يرتبط القرن العشرون بالعديد من الحروب القومية التي كان من أبرز في الشرق الأوسط سلسلة الحروب العربية الإسرائيلية أعوام 1948 و1956 و1967 و1973 و1982، والتي دار فيها الصراع تحت عنوان "عربي ضد إسرائيلي" أو "عربي ضد يهودي" على اعتبار أن اليهودية قومية قبل أن تكون ديناً مثلما شاع في بعض هذه الفترات.
والحرب القومية هي مصطلح جديد نسبياً يشير إلى "الحرب على أساس الهوية والجنسية واللغة"، وفقاً لتعريف القومية في الموسوعة البريطانية، وهي حروب تختلف عن طبيعة الحروب القديمة التي قامت على أساس الدين والعشيرة غالباً، حتى أضيف عامل الجنسية حديثاً بعد ظهور الدولة الحديثة. فالعرب مارسوا هذا النوع من الاحتراب على أسس مشتركة تجمع اللغة والجنسية والثقافة وأحياناً الدين، مثلما كانت حروب العرب ضد اليهود، إضافة إلى أحداث الثورة العربية الكبرى (1916- 1918) ضد الاحتلال التركي العثماني باعتبار الخلافة العثمانية آنذاك ممثلة عن القومية الطورانية.
ومن أبرز الحروب القومية أيضاً الحرب العراقية الإيرانية (1980- 1989) التي كان فيها الصراع "عربي ضد فارسي"، والتي نتج عنها إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية سنة 1981 للتصدي للطموح الإيراني الفارسي في هذا التوقيت، وفقاً لثقافة وعناوين هذا العصر، إضافة إلى مجازر الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين ضد أكراد العراق في ثمانينيات القرن الماضي.
حدث ذلك على اعتبار أن القومية العربية/ العروبة هي أبرز عناوين الشرق الأوسط التي بدأت بأفكار وطنية ودعاوى وحدة سورية لبنانية في مطلع القرن 19 لما سماه المؤرخ جورج أنطونيوس (1891- 1942) في كتابه "يقظة العرب" (صـ 149 و155) التنديد بالحُكم التركي واغتصاب الخلافة من العرب، ثم الشعور الوطني المستقل عن تركيا بإعلان باي تونس سنة 1857 عن الميثاق الأساسي لما أصبح في ما بعد أول دستور عربي حديث، وما واكبه لاحقاً من تطور مجلس النواب في تونس، وأتبعه أول مجلس نواب مصري 1866 وفقاً لما أشار إليه عبدالكريم الغرايبة في كتابه "تاريخ العرب الحديث" (صـ 29).
وقد جرى تعريف هذه القومية العربية سنة 1935 على يد فريق الجوالة العربي العراقي ضمن نشرته المعروفة بالمنهج العربي الموحد على أنها "عقيدة مستمدة من العرب تهدف لتحرير الأمة العربية من النفوذ الأجنبي تحريراً كاملاً بشتى مناحيه وصوره وأشكاله، وهي تهدف لإنشاء كيان عربي موحد على أسس من سيادة الأمة على نفسها ومصالحها"، نقلاً عن كتاب "الحركة القومية العربية في القرن العشرين"، لهاني الهندي، (صـ 181).
ثم تطور هذا الطموح وتلك المشاعر المستقلة لجهود فكرية نخبوية من شتى الاتجاهات العلمانية والدينية للتنظير لصالح الوحدة العربية على أيدي العديد من المفكرين ساطع الحصري (1880- 1968) وميشيل عفلق (1910- 1989)، وغيرهم، وعلى أيدي جماعة الإخوان المسلمين كما في المؤتمر الخامس للجماعة سنة 1938 على لسان حسن البنا بقوله عن القومية العربية: "الإخوان المسلمون يعتبرون العروبة كما عرفها النبي محمد في ما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل 'ألا إن العربية اللسان… ألا إن العربية اللسان'".
العرب مارسوا الاحتراب على أسس مشتركة تجمع اللغة والجنسية والثقافة وأحياناً الدين. كيف تغيّرت دوافعهم إلى الحروب من القومية العربية إلى الدين وصولاً إلى الطائفة؟
ومن هنا كانت وحدة العرب أمراً لا بد منه لإعادة مجد الإسلام وإقامة دولته، تعزيز سلطانه، ومن هنا كان على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها"، وفق مؤلَّف "الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ"، لمجموعة من المؤلفين.
والمقصود من كلام البنا إيمان الإخوان المسلمين كأشهر دعاة الخلافة والحكم الإسلامي بالقومية العربية، والاتحاد على أساس عشائري ولغوي، واعتبار أن ذلك من صميم العمل الإسلامي، ويدل أيضاً على أن السياق العربي الثقافي آنذاك كان متحمساً للقومية العربية، بمن فيهم التيار الديني الذي لم يرَ القومية العربية شكلاً من أشكال الخروج عن الإسلام مثلما ظهر في عصر لاحق كما يُبين هذا التقرير.
ثم تجلّى ذلك أخيراً بإنشاء مجلس جامعة الدول العربية سنة 1945 لتكون بديلاً معقولاً للوحدة بعد انهيار الخلافة العثمانية عام 1924 حتّى توالت نشاطات هذا الشعور القومي العربي ليتمخض باتحاد عربي ثنائي بين "مصر وسوريا" عُرف آنذاك بالجمهورية العربية المتحدة وظل ثلاث سنوات، من 1958 حتى 1961.
مما سبق، تتضح سيطرة المشهد القومي على القرنين 19 و20 وأن الإنسان العربي كان يفكر بطريقة قومية وطنية هي الأساس في ذلك الاحتراب الإقليمي.
بوادر ضعف القومية العربية
أدى انشقاق العرب إلى كيانات وتحالفات مختلفة إلى انعدام الثقة في القومية العربية، وبيان ضعف أهدافها وصياغاتها العامة التي تقول إن العرب شعب واحد وأمة واحدة تسعى للاستقلال عن النفوذ الأجنبي، لكن عملياً انشقوا منذ ظهور حلف بغداد عام 1955 وحرب اليمن عام 1962 وفشل العديد من تجارب الوحدة أبرزها الحلف المصري السوري المعروف بالجمهورية العربية المتحدة (1958- 1961) والحلف الثلاثي بين مصر وسوريا والعراق عام 1963 والذي انهار بعد 100 يوم.
كذلك أدى فشل مجلس التعاون العربي عام 1989، وما أعقبه من غزو العراق للكويت في آب/ أغسطس عام 1990 ثم قيام حرب عاصفة الصحراء المعروفة بتحرير الكويت في كانون الثاني/ يناير 1991، إلى ضرب رصاصة الرحمة على المشروع القومي العربي.
ويُلخص الأكاديمي المعني بالهويات القومية والدينية، عقيل عباس، هذه الأزمات في وضع تعريف خاطئ للأمن القومي العربي منذ البداية على أنه حركة تحرر ضد الاستعمار والرغبة في الوحدة على هذا الأساس فيقول: "كان هذا التعريف للأمن القومي العربي حافلاً بالأخطاء الفادحة في فهم الذات والعالم، أحد هذه الأخطاء هو اتخاذ هذا التعريف طابعاً شبيهاً بالنسخة القديمة للأمن القومي كمفهوم كلاسيكي منذ نشوء الدولة الحديثة، الاستعداد العسكري للدفاع عن البلد والانقضاض على خصومه الخارجيين، عنى هذا عملياً تأجيل الأسئلة المهمة عربياً المتعلقة بالتنمية والحكم الرشيد والحريات وبناء دول رصينة تخدم مواطنيها بدلاً من التغول عليهم كما يحصل في معظم دول العالم العربي".
نقطة التحول
بعد هزيمة السابع من حزيران/ يونيو عام 1967 واحتلال إسرائيل عدة مناطق في ثلاث دول عربية، هي سيناء من مصر والجولان من سوريا، علاوة على الضفة الغربية والقدس، حدث تحول طارئ أصاب الوعي الجمعي العربي بالصدمة. فكانت تأثيرات ذلك التحول سلبية على مشاعر الوحدة ومنجزاتها، خصوصاً بعد فشل تجربة الجمهورية العربية المتحدة، وانشقاق العرب أحلافاً منحازة في الحرب الباردة أو مستقلة عنها.
نتج عن ذلك أن صعدت إلى السطح عدة تيارات إسلامية من باب سد الفراغ وصناعة البديل من جانب، ومن جانب آخر الاستثمار في الشعور الديني العام وتوظيفه لمكافحة الاستعمار، والذي هو أوسع وأشمل من الشعور القومي وأضمن نتيجة وفقاً لتصورات ذلك العصر. فجرى التبشير بالصحوة الإسلامية التي كتب عنها أبي الحسن الندوي في محاضرته عن ترشيد الصحوة عام 1988 وشرحها يوسف القرضاوي بعد ذلك في بضعة كتب صدرت في تسعينيات القرن الماضي والألفية الجديدة هي: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، والصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، والصحوة الاسلامية و هموم الوطن العربي و الاسلامي، ثم تداولتها النخبة العربية والإسلامية على نطاق واسع لكونها البديل الآمن والناجح المنتظر عقب فشل التجربة القومية.
انشق العرب بناءً على ذلك أحلافاً راسخة ضد بعض منها ما هو متحالف كلياً مع الغرب الليبرالي، والأخرى تتحالف مع الشرق الاشتراكي، والبعض يُبقي على آماله في عودة السوفيات للمنافسة من جديد، وبناء على ذلك الوضع تغيّرت ملامح العروبة لتصبح أكثر روتينية وشعاراتية بدلاً من كونها طاقة تحرر وإنتاج مثلما كانت عليه في بداياتها
اللافت أن التيارات الدينية التي مدحت القومية العربية في الماضي انقلبت عليها بعد "النكسة"، واستبدل خطاب الوحدة العربية بالإسلامية بالتوازي مع ذمّ القومية واعتبارها عنصراً جاهلياً أو حكماً من أحكام الجاهلية، وحسب ما ينقل موقع الشيخ ابن باز: "الزعم بأن الإسلام (ثورة عربية) أكذوبة كبرى وأضلولة شائنة، هذا القول ليس تكذيباً للإسلام فقط، بل دعوة خطيرة إلى تكذيب الديانات كلها، وإلى إشاعة الكفر والفسوق والعصيان في أنحاء الأرض"،
علاوة على ذلك، ينسب الموقع للشيخ قوله إن "الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من القوميات، دعوة باطلة وخطأ عظيم، ومنكر ظاهر، وجاهلية وكيد سافر للإسلام وأهله" إذ "تفرق بين المسلمين، وتفصل المسلم العجمي عن أخيه العربي، وتفرق بين العرب أنفسهم". وقد سُئِلَ عنها الشيخ ابن باز فقال: "هذه دعوة جاهلية، لا يجوز الانتساب إليها، ولا تشجيع القائمين بها، بل يجب القضاء عليها، لأن الشريعة الإسلامية جاءت بمحاربتها والتنفير منها، وتفنيد شبههم ومزاعمهم والرد عليها بما يوضح الحقيقة لطالبها".
وفي محاولة لتدارك الأمر وإيجاد الصلة بين القومية العربية والدين بعد تكفيرها، كتب الأستاذ والمفكر حسن نافعة: "تبين لنا بوضوح أن الحركة القومية العربية نشأت من أجل تحقيق مصالح عربية، وليس لمناهضة الدين أو إسقاط الخلافة".
ويقول لرصيف22 الأستاذ الباحث والكاتب أحمد سعد زايد إن التحول من الحروب القومية إلى حروب على أساس ديني بدأ منذ تصاعد المد الديني والصحوة الإسلامية، مما جعل الناس تفكر بشكل مختلف مستفيدين من خلافات البعثيين والشيوعيين والناصريين، ثم تحوّلت الخلافات إلى طوائف سواء إسلامية ومسيحية، أو شيعة وسنة، أو حتى داخل الطائفة نفسها كما بين الإخوان والسلفيين. وبرأيه: "الحروب تتأثر بالوعي الجمعي مما يخلق دافعاً لدى الناس بأن تحب وتكره أو تتحالف وتقتل، حيث يكون الدافع الديني مسيطراً".
شكوك في التحول وأصالة الحرب الدينية
لكن هناك رأياً آخر يقول إن الحرب القومية التي سادت في القرنين 19 و20 حدثت بالتوازي مع حروب دينية عربية أخرى، فلا يمكن وصف ما وقع في هذين القرنين بالحروب القومية في المطلق. فالمعروف أن الثورة المهدية ( 1881- 1899) في السودان قامت على أساس ديني، بناء على عقيدة المهدي المنتظر في التراثين السني والشيعي، وكذلك الحروب السنوسية في هذا العصر لزعيمها محمد المهدي السنوسي (1844 - 1902) والتي قال فيها الشيخ محمد رشيد رضا: "طريقة السنوسية مهمة جداً من حيث انتشارها السياسي في أفريقيا ومن حيث الكفاح القائم بين الديانتين الإسلامية والمسيحية في هذه القارة، ومن الأمور التي لا ريب ولا خلاف فيها أنه إذا جاء يوم أمر فيه بالجهاد وإثارة الحرب الدينية اهتزت لصوته أركان العالم الإسلامي التي تترامى حدوده في أفريقيا إلى مصر شرقاً" (مجلة المنار 3/ 207).
"هناك عوامل تشعل تلك الحروب الدينية سواء داخلياً أو خارجياً، منها أن التنظيمات تحاول أن تستفيد من تلك الأحداث للعب في مساحة ما، وأن هذه الظاهرة لن تزول سوى بتغيير الثقافة والفكر، وأنه ما دمنا نفكر بعقلية القرون الوسطى والأسلوب الطائفي".
ومما علمه رشيد رضا وعايشه من فتن هذا العصر الدينية، حدث أن اشتعلت فتنة طائفية بالإسكندرية في أعقاب الحرب بين دول الحلفاء والدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، فقال: "حدث في الإسكندرية أن بعض رعاع اليونانيين أطلق الرصاص على آخر فأصاب رجلاً مسلماً فانتصر للمسلم بعض العامة، ولليوناني من حضر من قومه، فانتشرت الفتنة وظن بعض الغوغاء من أحداث المسلمين أن ما يتحدث به الناس من الحرب الدينية قد وقع. فتألّبوا وكثر جمعهم وصاروا يصيحون في الشوارع: الحرب الدينية، ويضربون من يلقون من اليونانيين وغيرهم، فجُرِح خلق كثير وعجز رجال الشحنة عن فل الجموع وحفظ الأمن. فأمر محافظ الإسكندرية بأن يُجاء بمطافئ الحريق فيرش منها الماء في المحشر ففرق الماء تلك الجموع" (مجلة المنار 8/ 792).
وفي تصريح لرصيف22، رداً على دعوات الحرب الدينية وأحداثها في التاريخ، يقول الشيخ طارق نصر كبير الباحثين في الأزهر: "الحروب عموماً تعتمد على الدين بالحق أو الباطل لما له من تأثير على النفوس، والدين الحق لا يلجأ أصحابه للحرب إلا اضطراراً، وجميع آيات القتال المتشابهة ينبغي أن تُرَد إلى الآية المحكمة (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) ولم يقاتل نبى قط ليدخل الناس في دينه وإنما قاتلوا ليدخلوا الناس فى السلم (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافةً) ومن الأسباب الرئيسية للحروب الفهم الخاطئ للدين مثل الزعم بأن آية السيف نسخت آيات الموادعة".
بدوره، يضيف زايد أن "هناك عوامل تشعل تلك الحروب الدينية سواء داخلياً أو خارجياً، منها أن التنظيمات تحاول أن تستفيد من تلك الأحداث للعب في مساحة ما، وأن هذه الظاهرة لن تزول سوى بتغيير الثقافة والفكر، وأنه ما دمنا نفكر بعقلية القرون الوسطى والأسلوب الطائفي، فلن يؤدي ذلك إلى تغيير وسيبقى الوضع على ما هو عليه، فلا بد من حدوث ثورة ثقافية وتعليمية وتغير في الوعي يؤدي إلى التحسن للأفضل".
هل نشهد حروباً دينية معاصرة؟
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي نهاية عام 1991، ونهاية الحرب العراقية الإيرانية عام 1988، وتفكك يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا
انشق العرب بناءً على ذلك أحلافاً راسخة ضد بعض منها ما هو متحالف كلياً مع الغرب الليبرالي، والأخرى تتحالف مع الشرق الاشتراكي، والبعض يُبقي على آماله في عودة السوفيات للمنافسة من جديد، وبناء على ذلك الوضع تغيّرت ملامح العروبة لتصبح أكثر روتينية وشعاراتية بدلاً من كونها طاقة تحرر وإنتاج مثلما كانت عليه في بداياتها.
خدم هذا الانشقاق رؤى الأصوليين المتشددين في الإسلام الذين ظهرت أولى ردات أفعالهم بانتقال السلفية الجهادية من المحلية إلى العالمية، والتي بدأت بسجن الشيخ عمر عبدالرحمن بتهمة تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 1993، ثم ظهور تنظيم القاعدة في تسعينيات القرن الماضي، ليصبح عدواً لدوداً للغرب، حتّى تنفيذ هجمات 11 أيلول/ سبتمبر الإرهابية عام 2001. عمّق ذلك أزمة القومية العربية وأعطاها رصاصة الرحمة لتتحوّل المجتمعات الإسلامية إلى التفكير بشكل أساسي بطريقة دينية لمقاومة الاستعمار الغربي.
ولأن الطريقة الدينية في التفكير السياسي لا تخلو من أخطار، فقد تحوّلت أنظار الأصوليين المسلمين إلى الاحتراب الطائفي بين السنة والشيعة منذ عام 2006 والتي عُرفت بالحرب الأهلية العراقية الطائفية على مدار ثلاثة أعوام، ثم تعاظمت أحداث هذه الحرب الطائفية في الثورة السورية التي بدأت عام 2011 واستحالت حرباً أهلية لم تنته حتى اليوم، مع صدامات طائفية دينية بين العرب تقريباً في كل بلد عربي حيث تكررت عمليات القتل على أساس طائفي عبر تفجيرات تستهدف حتّى دور عبادة الطائفة/ الطوائف الأخرى، وصار الاستقطاب العربي الديني عظيماً لدرجة لم يعد أحد في مقدوره مناقشته أو حله بطريقة دبلوماسية.
عن ذلك، يضيف الشيخ نصر: "أما الحروب بين السنة والشيعة، فمعلوم أن الدولة حين آلت للإمام على، قاتله البُغاة، وكان لزاماً عليه أن يردهم لقوله تعالى 'فقاتلوا التي تبغي' أما الحروب التى نشأت بعده فلا علاقة لها بالدين وإن تمسّحت به، ونقول للسنة والشيعة في عصرنا لو تأدّبتم بما أدّب الله به المؤمنين تجاه الكافرين ما كان هذا حالنا. فقد قال تعالى 'وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون' فكيف تحولت اصفح عنهم إلى اذبح منهم!".
انشقاق على أساس الدين
بعدما انتهى العرب إلى وضعية حالية أشبه بالانشقاق الديني، حيث أدت الحروب في سوريا والعراق إلى اعتبار كلتا الدولتين منفصلتين عن الجسد العربي، إضافة إلى لبنان، وأنها تميل إلى المحور الشيعي الذي تقوده إيران، وفق تصريحات الملك عبدالله الثاني عاهل الأردن عام 2005 عن الهلال الشيعي وبات الحديث عن هذا الهلال الطائفي محور عمل أكاديميين وكتاب رأوه علامة بارزة لتحالفات العصر.
الصراع في العالم العربي الحديث كان في جوهره وثقافته طابعاً قومياً قبل "نكسة" عام 1967 قبل أن يتحوّل إلى طابع ديني إسلاموي عقب هذا التاريخ لعوامل متعددة، منها فشل مشاريع الوحدة العربية، والفشل في القضاء على إسرائيل أو هزيمتها وإخراجها من المناطق العربية التي احتلتها إبّان ذلك التاريخ على أقل تقدير، حتّى استقر منذ بداية تسعينيات القرن العشرين على طابع ديني بحت وطائفي لتحقيق ما عجز عنه العروبيون
ويقول الكاتب والباحث السعودي عبد العزيز الجار الله، في مقال نُشر في "العربية"، إن هذا المحور إيراني وليس شيعياً، وإن السعودية تصدّت له بعمليات درع الجزيرة العربية في البحرين 2011، وفي اليمن عام 2015 بعد تدخل التحالف العربي الذي تقوده السعودية بإعادة الشرعية.
وفي دفاع الملك عبدالله الثاني عن نفسه، في معرض توضيح تصريحاته عن الهلال الشيعي، صرّح: "قال البعض إنني أتخذ موقفاً ضد الشيعة، وكل من يعلم حقيقة العلاقة التي تربط بين آل البيت والشيعة، يدرك أن كل التفسيرات لموقفنا ولمصطلح الهلال الشيعي كانت غير صحيحة، ويؤسفني سوء تفسير استخدامي لهذا المصطلح، وأود أن أوضح أن موضوع الهلال الشيعي جاء ضمن إطار سياسي، وأنا أؤمن بأن الشيعة لديهم الحق في أن يكونوا عنصراً رئيساً فيما يجري داخل المجتمع العراقي وقد شارك الشيعة بشكل رائع في الانتخابات التي تمت في كانون الثاني، مرة أخرى أؤكد انهم سيكونون طرفاً رئيسياً من نسيج عراق المستقبل".
غير أن استخدام المصطلح، بالمفهوم الطائفي، صار شائعاً، إذ حذر الشيخ القرضاوي من المد الشيعي، و كتب عنه الصحافي الإسرائيلي بن كسبيت في جريدة معاريف، وصرح عنه رئيس جهاز الشاباك الإسرائيلي عام 2017، والعديد من وسائل الإعلام العربية الموالية لأنظمتها، ما يدل على شيوع المصطلح، وأن الافتراق الديني حدث بالفعل، ولم يعد العرب ينظرون لأنفسهم كقومية واحدة بل كأديان ومذاهب.
نخلص من ذلك إلى أن الصراع في العالم العربي الحديث كان في جوهره وثقافته طابعاً قومياً قبل "نكسة" عام 1967 قبل أن يتحوّل إلى طابع ديني إسلاموي عقب هذا التاريخ لعوامل متعددة، منها فشل مشاريع الوحدة العربية، والفشل في القضاء على إسرائيل أو هزيمتها وإخراجها من المناطق العربية التي احتلتها إبّان ذلك التاريخ على أقل تقدير، حتّى استقر منذ بداية تسعينيات القرن العشرين على طابع ديني بحت وطائفي صار عنوان المرحلة لتحقيق ما عجز عنه العروبيون، ما يشير إلى أن لكل حقبة زمنية مفرداتها ومفاهيمها الخاصة التي تنبع من ثقافة شعبها والأحداث السياسية المؤثرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...