عرف التاريخ المُدن المقسّمة، وعرف أيضاً أن المدن لا يمكن أن تكون مُقسّمةً إلى الأبد. برلين كانت نموذجاً صارخاً على التقسيم، ولكنها توحدت في النهاية، واليوم لدينا مدينة مُقسّمة أخرى، لكنها كما يبدو لا تشغل اهتمام العالم، ولا تثير غضبه؛ هي نيقوسيا التي تجمدت زمنياً منذ ما يقرب من نصف قرن، وأصبحت رمزاً للصراع السياسي طويل الأمد في قبرص الجزيرة التي هي أصغر من أن تكون لها عاصمتان، ولكنها قُسّمت بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين، وبين من يؤيدهما، أي تركيا واليونان.
قال لي أحد القبارصة الأتراك: "الكثير من الناس في العالم لا يعرفون قصتنا. هذه هي طريقتنا في قول ما نريد"، وأشار إلى لوحة تحمل كلمة "peace"، يمكن رؤيتها قبل خطوات من نقطة العبور بين قبرص اليونانية وقبرص التركية في نيقوسيا.
ربما تشهد العلاقات بين تركيا واليونان تحسناً، لكن نيقوسيا تحكي قصةً أخرى، وتوضح مدى التباعد بينهما، وهو ما شاهدته في رحلتي هذه التي قمت فيها بجولة بين نصفي الجزيرة التي مزّقها الصراع.
قصة التقسيم
بدأت رحلتي من نيقوسيا اليونانية. حتى قبل وصولي إلى المعبر أو نقطة التفتيش شعرت بأن الأمور هادئة برغم بعض التوتر. سمعتُ أصواتَ طائرةِ هليكوبتر تحلق في الأجواء، وكما يبدو، لم تلفت انتباه القبارصة الذين لم يعيروها اهتماماً، وكأنهم اعتادوا عليها. في منطقة أخرى، رأيت قوات الأمم المتحدة وجنودها ذوي القبعات الزرقاء.
قال لي أحد القبارصة الأتراك: "الكثير من الناس في العالم لا يعرفون قصتنا. هذه هي طريقتنا في قول ما نريد"، وأشار إلى لوحة تحمل كلمة "peace"، يمكن رؤيتها قبل خطوات من نقطة العبور بين قبرص اليونانية وقبرص التركية في نيقوسيا
هذا التوتر النسبي ليس معتاداً في مدن أخرى في قبرص، مثل لارنكا وليماسول التي شعرت فيهما بهدوء فريد واستقرار إلى درجة شككتني في أن ثمة شيئاً يحدث في نيقوسيا التي تقع على نحو 48.5 كم من لارنكا، و88 كم من ليماسول.
قصة التقسيم معروفة للقبارصة، ويحكونها بحزن للزوار. سألت "سافاس"، الرجل الخمسيني وهو صاحب مقهى في لارنكا، فقال: "قصتنا طويلة، الأمور مستقرة، لكنها معرضة للاشتعال في أي لحظة".
القصة تعود إلي يوم 30 كانون الأول/ديسمبر 1963 (بعد 3 أعوام من استقلال قبرص عن الحكم البريطاني)، حينما أخذ الجنرال البريطاني بيتر يونغ، قلماً أخضر ورسم خطاً على خريطة نيقوسيا، من أحد أطراف أسوار المدينة القديمة إلى الطرف الآخر. كان هدفه حينها وقف القتال بين الطائفتين الذي خلّف في شهر واحد فقط أكثر من مئة قتيل في الشوارع القديمة في نيقوسيا.
بعد الغزو التركي لقبرص صيف عام 1974، امتدّت هذه المنطقة لتعبر الجزيرة بأكملها، ويصبح طولها نحو 180 كيلومتراً. وفي الفترة ما بين 5 و20 آب/أغسطس 1974، نفّذت القوات التركية الجزء الثاني من عمليتها، واحتلت الجزء الشمالي من الجزيرة، وذلك وفق ما وصفوه في حينه بأنه ردّ على الانقلاب اليوناني الذي كان يهدف إلى الإطاحة بالرئيس الأسقف مكاريوس، آنذاك وتوحيد الجزيرة مع اليونان.
لاحقاً أصبح ذاك الخط الأخضر الرفيع الذي رسمه الجنرال البريطاني منطقةً عازلةً مؤقتةً لا يزيد عرضها عن عشرة أمتار، وأصبح الحدود التي قسمت المدينة بين ليفكوسا (كما يسميها القبارصة)، أي بين قبرص التركية في الشمال، وقبرص اليونانية في الجنوب.
التقسيم خلّف جرحاً لدى القبارصة، حيث اضطر 180 ألف شخص منهم، أي ثلث السكان القبارصة اليونانيين في الشمال، إلى مغادرة منازلهم في كيرينيا وفاماغوستا وغيرهما من المناطق المحتلة والذهاب إلى الجزء الجنوبي. وفي الوقت نفسه، انتقل نحو 40 ألف قبرصي تركي من جنوب الجزيرة، الخاضعة للأيدي اليونانية، إلى الشمال المحتل من قبل الأتراك. وفي النهاية، أدى هذا النزوح المزدوج إلى مقتل أكثر من 4،000 شخص في الاشتباكات، واختفى قسراً 494 قبرصياً تركياً، و1،464 قبرصياً يونانياً، ولن يُعرف مصيرهم لسنوات.
هناك بعض التفاصيل الدقيقة التي قد تفسر الوضع في المدينة المقسمة، منها أن جمهورية قبرص، التي تقع جنوب الخط، هي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي وتعترف بسيادتها الأمم المتحدة وجميع الحكومات الأجنبية باستثناء تركيا، كما أن جمهورية شمال قبرص التركية، التي تشكل فعلياً الثلث الشمالي من الجزيرة، هي دولة بحكم الأمر الواقع تأسست عام 1983، ولا تعترف بوضعها سوى تركيا، ولهذا فإن دخول الجزء التركي لا يتم قانونياً إلا من خلال المعابر التي تقسم الجزيرة، وتعدّ حكومة قبرص اليونانية أن دخول الجزء الشمالي من تركيا غير قانوني.
أصبحت العلاقات بين الجانبين متوترةً منذ التقسيم، حتى انطلق حوار بينهما بشكل منتظم عام 2003، عندما قرر رئيس جمهورية شمال قبرص التركية آنذاك، رؤوف دنكتاش، فتح نقطة حدودية قريبة من قصر ليدرا، مقر قوة الأمم المتحدة.
وعلى مدار السنوات الأخيرة، تم فتح 8 نقاط تفتيش أخرى في جميع أنحاء الجزيرة، واحدة منها في شارع ليدرا، وهو الطريق الرئيس في البلدة القديمة في نيقوسيا، ما سمح للآلاف من القبارصة اليونانيين والأتراك بعبور الخط الفاصل في الجزيرة لأول مرة منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً. وفقاً لدراسة أجرتها مجموعة البحث "الصراع في المدن"، فإن ثلث سكان أي من الجانبين لم يعبروا الحدود أبداً، ومعظم الذين فعلوا ذلك، فعلوا ذلك مرةً أو مرتين فقط.
يصادف صيف عام 2024، مرورَ 50 عاماً على تقسيم قبرص رسمياً، وحتى الآن فشلت جميع جهود المفاوضات الدولية الرامية إلى إعادة توحيد الجزيرة.
المنطقة العازلة
عند وصولي إلى نقطة التفتيش، التقيت الجنود القبارصة اليونانيين، بعيونهم سوداء وبشرتهم الزيتونية، ورأيت اللافتات المكتوبة باليونانية. إجراءات العبور سهلة وسريعة، المطلوب فقط إحضار جواز السفر وسيقومون بمسحِه والاطّلاع على تأشيرة الدخول إلى قبرص اليونانية، وسيقولون: "efkhresto"، وتعني "شكراً" باليونانية.
بعد عبور نقطة التفتيش الأولى، وعلى بعد خطوات، رأيت بوابةً أخرى تحمل علم دولة أخرى، بلغة أخرى هي التركية، والتقيت جنوداً يتحدثون التركية بعيونهم السوداء وشواربهم السميكة وبشرتهم البيضاء، وفوق رأسي رأيت لافتةً كبيرةً مكتوباً عليها بالإنكليزية والتركية: "مرحباً بك في جمهورية شمال قبرص". وفي نقطة العبور التركية، قاموا بإدخال بيانات جواز سفري لديهم، وقالوا لي باللغة التركية: "تمام". خطوات أخرى بعيداً عن البوابة، شعرت بأنني انتقلت في دقائق معدودة بين عالمين. السكان المحليون يسمونها "المنطقة الميتة"، أما أنا فقد شعرت بأنها منطقة صامتة لكنها تحمل قصصاً على الرغم من ذلك.
ما رأيته أنها ليست منطقةً ميتةً على الإطلاق؛ نقطة العبور منطقة حيوية حتى بشكل مبالغ فيه قياساً إلى أنها تمثل نقطة تقسيم صارخةً. المقاهي والمحال والمطاعم وأشجار النخيل والسياح على الجانبين، ضجيج يشير إلى الحياة. ولكن على الرغم من ذلك، فإن تلك الممرات أو الشوارع النابضة بالحياة تنتهي أحياناً بجدران من البراميل وأكياس الرمل، وقد ذكرتني فجأةً بأن الأمور ليست على ما يرام.
الممرات الضيقة دوماً والتي تنتهي بالجدران العالية المحاطة بالأسلاك الشائكة التي تقطع الشوارع الهادئة، ذكرتني بأنني في أكثر المناطق الحدودية عسكرةً في العالم، حيث يسيطر 12 ألف جندي من الحرس الوطني القبرصي اليوناني، يتمركزون في مراكز حراسة قديمة متداعية، على الجزء الجنوبي من الحدود، وأمامهم أكثر من 40 ألف جندي من الفرقة التركية يفعلون الشيء نفسه على الحدود الشمالية.
بعد مسافة صغيرة، ومن أعلى الأبراج، ترى العلم التركي الكبير. وفي مبنى أبيض متواضع جداً، تجلس قوة الأمم المتحدة بهدوء. مكتوب داخل المبنى العالي "UN"، فيما تتألف مهمة قوة الأمم المتحدة لحفظ السلام في قبرص من ألف جندي ينتشرون على طول خط وقف إطلاق النار، ويتم تجديدها كل ستة أشهر منذ عام 1964، وتبلغ تكلفتها السنوية أكثر من 53 مليون يورو، ووصفها الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان عام 2004، بأنها أكبر فشل للأمم المتحدة وفقاً https://unficyp.unmissions.org/about.
بعد عبور نقطة التفتيش واجتيار الشارع الأول الممتلئ بالمحال، يتغير شكل المدينة. رأيتُ الممرات المكسورة والمنازل المدمرة، التي تقع تحت مراقبة الجيشَين بغيرة، كما تشهد بعض لافتات المتاجر التي محت ألوانها أشعة الشمس، على حقيقة أن هذا كان القلب التجاري للمدينة القديمة. شعرت سريعاً بصعوبة في فهم هذه المدينة النابضة بالحياة والحزينة في الوقت ذاته!
أحد المشاهد اللافتة كان العلم الكبير لجمهورية شمال قبرص التركية، الذي يظهر على جبل بنتاداكتيلوس، والذي يمكن رؤيته على نطاق واسع من نيقوسيا، ويضاء بآلاف المصابيح الكهربائية ليلاً، وعلى الحوائط توجد عبارة Ne mutlu Türküm diyene ("كم هو سعيد من يستطيع أن يقول أنا تركي)، وهو اقتباس من مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، وعلى بعد خطوات رأيتُ علامةً مكتوبةً على الجدار: "FTP"، وتعني "fuck Turkish police".
يقبلون الوضع
تحكي المدينة قصة تقسيمها في كل منعطف، إلا أن القبارصة يحكون قصةً أخرى. قال لي المرشد السياحي، وهو قبرصي تركي يقوم بجلب سياح من الجانب اليوناني ويحكي لهم القصة، وكما يبدو هو محايد ولديه تواصل جيد مع الطرفين: "القبارصة ربما تقبّلوا هذا الوضع، ويريدون التعايش والسلام، وبرغم أن الأمور هادئة إلا أن الجميع مستعدّ لإمكانية أن ينقلب الوضع في لحظة".
قصة التقسيم معروفة للقبارصة، ويحكونها بحزن للزوار. سألت "سافاس"، الرجل الخمسيني وهو صاحب مقهى في لارنكا، فقال: "قصتنا طويلة، الأمور مستقرة، لكنها معرضة للاشتعال في أي لحظة"
سألت "محمت"، وهو الاسم التركي لمحمد، وهو عامل في ورشة لتصليح السيارات عن انطباعاته عن التقسيم، وكنت قد توقفت في مقهى بجوار ورشته، فقال إنه قبرصي قبل كل شيء، يتقاسم مع القبارصة اليونانيين الثقافة والتاريخ والعادات، وإنه يشعر بقربه من القبارصة اليونانيين أكثر من الأتراك. أذهلني رأيه. كنت أعتقد قبل لحظات أن "القبارصة الأتراك" يحبون أن يعرّفوا بأنفسهم على أنهم أتراك. هكذا قالت لي اللافتة قبل لحظات. لكني تعلمت حينها ألا أصدق اللافتات.
ذكّرني حديث "محمت"، بـ"توماس"، النادل الذي يعمل في مطعم السمك في "لارنكا" وقد تغيرت ملامحه عندما سألته قبل رحلتي بيومين عن إمكانية زيارة القسم التركي (لم أرد أن أقول له قبرص التركية لأنها تُعدّ بمثابة اعتراف بالدولة التي لا يعترفون بها وربما يستشيط غضباً)، فقال لي بحزن: "يمكنك الذهاب بسهولة، البضائع هناك أرخص، هي مثل السوبر ماركت". سألته إذا كان يذهب إلى هناك: "أشعر بأنني إذا ذهبت إلى هناك فسوف أعترف بدولة مزيفة، واحتلال غير قانوني، وسأساعد أردوغان على إثبات ما يريد. أريد حقاً أن أذهب، لكني لا أحب الشعور بزيارة منزل والدي أو نصف بلدي كسائح". تفهمت موقفه.
لم أشعر من كلا الجانبين بكراهية تجاه الآخر، بل شعرت بالحزن الذي يخيم على الأجواء. هم يقبلون بعضهم كأناس وُلدوا على هذه الجزيرة، لكنهما يريدون شيئاً آخر، وأكثر ما يحزنهم أن مدينتهم قسّمها أناس لم يولدوا في هذا البلد، ولم يعيشوا فيه. فالقبارصة لم يقسموا هذه الجزيرة بأنفسهم.
القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيون متشابهون للغاية من الناحية الوراثية، إن لم يكونوا متماثلين. القبارصة الأتراك من نسل القبارصة الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام لتجنّب دفع الضرائب خلال العهد العثماني في قبرص، وهم لم يرغبوا أبداً في أن يصبحوا مسلمين، ولهذا السبب فإن القبارصة الأتراك غير متدينين بشكل عام، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن أيضاً الإجماع على أنهم جميعاً لا يشعرون بأي هوية تركية.
لكن هذا ليس الحال في الشطر الثاني من الجزيرة، حيث يرى القبارصة اليونانيون أنفسهم يونانيين، ويعدّون أنفسهم أمةً واحدةً تعيش في دولتين ديمقراطيتين مستقلتين. عندما يذهب القبارصة اليونانيون إلى اليونان، يشعرون بأنهم يذهبون إلى الوطن الأم، وعندما يأتي اليونانيون من اليونان إلى قبرص، فإن ذلك يشبه الذهاب إلى جزيرة يونانية. لا أستطيع أن أنسى اللحظة التي سمعت فيها أغنية "athina mou" للمطرب اليوناني قسطنطينوس أرجيروس، في قبرص، وتعني "my Athens"، عندما انفعل القبارصة وقاموا بغنائها بسعادة!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...