يحاول الشاب يحيى منصور (30 عاماً) من مدينة غزة، ضبط نفسيته بصعوبة، منذ أن أقلع عن التدخين مجبراً قبل 4 أشهر، بسبب الارتفاع الكبير في أسعار السجائر وندرة توفرها داخل القطاع منذ اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة في أكتوبر/ تشرين أول الماضي.
اعتاد يحيى التدخين منذ بداية دراسته الجامعية. "الإقلاع عن التدخين في مثل هذه الظروف جعل مني إنساناً آخر وزاد من القلق والتوتر والعصبية لديّ"، يقول لرصيف22.
ويبدو أن المشاهد القاسية التي يتعرض لها المرء في الحرب، بحسب رأي يحيى، ستبدو أكثر قسوة وأشد وطأة على الحالة النفسية عند المدخن المحروم من السجائر.
وهو حرمان يتسبب فيه الاحتلال الإسرائيلي في منعه لدخول السجائر عبر شاحنات المساعدات، ويستغله التجار الذين يتحكمون بأسعار ما يدخل تهريباً إلى القطاع.
وشهدت أسعار السجائر في قطاع غزة ارتفاعاً جنونياً خلال أشهر الحرب، إذ تجاوز سعر العلبة الواحدة 700 دولار، والسيجارة 40 دولاراً. فتسبب سعرها الفلكي في إقلاع عدد كبير من المدخنين. فيما لجأ البعض منهم إلى بدائل في محاولة لتعديل مزاجهم.
ووفق وزارة الصحة الفلسطينية، فإن نسبة المدخنين في فلسطين هي الأعلى في منطقة الشرق الأوسط، إذ بلغت نحو 34 بالمئة عام 2022.
وجاء في مسح أجرته وزارة الصحة في السلطة الفلسطينية، أن 55.1% من الذكور و12.1% من الإناث مدخنون، وأن نحو 40% من المدخنين هم من فئة الشباب، الذين تراوح أعمارهم بين 18و29 عاماً.
يلجأ الغزيون إلى حلول عجيبة جراء الغلاء والحصار، فمنهم من يدخن أوراق الأشجار، ومن التجار من بدأوا ببيع السيجارة بالسنتيمتر، في محاولة لتجاوز الأزمة الاقتصادية والنفسية التي يعاني منها مدخنو غزة.
عصبية زائدة وتجار يبتزون المزاج
"في العادة، حينما أشعر بعصبية أو بسوء في مزاج، أتناول السيجارة وأشعلها. عندها أشعر بالراحة تدريجياً. أما اليوم، فصار التجار يبتزون مزاجنا ويحرموننا الدخان"، يقول الستيني حسن المدهون من شمال قطاع غزة لرصيف22.
يدخن حسن منذ نحو 40 عاماً. وقبل الحرب كان يدخن في الأقل 30 سيجارة من نوع "رويال" يومياً.
ويوضح أن جسده اعتاد هذا الكم من النيكوتين على نحو يومي، وغيابه المفاجئ يؤثر على مزاجه وحالته النفسية بصورة كبيرة.
بعد غياب السجائر المستوردة من السوق مع بدء الحرب الإسرائيلية، لجأ حسن الذي عمل طوال فترة حياته حداداً، إلى الدخان العربي المزروع محلياً في أراضي قطاع غزة.
لكنه سرعان ما صار وجوده نادراً. فأجبر على الإقلاع عن التدخين بشكل نهائي.
تعيش ريما سامي (26 عاماً) تجربة مشابهة. فتؤكد لرصيف22 بأن "الحرب قاسية جداً لكن غياب الدخان و"معسل النرجيلة" يزيد من قسوتها".
وتردف: "مررنا بأيام صعبة واضطررنا للنزوح ليلاً تحت القصف والنار وفقدنا أقارب وأصدقاء. كل ما يحتاجه الشخص المدخن في مثل هذه لحظات سيجارة تساعده على تجاوز الحالة النفسية السيئة".
اعتادت ريما السجائر من نوع "مالبورو" والنرجيلة في المقاهي على شاطئ بحر غزة قبل الحرب. ثم جربت مرغمةً أنواعاً أخرى مثل "رويال" و"كاريلا" و"الكينج" وغيرها. لكن هذه الأصناف لم تمض أسابيع حتى صار سعرها جنونياً في السوق.
مررنا بأيام صعبة واضطررنا للنزوح ليلاً تحت القصف والنار وفقدنا أقارب وأصدقاء. كل ما يحتاجه الشخص المدخن في مثل هذه لحظات سيجارة تساعده على تجاوز الحالة النفسية السيئة
لماذا ارتفعت الأسعار؟
"ارتفعت أسعار الدخان و"المعسل" في قطاع غزة بشكل أساسي بسبب منع الاحتلال دخولها بشكل رسمي منذ بداية الحرب المتواصلة منذ 9 أشهر"، يقول ربحي المصري (48 عاماً)، وهو تاجر يمتلك متجراً لبيع السجائر ومستلزمات "النرجيلة" في شمال قطاع غزة منذ نحو 15 عاماً.
ويوضح أن مخزون القطاع من السجائر بدأ بالنفاد منذ أسابيع الحرب الأولى، وبدأت الأسعار بالارتفاع. "لم يعتد التجار سابقاً إغلاق المعابر بهذه الصورة، ولم تعش غزة حصاراً مشدداً كهذا من قبل"، يقول المصري.
ومع سماح الاحتلال بإدخال المساعدات، وبعض أصناف المواد الغذائية إلى القطاع عبر معبر رفح المصري، شرع بعض أصحاب الشاحنات بتهريب السجائر إلى داخل قطاع غزة، بحسب قوله.
وهو ما أدى إلى توفرها بشكل جزئي مع استمرار ارتفاع الأسعار بشكل جنوني.
يضيف المصري: "وصلت الأسعار ذروتها مع تلويح الاحتلال بقرب بدء عملية عسكرية بمدينة رفح والشروع بالسيطرة على معبرها، المنفذ الوحيد للقطاع مع العالم".
وفي رده على اتهام التجار بابتزاز المدخنين وبيعهم السجائر بأسعار عالية، يقول: "يعتمد السوق على العرض والطلب والكمية التي تدخل عبر المهربين قليلة جداً وتتركز بأيدي أشخاص معينين، وهم من يتحكمون بالسوق في كل أنحاء القطاع".
وكان متوسط سعر علبة السجائر الواحدة في قطاع غزة قبل الحرب على غزة 18 شيكلاً (ما يعادل 5 دولارات تقريباً). وكانت أكثر الأنواع انتشاراً "كاريلا" و"تايم" و"رويال" و" مالبورو" و"الكينج"، حسبما يقول المصري.
وفي بيان قال المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن "سلعة الدخان لم تدخل إلى قطاع غزة بكميات تجارية منذ السابع من أكتوبر 2023 حتى اليوم، حيث أن الاحتلال الإسرائيلي يمارس الضغط على المواطنين بشكل مقصود ومتعمّد"، مبيناً أن تم "توريد قبل ذلك ثلاث شاحنات إلى معبر كرم أبو سالم غير أن الاحتلال أرجعها ومنع إدخالها إلى قطاع غزة".
اختراع البدائل
قرر يوسف عكاشة (27 عاماً) من مخيم جباليا في منطقة الشمال، اللجوء إلى بدائل عن السجائر. فاستعمل الشاي المجفف وقام بلفه داخل أوراق بيضاء صغيرة.
"من الصعب على شخص اعتاد التدخين لثماني سنوات أن يتركه فجأة مجبراً. لذلك، قررت اللجوء إلى بدائل أخرى غير مكلفة مادياً. فالحالة الاقتصادية التي أعاني منها، ككل سكان القطاع، لا تسمح أبداً بشراء السيجارة بثمن أعلى من سعرها الطبيعي، والذي لم يكن يتجاوز الشيكل الواحد (أي ربع دولار تقريباً)".
غالبية السكان في قطاع غزة باتوا اليوم يعتمدون على أوراق الأشجار وأن أشخاصاً نادرون قادرون على شراء السيجارة الواحدة
فكّر يوسف بالإقلاع عن تدخين الطرق البديلة أيضاً. لكن الظروف القاسية التي عاشها هو وعائلته، والنزوح المتكرر حال دون تنفيذ هذا القرار، كما يقول.
أما هاني عبد الكريم من مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، فقد لجأ إلى أوراق شجر الجوافة بعد تجفيفه كبديل عن الدخان.
ويشير إلى أن غالبية السكان في قطاع غزة باتوا اليوم يعتمدون على أوراق الأشجار وأن أشخاصاً نادرون قادرون على شراء السيجارة الواحدة من الدخان المستورد.
"تجربتي في تدخين ورق الشجر سيئة جداً وتترك آثاراً صحية سلبية على صحتي الجسدية، سيما صدري الذي صرت أشعر أحياناً بضيق فيه، عدا عن السعال الذي بات يلازمني طوال النهار والليل"، يقول يوسف.
سيجارة بالسنتيمتر
منذ بدء ارتفاع أسعار الدخان في غزة، والذي تزامن مع تردي الحالة الاقتصادية، بدأ مدخنو غزة بالتفريغ عن أزمتهم بالكتابة. فانطلقت مناشدات بالضغط على الاحتلال من أجل السماح بإدخال التبغ للقطاع.
كتب أبو أحمد الشنطي عبر صفحته الشخصية على موقع فيسبوك: "إلى أصحاب الجلالة وأصحاب السعادة والسمو والأصدقاء، المسؤولين عن إرسال المساعدات بالطائرات، بدل المعلبات والشغلات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ياريت إرسال علب دخان وسجائر للشعب عبر الطائرات ولكل قطاع غزة من شماله لجنوبه.
والشعب بدعيلكم. هو موت وقلة كيف".
أما إبراهيم أبو توهة فكتب في صفحته: "علبة سجائر رويال 20 سيجارة، بكم السعر فى غزة؟ والله بدون مبالغة 720 دولار، يا عجبي".
تفاعل رواد منصات التواصل أيضاً مع إعلان بعض أصحاب البسطات في قطاع غزة البدء ببيع السيجارة بالسنتمتر بعد تقسيمها لعدة أجزاء. إذ يشتري المدخنون هذه الكمية "الضئيلة" ثم يقومون بإعادة لفها من جديد لتصبح سيجارة صغيرة كاملة. "علها تنجح في تعديل المزاج ولو بشكل محدود".
محمود العطار كان من المتفاعلين مع الخبر، فنشر صورة لافتة على "فيسبوك" وعلق: "حسب اللافتة الموجودة في الصورة، بدأوا في بيع سجائر كريلا بالسنتيمتر في غزة، يمكنك شراء أقل من سيجارة بعد أن يقطعها البائع".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 16 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...