لم تكن بَشرة محمود وأطفاله وزوجته من الأمور التي تعيقه في سوريا كما كانت حين قرر الهجرة إلى ألمانيا. محمود 44 عاماً، من سكان بلدة ”الشيخ سعد“ في ريف درعا الغربي، من عائلة سورية تنحدر في أصولها من القارة الأفريقية شأنها شأن معظم سكان البلدة. دخل الأراضي الألمانية عام 2022 هرباً من الأوضاع الأمنية في البلاد مع زوجته وأطفاله الأربعة، وتقدم بطلب للحصول على حق اللجوء كأي لاجئ سوري، لكن بشرته وقفت حاجزاً جديداً أمامه، تحدث عن ذلك وهو لا يخفي تذمّره: "لم يكن المحقق ليقتنع بهويتي السورية، على الرغم من أننا مكثنا ثلاث جلسات في المحكمة، إحداها كانت انفرادية مع زوجتي وأطفالي، بل إنهم أيضاً طلبوا منا تسجيل مقاطع صوتية ليتأكدوا من لهجتنا، ومع ذلك أصروا أننا ننتمي لبلد آخر".
"على الرغم من أننا مكثنا ثلاث جلسات في المحكمة، إحداها كانت انفرادية مع زوجتي وأطفالي، بل إنهم أيضاً طلبوا منا تسجيل مقاطع صوتية ليتأكدوا من لهجتنا، ومع ذلك أصروا أننا ننتمي لبلد آخر". محمود، من سكان بلدة الشيخ سعد في ريف درعا الغربي، تقدم بطلب للحصول على حق اللجوء في ألمانيا
لازال محمود، يتابع قضيته مع محاميه منذ بضعة أشهر، لم يتحصل بعد على رد لقبول لجوئه أو رفضه من قبل مكتب BAMF "المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين" في ولاية Sachsen-Anhalt، رغم أن كل من تقدموا معه في نفس التاريخ تلقوا رد المحكمة بقبول لجوئهم.
يشرح سعيد الحاج علي، محامي محمود ما جرى: "حق اللجوء في ألمانيا هو حق تم إقراره دستورياً. وينطبق على محمود وأطفاله الفارين من سوريا بسبب الحرب والعنف والإرهاب، وهو الحق في الحماية. وقضية محمود ليست الأولى فجميع السوريين ممن يمتلكون بشرة داكنة يقع معهم ما يقع معه حتى يتأكدوا من أوراقه الثبوتية، وهذا يحتاج لكثير من الوقت".
ويتابع: "في السنوات الفائتة انتحل الهوية السورية كثير من اللاجئين من جنسيات مختلفة لينالوا حق الحماية واللجوء وأغلبهم من دول أخرى كالسودان ولبنان والأردن والجزائر والمغرب ودول أخرى آمنة وهو ما يؤثر على هذه الفئة من السوريين ممن لديهم بشرة داكنة وتعود أصولهم إلى القارة الأفريقية".
انتظار دام لعامين
منتهى، 31 عاماً، من بلدة الغزلانية جنوب دمشق، هي الأخرى وصلت ألمانيا عبر البحر من الشواطئ الليبية عام 2019، ورثت منتهى بشرتها الداكنة، وملامح وجهها من أجدادها المهاجرين من إفريقيا قبل سنوات بعيدة، ما يجعل بعض من ينظرون إليها يفترضون أنها من السودان، ولكن لهجتها سورية مئة في المئة وكذلك لباسها وثقافتها، إلا أن هذا لم يكن سبباً كافياً للسلطات الألمانية كي تمنحها حق اللجوء بسهولة.
في السنوات الفائتة انتحل الهوية السورية كثير من اللاجئين من جنسيات مختلفة لينالوا حق الحماية واللجوء وأغلبهم من دول أخرى كالسودان والأردن والجزائر والمغرب ودول أخرى آمنة وهو ما يؤثر على هذه الفئة من السوريين ممن لديهم بشرة داكنة وتعود أصولهم إلى القارة الإفريقية". المحامي سعيد الحاج علي
تقول منتهى: "هويتي وجواز سفري سقطا في البحر، لكنني حصلت على إخراج قيد من ناحية بلدة الغزلانية، ابتسم القاضي لي في المحكمة وقال لي أنت إفريقية، لا تخافي لن يتم ترحيلك، لكن لا تقولي أنك سورية، أخبرته أني سورية ولهجتي وثقافتي تقولان ذلك لكنه لم يقتنع!".
تتبابع المحامية هادية رحمة قضية منتهى وتؤكد أن: "الأمور ليست بتلك الصعوبة لكن إقناع القاضي يتطلب وقتاً، فالغزلانية فيها قسم كبير من الأفارقة السوريين ذوي البشرة السوداء، وهناك إجراء آخر قد نتبعه بأن نعتمد شهوداً من أشخاص سوريين حسني السيرة والسلوك ممن حصلوا على الجنسية الألمانية ليشهدوا أمام الجهات هنا بأن منتهى سورية الجنسية وستكون الأمور بخير رغم مرور قرابة عامين على تقديم منتهى طلب اللجوء دون نتيجة".
ليس في ألمانيا فقط
روى مجموعة من الشبان وهم، أحمد.م، عزت. ك، سحيمان. ك و جرّاح. ك، ما تعرضوا له من تمييز واضح على طريق الهجرة بسبب لون بشرتهم، قدِم أحمد وعزت وسحيمان وجرّاح من بلدة "مساكن جلين"، وهي بلدة من أعمال ريف درعا الغربي وغالبيتها المطلقة من الأفارقة السوريين.
قال سحيمان: "في العام الفائت نَقَلنا أحد المهربين إلى الأراضي اليونانية لكن تم إلقاء القبض علينا واحتجازنا لمدة 24 ساعة في سجن "أبو شبك، وهو مركز احتجاز مؤقت في الأراضي اليونانية في الهواء الطلق مكشوف من السقف، في صباح اليوم التالي قام حرس الحدود بالسماح لجميع اللاجئين ممن يحملون الجنسية السورية بدخول الأراضي اليونانية، وما عدا ذلك من جنسيات أخرى يتم قذقه إلى الأراضي التركية، لقد تم قذفي مع أحمد وعزت وجرّاح حين لم يقتنعوا أننا سوريون، رفضوا حتى نقاشنا، حكموا علينا من لون بشرتنا".
يضيف عزت: "لم ينته الأمر هنا، كانت الجندرما التركية تنتظرنا، قاموا باحتجازنا لثلاثة أيام وهددنا بالترحيل، تم ترحيل سوريين إلى شمال سوريا أما نحن فقد قاموا بضربنا لنعترف من أي بلد أفريقي جئنا ليتم ترحيلنا إليه لولا أن أحدهم تعاطف معنا وطلب لنا مترجماً فأوضح لهم أننا سوريون من جنوب سوريا، ثم أجروا اتصالاتهم وطلبوا من كل منا على انفراد بأن نحدد موقع بلدتنا على تطبيق الخرائط، وبعدها قاموا بترحيلنا إلى شمال سوريا".
انتحال الهوية السورية
منذ العام 2015 بات المهاجرون من جنسيات مختلفة وهم حوالي ثلث طالبي اللجوء إلى ألمانيا ينتحلون الجنسية السورية، وتقديرات الحكومة الألمانية هذه اعتمدت على المسؤولين المتواجدين على الأرض وخصوصاً الشرطة الفدرالية. ولم يزل اليوم كثير من اللاجئين من جنسيات مختلفة ينتحلون الجنسية السورية لأشخاص هاربين من الحروب المشتعلة والأوضاع الاقتصادية المتردية لبلدانهم.
تروي المحامية هادية رحمة أنه قد تم توكيلها قبل عام من قبل شخص يمتلك بشرة سوداء ادعى أنه سوري، تقول: "قدّم لي الشاب البالغ من العمر 23 عاماً إخراح قيد يثبت أنه سوري من دمشق، أنا سورية وسكنت في دمشق لأكثر من عشر سنوات وأعلم أنه يوجد سوريون في دمشق من أصول أفريقية في حي مساكن برزة مثلاً وفي أحياء النازحين واللاجئين الفلسطينين جنوب دمشق، لكن لم تكن اللهجة لتثبت أنه سوري، فهي قريبة للهجات المغاربية، وحين رفضت المرافعة عنه اعترف لي أنه تمكن من الحصول على أوراق ثبوتية مزورة عن طريق بعض الأصدقاء من سوريا بدفع رشوة ليتحصل على ذلك".
"قدّم لي شاب إخراح قيد يثبت أنه سوري من دمشق، لكن لم تكن لهجته سورية، وحين رفضت المرافعة عنه اعترف لي أنه تمكن من الحصول على أوراق ثبوتية مزورة عن طريق بعض الأصدقاء من سوريا بدفع رشوة". المحامية هادية رحمة.
وتضيف رحمة: "لم يعد الأمر ينطلي بشكل كبير على السلطات الفدرالية في ألمانيا لكن لايزال كثر من أولئك الأشخاص يتحصلون على الحماية بشكل أو بآخر بانتحالهم صفة السوري، فبعضهم ماهر يستيطع إجادة اللهجة السورية ومع بعض الأوراق المزورة وقليل من المعرفة بجغرافيا المنطقة يتحصل على الإقامة".
من هم أفارقة درعا؟
في ريف درعا الغربي وجنوب دمشق توجد اليوم أصغر مجموعة إفريقية عربية ممن يطلق عليهم اسم "السوريين الأفارقة"، وهم مجموعات من أصول إفريقية، أكثر انتشارها في درعا في بلدات جلين والشيخ سعد وفي عدوان وتسيل واليادودة وفي قرية أبو حارتين، والتي تعرف باسم قرية 'السودي' نسبة للون الأسود الأفريقي الطاغي على سكانها، وكذلك في سفوح الجولان، وفي جنوب دمشق هناك تواجد لهم في بلدات الغزلانية والذيابية ومخيمات النازحين الذين نزحوا بعد عامي 1948و1967 بفعل الحروب العربية الإسرائيلية. حيث يقيم العديد من الفلسطينيين من أصل إفريقي في مخيمات اللاجئين في سوريا.
ليست هناك فترة زمنية واحدة أو مكان جغرافي واحد يمكن الإشارة إليه بالإصبع عن مكان وزمان هؤلاء لدخولهم الأراضي السورية، لكن قسماً من المتواجدين اليوم في ريف درعا الغربي (منطقة حوض اليرموك) وجنوب دمشق بشكل عام هم بقايا القادمين مع الفتح الإسلامي لبلاد الشام.
فهناك خليط من الأصول المختلفة للسوريين من أصل إفريقي وكذلك خليط زمني، إذ يروي الكاتب والباحث في درعا "مشعل العدوي" أن أغلبهم قدموا مع الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان كعبيد لحاشيته. واستقر قسم منهم جنوب دمشق كونها مناطق زراعية.
أما أغلبهم اليوم يرجعون للفترة التي رغب فيها محمد علي باشا في ممتلكات السلطنة العثمانية بالشام فأرسل قواته، عام 1833، بقيادة إبراهيم باشا والي مصر العثماني فضم ولاية الشام بمعناها الكبير "سوريا ولبنان وفلسطين والأردن" والذي وجد أن منطقة حوران، وهي سهل جنوب سوريا الحالية، كان يمتد من جبل الشيخ شمالاً حتى جبال عجلون جنوباً ومن جبال الخليل غرباً حتى جبل العرب شرقاً وكذلك يشمل غور الأردن، وهي مناطق خصبة ودافئة ومثمرة، فأراد استغلال مواردها التي كانت تفتقر إليها مصر، لكن عدم رغبة العمال والفلاحين من أهالي الشام في العمل بها دفعه لاستقدام الرقيق الأفارقة من الحبشة وكذلك العمال من أعالي النيل وبعض مناطق السودان، وخلق مستعمرات زراعية فيها واستصلح الأراضي لتلك الغاية، فكان لهؤلاء الذين اعتادوا العيش في مناطق مشابهة لمناطقهم الزراعية د كبير في إنعاش السهل.
ولكن بعد انسحاب إبراهيم باشا من بلاد الشام والاكتفاء بولاية مصر عام 1840 توقف المشروع الزراعي في حوران وبقي العمال الأفارقة والأرقاء يعملون في الأراضي وصاروا الآن ملاكاً ومواطنين. لهذا يعتقد أبو يونس، البالغ من العمر 63 عاماً، وهو مواطن من عشيرة ”المناظرة“ في ريف درعا الغربي أن عائلته تعود في أصولها إلى مصر، يقول أبو يونس: "كان جدي يقول أن أجدادنا قدموا من مصر مثلنا مثل عائلات حورانية عريقة الآن كعائلة المصري مثلاً".
اليوم لا يعيش سوى قلة قليلة منهم في أجزاء أخرى من سوريا. فخارج درعا وجودهم غير معروف تقريباً.
وهناك أفارقة سوريون أيضاً من سيراليون، حيث يروي ”جمال ميداني“ من سكان مدينة دمشق أن أفارقة سوريين متواجدين في دمشق يمكثون في مناطق مثل مساكن برزة ومنطقة تل منين وهم عبارة عن: "عمال أفارقة قدموا من سيراليون في منتصف القرن الماضي لكن بعد الاضطرابات السياسية في بلادهم استقروا في سوريا وتحصلوا على الإقامة السورية، وهم يعيشيون كأي مواطن سوري، والمحجبات منهن يرتدين التوربان، ومنهم مسيحيون، ويوجد في دمشق قرابة 400 عائلة منهم». حسب قوله.
الاندماج الثقافي
من غير المرجح أن السوريين السود لم يتعرضوا على الأقل لبعض العنصرية والتمييز. لكن من غير المنصف القول أنهم حرموا من حقوقهم كمواطنين سوريين، فقد تحصلوا على الجنسية السورية شأنهم شأن أي سوري، ودرسوا في الجامعات وقسم كبير منهم موظفون في مؤسسات الدولة الرسمية. وأغلبهم حتى اليوم في ريف درعا الغربي يعملون في الزراعة. حيث أن جميع الأفارقة في سوريا انتهى بهم الأمر بالاندماج الكامل، لغوياً وثقافياً مع السوريين المحليين بعد منحهم الجنسية السورية.
لم يتعرض أفارقة (درعا تحديداً) لتميبز عنصري واضح، بل العكس فقد تم التزاوج بينهم بطريقة ملفتة، الأمر الذي خلق بينهم رابطة مألوفة من الود والتعاون، على خلاف ما هو عليه الحال في دمشق. إذ كتب المؤرخ السوري سامي مروان مبيض، في مقاله "الشيء بالشيء يذكر" أن: "بعض الناس (في دمشق) تعاملوا معهم بحذر وخوف، وخوف الدمشقيين من الغرباء مشروع نتيجة تاريخهم الطويل المليء بالدسائس والفتن. فرفضوا الزواج منهم ولم يشجعوا على انصهارهم في المجتمع ووصل
كتب المؤرخ السوري سامي مروان مبيض، في مقاله "الشيء بالشيء يذكر": "بعض الناس (في دمشق) تعاملوا معهم بحذر وخوف، وخوف الدمشقيين من الغرباء مشروع نتيجة تاريخهم الطويل المليء بالدسائس والفتن. فلم يشجعوا على انصهارهم في المجتمع ووصل الأمر لدى البعض إلى إطلاق عبارات عنصرية ضدهم".
الأمر لدى البعض إلى إطلاق عبارات عنصرية ضدهم مثل "عبد أسود" و"حارة العبيد." ولكن المؤسسات الدينية لم تُفرق يوماً بينهم وبين بقية الناس، لأن ذلك مُحرم لدى الإسلام والمسيحيين معاً. ولأن المجتمع الدمشقي مجتمع محافظ بغالبيته وللدين حضور قوي جداً في مفاصله وجِدت بيئة حاضنة لهؤلاء الأفارقة استمرت لسنوات".
واليوم وبعد أحداث الجنوب الدامية عام 2011 عانى الأفارقة في درعا أكثر مما عانى غيرهم، فقد وقع الريف الغربي لدرعا كله تقريباً تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (2014 _ 2018) فاضطر كثير منهم ليحمي نفسه وعائلته بالتطوع إما في صفوف الفصيل أو يتبع للقوات الحكومية ليقاتل إلى جانبها، الأمر الذي جعلهم عرضة للتخوين وللقتال من قبل جميع الأطراف المتصارعة، فكان الإعلام الحربي لكلا طرفي الصراع يروج لمناصريه أنه يقاتل أجانب من جنسيات مختلفة، فالقوات الحكومية تطلق على من تقوم بتحييده أو أسره من ذوي البشرة السوداء وصف (مرتزق أفريقي) وكذلك الفصائل المعارضة تدعي أنها تقاتل (مرتزقة من أفغانستان). كما أن قسماً كبير من تلك العائلات التي فضّلت الوقوف على الحياد، وهي كثيرة جداً، احتمت بالعشائر السورية الأكثر قوة، فراحت تشارك تلك العشائر مناسباتها وأعلنت كثير من تلك العائلات أنها تنتمي لها لتجد من يحميها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...