منذ حرب الولايات المتحدة على العراق، وفي أغلب التجمعات والمظاهرات المناهضة للحرب، أو السياسات النيوليبرالية المتوحشة، أو قضايا الحريات والمناخ حول العالم، لا تغيب راية العلم الفلسطيني، التي تعاني أطول احتلال في العصر الحديث، والتي قد يجد فيها هؤلاء الذين يحلمون بعالم أفضل خال من الهيمنة المتوحشة، عالم أكثر عدالة، رمزاً لهم.
على العكس، بحسب ملاحظة الباحث الأسترالي المناهض للصهيونية أنتوني لوينشتاين، غالباً ما يرفرف العلم الإسرائيلي في تجمعات وتظاهرات اليمين المتطرف حول العالم في أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا، وبعضها مجموعة يمينية ونازية تقليدية، أي أنهم يحتقرون اليهود، ولكنهم في الوقت ذاته يبدون إعجاباً عميقاً بإسرائيل، لأنهم معجبون بالتركيبة القومية العرقية هناك، خاصة بعد أن صادق الكنيست الإسرائيلي عام 2018، على قانون يجعل إسرائيل دولة قومية فقط لليهود.
الصهيوني الأبيض
يريد اليمين المتطرف العالمي في الغرب، الشيء نفسه، لخلق واقع لقومية عرقية مسيحية في دولهم، ويرون أن إسرائيل تقدم لهم مثالاً فريداً، فإذا كانت قد استطاعت فعل ذلك فهم أيضاً سيستطيعون.
يبدي ريتشارد سبنسر، زعيم اليمين البديل في أمريكا، المتطرف والمحسوب على النازية الجديدة، رغم كرهه كمتطرف يميني تقليدي لليهود، إعجاباً مفرطاً بإسرائيل. في عام 2018، صرّح: "اليهود، مرة أخرى، في الطليعة، ويعيدون التفكير في السياسة والسيادة من أجل المستقبل، ويظهرون طريقاً إلى الأمام للأوروبيين".. وقد أطلق سبنسر على نفسه اسم "الصهيوني الأبيض".
في أغلب التجمعات والمظاهرات المناهضة للحرب، أو السياسات النيوليبرالية المتوحشة، أو قضايا الحريات والمناخ حول العالم، لا تغيب راية العلم الفلسطيني، وعلى العكس، غالباً ما يرفرف العلم الإسرائيلي في تجمعات اليمين المتطرف حول العالم
ليس الأمر صدفة، ويقف وراءه مركز أبحاث يميني شهير في إسرائيل، ممول من مليارديرات في الولايات المتحدة، وهو "منتدى كوهيليت للسياسات"، والذي يرى مؤرخ الهولوكوست الإسرائيلي دانيال بلاتمان، أنه يمثل تهديداً لاستمرار إسرائيل أكبر مما يمثله حزب الليكود المحافظ الذي أوصل ببنيامين نتنياهو وعصابته كأرييل شارون إلى السلطة منذ عام 1996، ليكون نتنياهو هو أكثر من تولى منصب رئاسة الوزراء في إسرائيل.
فإذا كانت إسرائيل دولة عنصرية بحكم نشأتها، فإن ورقة التوت الديمقراطية الأخيرة لم يعد لها أي جدوى، بعد أن أصبحت عنصريتها تجاه الشعب الفلسطيني مؤيَّدة من قبل القانون والدستور الإسرائيلي، وكان "منتدى كوهيليت" على سبيل المثال وراء تمرير القانون الأساسي لدولة الاحتلال الذي أقره الكنيست عام 2018 بأن إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي فقط.
من وراء الكواليس
المنتدى يعد أول مركز فكري سياسي على النمط الأميركي في إسرائيل، ويعمل فيه 160 باحثاً، يتعاملون مع السياسيين أصحاب التفكير المماثل من خلال الأبحاث ومشاريع القوانين والدعوات لحضور المؤتمرات.
صاغ المنتدى المحافظ دينياً بعض التغييرات القانونية الأكثر إثارة للجدل في إسرائيل في السنوات الأخيرة، بينما ظل بعيداً عن عيون الجمهور، لكن دوره من وراء الكواليس في قانون الإصلاح القضائي عرضه للتدقيق، وسلّط الضوء على تأثيره الضخم على السياسة الإسرائيلية، وهو قانون يقلل من سلطة المحكمة العليا في إسرائيل لصالح تمرير قوانين حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة.
كان "منتدى كوهيليت" وراء تمرير القانون الأساسي لدولة الاحتلال الذي أقره الكنيست عام 2018 بأن إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي فقط.
مؤسس المنتدى هو الأميركي الإسرائيلي موشيه كوبيل، الذي حصل على بكالوريوس الرياضيات وعلوم الحاسوب من جامعة "يشيفا" اليهودية الأرثوذكسية في نيويورك، ونال درجة الدكتوراه من جامعة نيويورك، وهو باحث في التلمود، وانتقل من نيويورك إلى إسرائيل في عام 1980، ويعيش الآن في مستوطنة "إفرات"، جنوب القدس بالضفة الغربية.
وانضم كوبيل إلى هيئة التدريس في قسم علوم الحاسوب بجامعة "بار إيلان"، ثم دخل عالم السياسة عام 2004، مُنضماً إلى اللجنة المركزية لحزب الليكود الذي يرأسه نتنياهو. ومنذ ذلك الحين بدأ كوبل يُظهِر طموحاته وتوجهاته السياسية اليمينية، ويتحدث عن أهمية صياغة دستور يُكرِّس الهوية القومية اليهودية لدولة الاحتلال، وتقليص وصاية القضاء على السياسة الإسرائيلية.
أسس كوبيل المنتدى عام 2012 بسبب شعوره بـ "القلق" بشأن "الحرية في إسرائيل"، كما قال في مقابلة في مارس الماضي، والتي انتقد فيها "إرث إسرائيل من الاقتصاد الاشتراكي".
ولطالما تجنب كوبيل الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بممولي المنتدى، إذ لا يلزم القانون الإسرائيلي أو الأميركي الكشف عن التبرعات من المنظمات الخيرية الأميركية، ولكن "واشنطن بوست" قالت إن أحد المتبرعين للمنتدى هو الملياردير الأميركي آرثر دانتشيك، أحد مؤسسي شركة "سَسكويهانَّا" الدولية للتداول، ويحتل المرتبة 104 في قائمة مجلة "فوربس" لأغنى الأشخاص في الولايات المتحدة، بثروة تبلغ 7.5 مليار دولار.
وكان تحقيق أجرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في عام 2021 أكد أن الشريك التجاري لدانتشيك وهو المتبرع الضخم للحزب الجمهوري الأميركي جيف ياس، قد شارك أيضاً في التبرع بعشرات الملايين من الدولارات للمنتدى.
عالم يخلو من الوصاية القضائية والدستورية
طوَّر المركز بفضل جهود 160 باحثاً يعملون في مقره الرئيس الكائن في حي "جفعات شاؤول" بالقدس المحتلة، ذاك المقر الذي قرَّب المنتدى جغرافيًّا من الكنيست الإسرائيلي والمحكمة العليا معاً، وهي مؤسسات صُنْع القرار التي يعمل المنتدى من أجل التأثير فيها وتغيير موازين القوى بينها لخدمة معتقدات اليمين المتطرف، وإعادة صياغة أيديولوجية يهودية صهيونية محافظة في قالب أميركي تحرُّري ممزوج بتصورات اقتصادية محافظة.
تستند نظرة منتدى كوهيليت للعالم إلى القومية والسوق الحرة وتعزيز الهيمنة الشعبوية المستندة إلى الانتخابات دون وصاية قضائية ودستورية، وهو مزيج يُشبه أفكار أقصى اليمين في الولايات المتحدة، الذي حمل ترامب إلى السلطة عام 2016. ويظهر ذلك بوضوح فيما كُتِب على موقع المنتدى الرسمي على الإنترنت: "يسعى منتدى كوهيليت للسياسة إلى تأمين مستقبل إسرائيل بوصفها دولة قومية للشعب اليهودي، وتعزيز الديمقراطية التمثيلية، وتوسيع الحرية الفردية ومبادئ السوق الحرة في إسرائيل".
ولم يكن الأمر مجرد شعارات رفعها كوهيليت، إذ إن المنتدى الذي عمل بوصفه وكالة أكثر منه مركز أبحاث استطاع بالفعل تحقيق الإنجاز تلو الآخر في التغلغل داخل صفوف اليمين المتطرف، حتى بات يُشار إليه بالبنان باعتباره أحد معاقل التأثير الواضحة على الحكومة الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل.
جاهزون لليمين المتطرف
رغم أن المجتمع الإسرائيلي جاهز لاستقبال حكومات متطرفة، كحكومة بنيامين نتنياهو، لم يكن اليمين المتطرف من قبل هو المركز الأقوى في قلب السياسات الإسرائيلية، وهو ما يحدث الآن، وأصحبت الأفكار النازية والإبادة التي كانت تطرح على استحياء، أو من قبل متطرفين خارج الحكومة، تقال بشكل اعتيادي كتصريحات حكومية على ألسنة وزراء عنصريين بالتعريف في الحكومة الإسرائيلية، مثل بن غفير وزير الأمن القومي وغيره من أعضاء الحكومة، وبشكل لا مثيل له حتى في أكثر حكومات اليمين في العالم.
تستند نظرة منتدى كوهيليت للعالم إلى القومية والسوق الحرة وتعزيز الهيمنة الشعبوية المستندة إلى الانتخابات، ودون وصاية قضائية ودستورية، وهو مزيج يُشبه أفكار أقصى اليمين في الولايات المتحدة
ليس من الغريب أن يكون نموذج إسرائيل هو حلم اليمين في أوروبا وأمريكا الذي يحلم ببلاد عرقية مقصورة فقط على الأبيض المسيحي، فاشية ليست على النمط القديم، كأيام موسوليني، فلن نرى القمصان الزرق أو الجيش في الشوارع، بل ستأتي بشكل آخر أكثر بريقا وجاذبية، رأسمالية حرة وجميلة للرجل الأبيض، أما بقية القوميات والأعراق "الأدنى" من وجهة النظر تلك، فمستبعدة تماماً من أية حقوق أو حريات، وهو ما نجحت إسرائيل في تحقيقه، باستبعادها للفلسطينيين، الذين يعيشون طوال الوقت في حالة من الاستباحة، أو الاستثناء من الحقوق والحريات، كما وصفها المفكر الإيطالي جورجيو أغامبين.
في كتابه: "الفاشية المتأخرة: العرق والرأسمالية وسياسات الأزمة" يقول الباحث والأكاديمي الإيطالي ألبرتو توسكانو إنه إذا كانت الفاشية بالتعريف هي إستراتيجية سياسية واقتصادية هدفها الحفاظ على النظام الرأسمالي وحمايته من خلال العنف والسيطرة واستغلال الخلافات الاجتماعية والاقتصادية. الموجودة في المجتمع كي تخلق شعوراً زائفاً بالوحدة من خلال الترويج لأيدولوجيات قومية قائمة بالأساس على العنصرية وكره واحتقار الآخر واستباحته، مما يعطيها الحق في أن تتوسع عن طريق العنف والحق في تدمير كل هو خارج عرقها؛ لأنه بالنسبة لها في مرتبة أدنى أو أقل.
بحسب توسكانو أشكال الفاشية في زماننا المعاصر تتغير، لكنها ما زالت تستند لنفس المبادئ الأساسية للفاشية. وصعود اليمين المتطرف في العشرين عاماً الأخيرة، ليس بعيداً عن مبادئ فاشية موسوليني، من ناحية تعزيز فكرة الهوية النقية، وأن الآخر ليس إلا تهديداً وجودياً ينبغي تدميره أو طرده أو إبادته.
بفضل سياسات الاحتلال على مدار عقود، والتي عززها مركز أبحاث كوهيلييت الذي يعتمد عليه الكنيست في إصدار قوانينه، ويربط نفسه باليمين في الكونغرس الأمريكي، صارت إسرائيل مصدر إلهام رئيسي على مستوى العالم، للديكتاتوريات والديمقراطيات اليمينية.
ولا أدَل على ذلك من تصريح إليوت إبرامز، واحد من المحافظين الجدد والمهندس الرئيسي للحرب على الإرهاب في عهد جورج بوش الإبن وترامب، حين قال في مؤتمر للمحافظين في القدس في مايو 2022 :
"إن دور إسرائيل أن تكون النموذج"، وحث العالم على "أن يحذو حذو الدولة اليهودية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 18 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...