبرت ليلى على زيارة عيادات طبيبات الأمراض النسائية، وإجراء الفحوصات، وأخذ الهرمونات المنشطة؛ ما أدّى إلى تدهور وضعها الصحي وزيادة وزنها 32 كيلوغراماً خلال ثلاثة أشهر.

تقول ليلى إن أسوأ ما عاشته، مقارنتها المستمرة بغيرها من النساء الأمهات.

"اعتقدوا أنني أحمل غلّاً في قلبي لكل امرأة حامل، إلى درجة أنهم حاولوا إخفاء خبر حمل أختي عني".

التطبيع مع العنف والمعنِّف

تُجبَر عشرات النساء في العراق على القيام بأفعال مروّعة بأنفسهن وأجسادهنّ لغرض الإنجاب، ما يجعل صحتهنّ الجسدية والنفسية عرضةً للخطر. غالباً لا يعين أنهنّ قد تعرّضن للتعنيف إلا بعد مرور فترة طويلة، أو قد لا يكتشفن ذلك أبداً، وذلك بسبب نقص الوعي حول مفهوم "الإكراه الإنجابي". من خلال الابتزاز العاطفي، يتم التطبيع مع هذا العنف وجعله مألوفاً ومقبولاً اجتماعياً، حيث تُخفى الأفعال المسيئة وراء عبارات عاطفية مثل "أريد أن أحمل حفيداً قبل مماتي"، أو "أريد أن أُسعدك".

يُنظر إلى الإنجاب كوسيلة لتعزيز مكانة المرأة في المجتمع، ما يُعطي الآخرين الحق في التدخل في قراراتها الإنجابية، ويُبرّر ذلك العنف، ويُجرّده من طابعه القمعي في ذهن الضحية، فتُنكر المرأة هذا العنف، وتراه دليلاً على حبّ من حولها لها ورغبتهم في إسعادها، ما يجعل العنف يبدو "منطقياً ومقبولاً".

"لا علاقة للخوف بالإنجاب، بل على العكس، الدراسات كلها تشير إلى أن زيادة الخوف والقلق تؤدي إلى تأخّر الإنجاب"؛ هذا ما تؤكده نور العيساوي، لرصيف22، وهي طبيبة نسائية من محافظة المثنّى، مشيرةً إلى أن المعتقدات والطرائق المُستخدمة لعلاج تأخر الحمل وما يُعرف بالجبسة هي مسائل شعبية مبنية على أسس غير منطقية، ولا يوجد أي دليل علمي يُثبت فعاليتها.

بوجه عام، يُنظر إلى المرأة في العراق على أنها ملكية عامة، ما يشرعن التدخل في شؤونها، خاصةً من قبل الرجل وعائلته. وتعود هذه العصبية إلى عملية الإنجاب، حيث تُعدّ المرأة دليلاً على فحولة الرجل وقدرته على الإخصاب. وفي حال فشل عملية الإنجاب، يُلقى اللوم على المرأة، وتتعرض للعديد من الانتهاكات والمعاناة.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فعلاً، ماذا تريد النساء في بلادٍ تموج بالنزاعات؟

"هل هذا وقت الحقوق، والأمّة العربية مشتعلة؟"

نحن في رصيف22، نُدرك أنّ حقوق المرأة، في عالمنا العربي تحديداً، لا تزال منقوصةً. وعليه، نسعى بكلّ ما أوتينا من عزمٍ وإيمان، إلى تكريس هذه الحقوق التي لا تتجزّأ، تحت أيّ ظرفٍ كان.

ونقوم بذلك يداً بيدٍ مع مختلف منظمات المجتمع المدني، لإعلاء الصوت النسوي من خلال حناجر وأقلام كاتباتنا الحريصات على إرساء العدالة التي تعلو ولا يُعلى عليها.

Website by WhiteBeard