منذ لحظة حل البرلمان الفرنسي، تضج وسائل الإعلام العالمية كما الفرنسية بالتحليلات التي تتكهن بما راهن عليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. توقع معظم المتابعون والمحللون أن ماكرون عول عند لحظة حل البرلمان على عنصر المفاجأة ومباغتة المشهد السياسي متوقعاً أن تؤدي البلبلة وسرعة إجراء الانتخابات البرلمانية إلى تشتيت صفوف الفرقاء السياسيين بحيث يستطيع حزبه الحصول على الأغلبية البرلمانية.
وبدا منذ بداية الحملة الانتخابية أن الرئيس يسعى لاستقطاب مصوتي اليسار أكثر مما يعول على التأثير حقاً في المصوتين لليمين الفرنسي.
تم التركيز في وسائل الإعلام على مسألتين أساسيتين في مهاجمة اليسار، الأولى هي استحالة قدرة الأحزاب اليسارية على التوحد بسبب الخلافات العميقة التي تفرقها لا سيما فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية وغزة، والثانية اتهام حزب فرنسا الأبية وخاصة زعيمه جان لوك ميلانشون بأنه معاد للسامية، وتحذير الناخبين من أن تصويتهم لهذا الحزب يعني تضحيتهم بالوحدة الوطنية الفرنسية التي تعلو فوق الانتماءات الدينية.
بعد يوم واحد من إعلان حل البرلمان، ورضوخاً للضغط الشعبي والمظاهرات، تشكلت "الجبهة الشعبية الجديدة" التي تضم عدداً كبيراً من أحزاب اليسار ولاسيما الحزب الاشتراكي الذي حصد أعلى نسبة أصوات في الانتخابات الأوروبية من اليسار وحزب "فرنسا لا تخضع أو فرنسا الأبية" الذي حصد المركز الثالث في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية السابقة بالإضافة إلى الحزب الشيوعي الفرنسي وأحزاب الخضر وحركات اليسار المعتدل.
ولم يبق خارج هذا التجمع الكبير سوى حركات اليسار الراديكالي الثوري كالنضال العمالي.
ظلت وسائل الإعلام لأيام بعد هذا الاتحاد وإعلان تشكل الجبهة الشعبية التي طرحت برنامجاً انتخابياً بسرعة قياسية، تستضيف محللين يؤكدون استحالة وحدة اليسار، فيما يؤكد الضيوف من الأحزاب اليسارية أن الوحدة قد تمت بالفعل، فيما تفرغ الناطقون باسم الوسط الفرنسي لمهاجمة ممثل الحزب الاشتراكي في الانتخابات الأوروبية "رافاييل غلوكسمان" لأنه قبل بالتحالف مع جان لوك ميلانشون وحزبه المتهم بمعاداة السامية بسبب موقفه من أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول.
يتفق معظم المحللين على أن مسألتين أساسيتين حكمتا نتائج التصويت، الأولى هي قيام كثير من المصوتين بالإدلاء بأصواتهم لمواجهة اليمين المتطرف حتى وإن كان ذلك يعني تصويتهم لأحزاب من معسكر يختلف عن معسكرهم السياسي، والضغط الشعبي الذي دفع أحزاب اليسار إلى الاتحاد بسرعة، ولعل أجمل ما قيل في التعليق على الانتخابات هو قول معلق سياسي: "عندما كان الرئيس الفرنسي غير مسؤول، أثبت الشعب الفرنسي أنه على قدر المسؤولية".
أصبحت وحدة اليسار أمراً واقعاً عندما تم الاتفاق على المرشحين في كل دائرة انتخابية، وأصبح مرشحو لوائح اليمين والوسط في مواجهة مع مرشح واحد لكل أحزاب الجبهة الشعبية الجديدة. ولا بد من الإشارة هنا إلى الدلالة التاريخية التي يحملها اسم الجبهة، فقد سبق للأحزاب اليسارية التوحد في العام 1936 لمواجهة خطر صعود الفاشية في الانتخابات البرلمانية، وقد كان النجاح الساحق لتلك الجبهة الراديكالية مفاجئاً للبرجوازية الفرنسية التي لم تتوقع صعود الجبهة الوليدة في حينه. في الوقت نفسه، لم يصدر برنامج انتخابي عن حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف خلال الأسبوع الأول من التحضير للانتخابات، رغم أنه حزب واحد ولا يحتاج للتشاور مع أحزاب أخرى لإعلان برنامجه، ورأى بعض المحللين أنه لا يقوم بحملة انتخابية حقيقية، وردد جوردان بارديللا، رئيس التجمع ومرشحه لرئاسة الوزراء، عدة مرات أن برنامجهم الانتخابي هو نفس برنامجهم السابق، قبل أن يتراجع عن ذلك لاحقاً بعد إعلان البرنامج الانتخابي الذي تأخرأسبوعاً كاملاً في مهلة انتخابية لا تتجاوز العشرين يوماً.
ويميل بعض المحللين إلى القول بأن التجمع الوطني يدير حملته الانتخابية دون أن يستخدم كل ثقله لأنه لا يرغب فعلاً بتحقيق الأغلبية المطلقة في البرلمان، وإنما يطمح إلى دفع إيمانويل ماكرون إلى الاستقالة إن أسفرت الانتخابات عن برلمان معطل.
كان الرئيس الفرنسي أكد بدوره أنه لن يستقيل في حال عدم فوزه بالأغلبية، رغم ادعائه الدائم أن هذه السيناريوهات غير مطروحة أصلاً لأنه واثق من نتيجة الانتخابات وإن كانت استنتاجات جميع المحللين السياسيين في العالم تختلف مع توقعات ماكرون تماماً.
كان توحد اليسار من جهة وتخبط الجناح اليميني من السياسيين الفرنسيين الذي تضمن شبه تفكك للحزب الجمهوري وتبادل الاتهامات بين ماريون مارشال وإيريك زمور، سبباً لتحول سياسة حملة حزب النهضة بقيادة إيمانويل ماكرون، إذ تحولت الحملة إلى استراتيجية من التخويف، تخويف الفرنسيين من الفوضى، من ألعاب أولمبية دون خطة أمنية، من وصول فاشيين أو معادين للسامية إلى السلطة، وحتى من تلويح بحرب أهلية وأعمال عنف بعد الانتخابات، ومن تخويف من شخص بارديللا وشخص ميلانشون، مع الفارق أن بارديللا مرشح اليمين الرسمي لرئاسة الوزراء في حال حصدهم الأغلبية، فيما لم تتفق الجبهة الشعبية على مرشح ورفضت طرح اسم قبل صدور نتائج الانتخابات والتوصل إلى مرشح بالتوافق وبحسب نسبة التمثيل التي يحصدها كل حزب في الجبهة. ومن الملفت عموماً أن لا حزب مشارك في الانتخابات خصص لبرنامجه الانتخابي وسياساته بقدر ما خصص لمهاجمة خصومه وادعاء أن برنامجهم الانتخابي سيؤدي إلى كارثة وطنية كبرى وإلى انهيار اقتصادي.
مع انتقال المرشحين إلى الجولة الثانية من الانتخابات، اتفق مرشحو الجبهة الشعبية على التنازل عن معظم الدوائر التي نجحوا بها في المرتبة الثالثة لصالح مرشحي الماكرونية في قائمة "معاً" التي تمثل أحزاباً متحالفة مع حركة "النهضة"، مقابل قيامهم بالمثل، ورغم أن الاتفاق لم يتم في كل الدوائر الانتخابية، ورغم كل الانتقادات، حصلت المفاجأة مع لحظة إعلان النتائج، وحصد التحالف اليساري ممثلاً في الجبهة الشعبية أغلبية أصوات الفرنسيين، وبذلك كان اليسار الفرنسي على قدر التحدي التاريخي الذي فرضته المناسبة، وتعالى عن خلافته التي كانت تبدو غير قابلة للتفاوض.
بعد ساعات قليلة من إعلان النتائج، تحدث غابرييل أتال، رئيس الوزراء الفرنسي المنتمي إلى حركة النهضة الماكرونية قائلاً: "لم أختر حل البرلمان، لكنني قررت متابعة جهودي في حملة انتخابية"، ثم قدم استقالته من منصبه مخلصاً بذلك للتقاليد الجمهورية وأشار إلى ضرورة إعادة نظر سياسية شاملة وبناء سياسة وسطية جديدة، رغم نجاح حملته الانتخابية نسبة للتوقعات، فقد حقق حزبه مالم يتوقعه أحد، بحلول قائمته في المركز الثاني متقدماً على حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف. وأوضح مدير مركز إبسوس للإحصاء أن معنى نتائج الانتخابات أن اليمين الفرنسي ما زال يثير قلق الفرنسيين.
بعد صدور النتائج، علق زعماء من الجبهة الشعبية، كرافاييل غلوكسمان الاشتراكي، ومارين تاندوليه من الخضر على ضرورة الحوار والتوافق من أجل التوصل إلى مرشح لرئاسة الوزراء من اليسار، بينما بدا خطاب جان لوك ميلانشون زعيم فرنسا الأبية وأوليفيه فور رئيس الحزب الاشتراكي الأول بعد الفوز أكثر تصلباً.
يتفق معظم المحللين على أن مسألتين أساسيتين حكمتا نتائج التصويت، الأولى هي حجم المشاركة التاريخي، وقيام كثير من المصوتين بالإدلاء بأصواتهم لمواجهة اليمين المتطرف حتى وإن كان ذلك يعني تصويتهم لأحزاب من معسكر يختلف عن معسكرهم السياسي، والضغط الشعبي الذي دفع أحزاب اليسار إلى الاتحاد بسرعة، ولعل أجمل ما قيل في التعليق على ما جرى في الانتخابات هو قول معلق سياسي: "عندما كان الرئيس الفرنسي غير مسؤول، أثبت الشعب الفرنسي أنه على قدر المسؤولية".
لا تعني نتائج الانتخابات بحال من الأحوال أن الاستعصاء السياسي في فرنسا قد وجد طريقاً إلى الحل، فالبرلمان المشكل ليس فيه أغلبية مطلقة لحزب، والأغلبية النسبية اليسارية تعني أن رئيس الوزراء القادم سيقترح بالتوافق من قبل أحزاب اليسار إن نجحوا في الاتفاق على مرشح، مما سيؤدي إلى ما يسمى بالتعايش في قصر الإيليزيه، إذ يخالف برنامج رئيس الوزراء فكر وتوجهات رئيس الجمهورية، وتبقى الكتلة البرلمانية المعارضة التي حصلها اليمين المتطرف معطلة لكثير من القرارات.
أي أن اتخاذ القرارات في البرلمان سيتطلب الكثير من الحوارات والتوافقات لتمرير أي قرار رغم أن الأغلبية النسبية اليسارية ستطرح مشاريع برنامجها الانتخابي وعلى رأسها بحسب تصريح ماتيلد بانو الاعتراف بدولة فلسطين إلا أن ذلك لا يعني بحال من الأحوال مرور هذه القرارات دون موافقة غالبية البرلمان وقبول الوسط بالتحالف مع اليسار.
لا تعني نتائج الانتخابات بحال من الأحوال أن الاستعصاء السياسي في فرنسا قد وجد طريقاً إلى الحل، فالبرلمان المشكل ليس فيه أغلبية مطلقة لحزب، والأغلبية النسبية اليسارية تعني أن رئيس الوزراء القادم سيقترح بالتوافق من قبل أحزاب اليسار إن نجحوا في الاتفاق على مرشح.
إن كانت نتائج الانتخابات البرلمانية تدل على شيء فإنها تدل بالدرجة الأولى على أن اليسار الفرنسي خسر الكثير بتشتته وتفرقه في السنوات الماضية، وأنه ربما لو تقدم إلى الانتخابات الأوروبية الماضية بقائمة واحدة بدل القوائم المتعددة التي واجهتها قائمة واحدة للتجمع الوطني لما استطاع التجمع الوطني أصلاً حصد أغلبية الأصوات.
تبقى الخشية الحقيقية أن يكون الائتلاف اليساري هشاً وأن لا ينجو من تحدي اختيار رئيس الوزراء الجديد. بالمقابل، لا يبدو أن إيمانويل ماكرون ربح رهانه بحل البرلمان، لكنه بالمقابل لم يحصد الكارثة التي توقعتها معظم التحليلات، وهو مدين بلا شك للشعب الفرنسي الذي جنبه مواجهة نتيجة حل البرلمان المتسرع.
عانى الأجانب والمهاجرون في فرنسا من قلق واضح خلال الفترة الماضية وجاءت نتائج الانتخابات لتطمئن وتهدئ روع اللاجئين والمهاجرين، لكن ربح جولة الانتخابات جزئياً ليس إلا بداية رحلة طويلة من النضال من أجل العدالة والمساواة، لا سيما في ظل أن خسارة اليمين المتطرف الساحقة تمثلت بربحه ضعف عدد مقاعده السابق.
دستورياً، لا يحق للرئيس الفرنسي حل البرلمان أكثر من مرة خلال عام واحد، وبذلك سيبقى الانقسام الفرنسي والاستقطاب سيد موقف على الأقل عاماً كاملاً، وسيكون الاستعصاء السياسي سيد الموقف حتى الانتخابات الرئاسية القادمة.
أما الشعب الفرنسي فبإمكانه الاطمئنان إلى أنه فعل أقصى ما يستطيع على مر السنوات السابقة لمنع وصول اليمين المتطرف إلى الحكم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه